حـركـة الـترجـمــة مـن الـعـربـيـة إلــى الـلاتـيـنيـة




أولاً : مقارنة بين المترجمين العرب إلى العربية والغربيين إلى اللاتينية
 مما لاشك فيه أن لأي نقل أو ترجمة ( العلوم وغيرها ) من لغة إلى أخرى سيئات وسلبيات إلى جانب الحسنات لأن تلك العلوم المنقولة  لا تصل إلى اللغة المترجمة إليها كما يضعها أصحابها كاملة غير منقوصة نتيجة لتأثر المترجمين ببعض العوامل أو الضغوط العقائدية واللغوية والأخلاقية . الاّ أن المتتبع لحركة الترجمة يجد تفاوتاً بيناً بين تأثير تلك الضغوط في عصور الترجمة المختلفة عبر مراحل انتقال الحضارات وإذا ما قارنا بين الترجمات العربية للمؤلفات اليونانية وبين الترجمات اللاتينية للمؤلفات العربية نجد فرقاً شاسعاً في تأثير تلك الضغوط على الترجمات بين الاثنين ، نستعرض فيما يلي أوجه التباين هذه من خلال هذه العوامل الأساسية :
أولاً – العوامل الدينية أو العقائدية :
لقد تأثر المترجمون من اليونانية إلى العربية ( سواء المسلمين منهم أو غير المسلمين ) بمذاهبهم الدينية . فكانت تعوز البعض منهم الأمانة في النقل إذا كان الموضوع المنقول يتعارض مع عقيدة المترجم . أما في المسائل الطبية والعلمية التي لا تمس العقيدة فقد جاءت الترجمات خالية من أي عيب أو تحريف .
بينما نجد " المترجمين المسيحيين المتعصبين لشريعتهم الدينية ، ومن يخاف من سخط الكنيسة على من يخرج عن طاعتها وفتاويها ، اسقط من ترجمته الكتاب العربي بعض متونه أو كامل باب من أبوابه التي لا تتفق والشريعة النصرانية ، وهذا ما حصل في كتاب القانون لابن سينا   ( حيث أسقط جيرارد الكريموني منه باب طرق منع الحبل وإسقاط الأجنة إرضاءً لرجال الدين ) ".[1]
ويقول الأستاذ فؤاد سيزكين  :
" إن عملية الأخذ والتمثيل قد تمت لدى اللاتين على غير الصورة التي تمت بها عند العرب ، ذلك أن المسلمين اهتدوا إليها بوساطة الذين اعتنقوا الدين الإسلامي ، وبواسطة مواطنيهم أصحاب المعارف الأجنبية . أما عند اللاتين فكانت على صورة أخرى…. لقد كانوا – أعني اللاتين – مضطرين إلى أخذ المعارف ، وإلى أخذ أنظمة المؤسسات المختلفة ، وإلى أخذ أساليب الجامعات وبرامجها من الأعداء السياسيين والدينيين . لقد كانوا يشعرون بشعور المعاداة والبغضاء تجاه من يأخذون عنهم ، وانعكس ذلك على عملية الأخذ بصورة عقد نفسية وطبيعي بعد هذا أن يفقدوا عنصري الوضوح والصراحة ، وهما العنصران الأصليان في عملية أخذ المسلمين                         عن الآخرين " [2].
إن تأثير سيطرة الكنيسة لم يقتصر على عيوب التحريف والنقيصة في الترجمة من العربية إلى اللاتينية فحسب وإنما كان وراء تأخر النمو الفكري لدى الأوربيين عدة قرون على الرغم من وصول نفائس ونضائر العلم العربي بشكل عام والطبي بشكل خاص نتيجة ترجمات المؤلفات العربية منذ أواخر القرن العاشر الميلادي إلى أوربا .
تعلل ذلك المستشرقة الألمانية سيغريد هونكة فتقول " والسبب في تأخر هذا النمو يعود في حقيقة الأمر إلى الروح المسيطر آنذاك ، وإلى النظرة السائدة للكون والبشر … فكل تفكير خلاق كان يقف حاجزاً أمام طريقة التفكير القاسية التي كانت الكنيسة تدعو لها وتعلم الجيل الانصياع التام لتعاليمها والخضوع لأقوالها بلا قيد أو شرط … لقد كان رجال العلم الأوربيون ومعلميه وأساطينه يتبعون ، بصورة اسمية أو علمية ، رجال الكهنوت ويتقيدون بأوامر الكنيسة ، ما عدا جماعة ساليرنو وجماعة نابلي ، وذلك عكس الأطباء والعلماء العرب الذين كانوا يقفون أحراراً في            الحياة ، غير مقيدين الاّ بقيود الحقيقة والعلم " [3]
ثانياً – الـعـوامـل الأخـلاقـيـة :
ويمكن إدراج هذه العوامل ضمن بندين مهمين هما :
1.   أخلاقيات نـقـد الأسـلاف :
يقول الأستاذ سيزكين عن ذلك " أما عند المسلمين فقد هيأت قضية المعارف الأجنبية منذ بداية الأمر – دون أي اضطراب معنوي ، أو عقدة نفسية ،أو حرج ما – موقفاً واضحاً من أسلافهم ، وتبدو قيمة هذا الموقف العظيم إذا قارناه بموقف اللاتين من أساتذتهم العرب .
وبهذه الظاهرة التي نستطيع أن نسميها بعنصر ( الوضوح ) الذي دخل في تاريخ العلوم يمكننا أن نتحدث عن أثر مهم من آثارها ، وهو أسلوب نقد العلماء العرب للأسلاف بوجه عام ".
" إن المبادئ المعتمدة على الفهم الواضح والسليم لدى العلماء المسلمين للدافع العلمي عند الأسلاف تقوم على عدد من الأسس ، منها أن الخلف مدين للسلف دون أن ينتقص من قدرهم وقوعهم في بعض الزلات أو الهفوات ، وإنه ليس ثمة ما يمنع من الاستدراك على الأسلاف شريطة ألا ينطوي ذلك على الإسراف في التجريح والتضليل .وفي اعتقاد العلماء المسلمين أنه ما من عالم مهما بلغ شأنه معصوم من الخطأ ، منزه من الزلل .
هذه المبادئ أرست لديهم الأسس الأخلاقية للنقد ، وأدت بهم إلى جعل النقد عندهم مفيداً مثمراً . غير أن كثيراً من الباحثين غفل عن هذه الحقيقة ، وأدى سوء فهمه لهذا الواقع إلى اتهام علماء العالم الإسلامي بضعف الروح الانتقادية ووصفهم بالتبعية للقدماء " [4]
كما وأنه كان نتيجة التزام المترجمين العرب بالأسس الأخلاقية السليمة للنقد استخلاص المؤلفين منهم المهم من الكتابات اليونانية ووضعها في قالب واضح تاركين كل ما كان لا لزوم له وللاستدلال على ذلك " تكفي المقابلة بين كتابات جالينوس وكتابات ابن سينا ،فالأول مبهم والثاني في غاية الوضوح ، والترتيب واضح في الثاني ومفقود في الأول " [5].
2.   صفة الانتحال وعدم الأمانة فـي الـنقـل :
" اتخذت عملية أخذ اللاتين من علوم المسلمين صفة الانتحال ، ولقد بين هذا عدد من العلماء المتخصصين في بحوث كثيرة ، إذ أظهروا كيف انتحل علماء لاتين لأنفسهم بحوثاً أخذوها من كتب العلماء العرب والمسلمين ، أو انتحلوا كتباً كاملة إلى لغتهم ، زاعمين أنها من إبداعهم وتأليفهم ، كما أنهم نقلوا كتباً عربية أخرى ، ثم زعموا أنها لمشاهير من الإغريق مثل ارسطو طاليس وجالينوس وروفس وسواهم " [6].
كما وأن كثيراً من التراجمة نسوا وتناسوا أن يذكروا اسم المؤلف الأصلي أو حرفوا اسمه في اللاتينية حتى صار يصعب معرفة الاسم الأصلي .
" وقد يدور في الخاطر سؤال : كيف أمكن أن يغفل المؤرخون عن ذكر أثر العرب في إحياء المرحلة العربية عدداً من القرون ؟ ويبدو لنا الجواب واضحاً في فهم أبعاد روح المعاداة التي سادت في الغرب ضد المسلمين وعلومهم .
وربما تمتد هذه الظاهرة إلى عهد روجر باكون ( 1210 – 1290 م) الذي اقتبس جميع ما نسب إليه من نتائج عملية من الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية .
ولقد ظهر رايموندس لولوس Raymundus  Lullusالذي توفي سنة 1315 م بعد أن بذل حياته وجهده في مقاومة كل شئ عربي ، وألف عدداً كثيراً من كتب الكيمياء ، ثبت أخيراً أن معظم مؤلفاته عربية . وكذلك لا ننسى ما كان ينادي به الكثيرون من إنقاذ العلوم من نير العرب "
ومن الأمثلة على انتحال الكتب والأفكار الطبية العربية (( كتاب ابن نفيس المشهور الذي انتحله مايكل سرفيت Servet  لكن تيار المعاداة هو الذي انتصر ، وساد مستمراً إلى القرن السادس عشر للميلاد في ألمانيا وفرنسة وإيطاليا . ومن الزعماء البارزين في هذا التيار لينهارت فوكس Leonhart  Fuchs  من جامعة توبنكن . ومن الذين يكافحون العرب ، وينتحلون كتبهم باراسيلسوس Paracelsus  الشهير )) [7].
ومن الأمثلة الأخرى على انتحال الكتب العربية ونسبتها إلى أنفسهم التماساً بذلك الشهرة لأنفسهم : 
ما قام به قسطنطين الأفريقي عندما قام ( بالتعاون مع يوحنا فلانيوس ) بترجمة كتاب كامل الصناعة الطبية لعلي بن العباس المجوسي ، وكتاب العشر مقالات في أمراض العين لحنين بن اسحق العبادي ونشرهما باسمه لا باسم مؤلفيهما الحقيقيين . على أن كتاب المجوسي قد ترجم مرة أخرى إلى اللاتينية بعد أربعين سنة باسم مؤلفه الحقيقي ، بقلم اصطيفان البيزي .
ثالثـاً – العـوامـل الفكـريـة واللغـويـة :
مما لاشك فيه بأن لهذه العوامل تأثيراً جوهرياً على عملية الترجمة ودرجة جودتها . ويمكن تلمس ذلك التأثير من خلال
أ‌-     الاستعداد الفكـري :
يؤكد الدكتور محمد كامل حسين على " أن الأمم تفيد من نقل العلوم بقدر ما يسمح به نموها العقلي ونضج التفكير عندها ولم يكن نمو التفكير العلمي بالغاً في الأمم اللاتينية " [8].
فقد كان العلم اللاتيني في أوربا لحظة وصول العرب المسلمين إليها قد أصابه البوار والركود العلمي ، فكان وصول العرب بمثابة عاصفة هزت البنى الثابتة الراقدة ، وبعثت الحياة في ذلك السبات وأحدثت تغيراً نوعياً في اتجاهات الفكر الأوربي ومدت أمامه آفاقاً جديدة على طريق التطور والإبداع .
وإن كانت آثار هذا كله لم تظهر الاّ بعد عدة قرون ، فإن ذلك راجع إلى الحالة الدنيا ، الفكرية والاجتماعية ، التي كان يعيشها هذا المجتمع قبل مقدم المسلمين .
بينما نجد العكس تماما لدى العرب والمسلمين ،فكما قلنا سابقاً لقد كان لهم قبل اطلاعهم على ثقافات الأمم الأخرى علوم خاصة بهم كاللغة والنحو والعروض والفقه وأصول التشريع وعلوم التفسير والحديث ، وقد بلغوا شوطاً كبيراً ووضعوا فيها قواعد مستقرة وشروطاً مفصلة في زمن مبكر وهذا يعني بأن الحضارة العربية لم تكن أرضاً جرداء حتى جاءها العلم اليوناني كما يدعي البعض ، وإنما استعداد العرب الفكري والعلمي جعلهم أهلاً لتقبل وتمثيل العلوم الأخرى كالفلسفة والكيمياء والرياضيات والطب … الخ ، في زمن يعتبر قياسياً في حساب ازدهار الحضارات .
ب‌-      أســاليــب التـرجمــة :
كان لأساليب الترجمة عند المترجمين العرب ركائز ومقومات جعلت الترجمات متصفة بصدق النقل وصحة التعبير وحسن التبويب وإيضاح القصد .
فقد " كان النقلة والمترجمون في العصر العباسي الأول – عصر النقل والترجمة – يجيدون اللغة العربية كما يجيدون بجانبها اللغات التي يترجمون منها وكانوا يعتمدون على الحفظ والحافظة في استخدام الرصيد اللفظي من اللغة الأجنبية التي ينقلون عنها "
" أما في تعريب المصطلحات الأعجمية ، فلم يكونوا بحاجة إلى حفظ ولا حافظة وإنما كانوا يأخذون اللفظة الأجنبية ويعربونها على بنية اللسان العربي " .
" وكان المترجم يتصرف في اختيار اللفظ المترجم وفقاً لفهمه وذوقه وقدرته على إدراك المعنى المراد ، ومقدرته في اللغة العربية ذاتها " [9]
ويمكن تقسيم أساليب الترجمة العربية إلى :
" 1. الترجمة الحرفية : وهي الطريقة التي تقوم – كما يفهم من اسمها – على ترجمة النص الأصلي بصورة حرفية ، وبمعنى أدق كلمة فكلمة .. ولا يخفى على أحد ما لهذه الطريقة من محاذير عديدة أهمها ، تضييع جوهر ذلك الكتاب المراد نقله … إضافة إلى ما يرافق ذلك من انعدام أي ترابط للجمل بعضها بالبعض الآخر ، أو عدم وجود المرادف للكلمة الأصلية المراد ترجمتها إلى العربية ، الأمر الذي يحتم على المترجم في هذه الحالة أن يضع الكلمة الأجنبية كما هي ، مما سبب في مجيء الكثير من المصطلحات غير العربية والتي بقيت قيد الاستعمال حتى وقتنا الحاضر ، مثل كلمات الفلسفة ، الموسيقى ، الإسطرلاب … "[10].
وبخصوص هذا الأسلوب في النقل يذكر الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا " أما الترجمة الحرفية فقد كانت شائعة بين المترجمين السريان عندما كانوا يترجمون من لغة اليونان ، وبين المترجمين اليهود واللاتين في طليطلة عندما كانوا ينقلون من العربية إلى العبرية واللاتينية بعد سقوط طليطلة . إن هذا النوع من الترجمة الحرفية ، كان أسلوباً مألوفاً عند العرب ، ولكن منذ عهد حنين بن اسحق في القرن التاسع الميلادي أصبحت مهمة المترجم – نظرياً وعملياً – نقل المعنى الصحيح نقلاً دقيقاً مضبوطاً " [11].
2       .الترجمة بالمعنــى :
" إن جوهر هذه الطريقة – كما يدل عليها اسمها أيضاً – يعتمد على المعنى الشامل لكل جملة في أي كتاب يراد ترجمته ، ومن ربط المعنى الكلي للجمل بعضها مع البعض الآخر ، حسب هذا الأسلوب  يتكون مضمون الكتاب المترجم … "
" والواقع أن هذا الأسلوب هو أقرب إلى المنطق والفهم من الأسلوب السابق . ويعتبر حنين بن اسحق العبادي ( 164 –260هـ / 809 – 873 م) من أشهر النقلة الذين اتبعوا هذه الطريقة في ترجماتهم " [12].
3       .طريقة التلخيص والاختصار :
" وتكمن أهمية هذه الطريقة في :
1-  إنها دلالة واضحة على قوة الناقل في لغة ذلك الكتاب …
2-  إنها تعبر أصدق تعبير على ثقافة الناقل في كل مجال يطرقه حسب هذا الأسلوب …
إن إجادة لغة ذلك الأسلوب المراد تلخيصه ، والإلمام التام بمادته هما من أهم مقومات هذه الطريقة . ومن مشاهير النقلة الذين عملوا بهذا الأسلوب نذكر على سبيل المثال عبد الله بن المقفع ، ويعقوب بن اسحق الكندي ، ويحيى بن عدي " [13].
4. الترجمة من لغة إلى لغة عن طريق لغة أخرى :
هذا الأسلوب قام به بعض التراجمة السريان " وأعني به أسلوب الترجمة من اليونانية إلى العربية عن طريق السريانية … وهذا ما طبقه حنين بن اسحق ومدرسته في الترجمة ، إذ نرى أن حنيناً كان يترجم من اليونانية إلى السريانية ، ليتولى بعد ذلك اسحق بن حنين وحبيش الأعسم ، تتمة الترجمة إلى العربية من اللغة السريانية ، علماً بأن حنيناً كان يتقن اللغة العربية إتقاناً كاملاً كإتقانه للغات التي يترجم منها كاليونانية مثلاً .." .
" فإنني أرى أن وراء هذه الطريقة أسباباً أدت إلى ذلك أهمها :
1-  رغبة حنين في نشر لغتهم السريانية على نطاق واسع ، حيث يضطر الشخص الذي يرغب في الإطلاع على علوم ومعارف اليونان إلى أن يتعلم اللغة السريانية .
2-  العمل على إغناء التراث السرياني بعلوم ومعارف التراث اليوناني .
3-  رغبة حنين بن اسحق في إشراك ابنه اسحق بن حنين وابن أخته حبيش الأعسم في ترجماته هنا ، الأمر الذي يوسع من دائرة النقلة السريان في ترجماتهم للتراث اليوناني .
4-  إن حنين بن اسحق كان يتقن اليونانية إتقاناً عظيماً وإلى الدرجة التي لا ينافسه فيها أحد … لذلك فضلوا جميعاً على أن يتولى حنين تنفيذ المرحلة الأولى في الترجمة من اليونانية إلى السريانية – لغتهم الأصلية – لينفذوا هم بعد ذلك المرحلة الثانية والأخيرة في الترجمة من السريانية إلى العربية " [14].
" والترجمات مهما بُذل فيها من حذق وعناية وعلم ودراية لا تكون كالأصل وبخاصة الترجمات السريانية . فقد تعود أصحابها التصرف بالأصل وإضافة شروح وآراء أخرى إليها قد تخالف آراء المؤلفين ، نُسبت إلى أصحاب تلك المؤلفات عمداً أو سهواً .
لذلك لم يكن غريباً أن تتعرض النقول الأولى لسيل من الحملات أملتها النظرة العجلى ، ولكن هذه النقول لم تكن نهائية . وليس أدل على ذلك من إعادة ترجمة الكتاب الواحد مرات متعددة عن مصادر مختلفة ومقابلة الترجمات بعضها بالبعض الآخر .
لقد كانت هذه الطريقة من الأساليب المتبعة بين العلماء للوصول إلى النص الأصلي مما يؤذن بالرغبة الأكيدة في تحري الدقة والحرص على الأمانة العلمية ، كما نفعل في هذه الأيام ، وهذه الطريقة العلمية السليمة بدت تباشيرها في القرن الثالث للهجرة ، وكانوا يشترطون لصحة النقل إلى جانب معارضة النسخ وتصحيحها بعضها ببعض – فهم اللغة المنقول منها والمنقول إليها -.
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل كانوا يشترطون أيضاً فهم الموضوع وتصوره كتصور قائله والإحاطة به إحاطة تامة " [15].
وعن أوجه المقارنة بين أساليب الترجمة من اليونانية إلى العربية ومن العربية إلى اللاتينية يقول الدكتور الجميلي :
" إن هناك اختلافا كبيراً بين الترجمة من اليونانية والترجمة من العربية ، فالترجمة من العربية كانت حية ، فأهلها موجودون ولغتهم سائدة ومعارفهم تتقدم وتنتشر …".
" وأما مستوى الترجمة إلى اللاتينية فيبدو أنها كانت على أنواع فبعضها حرفي أبقى الكلمات العربية في مواطن كثيرة ، وبعضها كانت لغته اللاتينية جيدة " [16].
بينما يقول أمين أسعد خير الله عن ذلك :
" إن بين ما ترجم العرب من اليونانية إلى العربية وبين ما ترجم الإفرنج من العربية إلى اللاتينية ، نجد البون الشاسع بين أمانة أولئك وصدق ترجمتهم وبين تقصير هؤلاء وعدم أمانتهم .
فالمترجمون من العربية إلى اللاتينية لم يكونوا عادة من العلماء وكان فهمهم للغة العربية ضعيفاً ،بل كان بعضهم لا يعرف العربية مطلقاً واكتفى بالنقل عن ترجمة عبرانية سقيمة أو عن اللغات الدارجة ، كما أن نزاهتهم كانت موضع الريبة الشديدة " .
وفي موضع آخر يقول :
لقد " اتصفت الترجمات العربية بصدق النقل وصحة التعبير عرّبوا من المؤلفات اليونانية وأضافوا إليها حسن التبويب وإيضاح القصد . بينما فعل الأوربيون بترجماتهم من العربية إلى اللاتينية عكس ذلك تماماً فقد قصروا في الترجمة ولم يحسنوا نقل العلوم العربية إلى اللاتينية ومع ذلك فقد كان لما نقلوه أثر كبير في نهضة أوربا العلمية ودفع كتاب الغرب في القرون الوسطى إلى البحث عن الأصول اليونانية نفسها . وقد تركت اللغة العربية أثرها في اللغات الأوربية كما تدل على ذلك بقايا الاصطلاحات العربية في علوم الغرب حتى يومنا هذا كالكحول والشراب والجلاب والقلي والعطر وكثير من الأسماء الفلكية " [17].
وعن الموضوع نفسه يقول الدكتور محمد كامل حسين :
" وأما الخلط فكان أوضح ما يكون في المؤلفات اللاتينية . كان من المترجمين من لا يعرف العربية فكانت الكتب تترجم من العربية إلى العبرية ومنها إلى لاتينية ركيكة . وهذه التراجم المزدوجة كانت مصدر أخطاء عديدة … وآخرون كتبوا كتباً ضعيفة كلها أخطاء وكانوا ينسبونها إلى مشاهير العلماء العرب يبغون لها بذلك رواجاً . وكان أكثر المترجمين لا علم لهم بالطب وأوقعهم ذلك الجهل في أخطاء مضحكة " [18].
وأخيراً نذكر وجهة نظر الدكتور كمال السامرائي حول أوجه المقارنة فيقول :
" أما في حالة الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية فيحدث أن يكون الكتاب العربي منقولاً عن اليونانية ، فإذا ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية فإنه يمر بمرحلتين من النقل وفي ذلك الكثير من الاحتمال أن لا تطابق الترجمة الأخيرة مضامين الكتاب الأصل أو تكون على الأقل مرتبكة وكثيرة الأخطاء .
هذا بالإضافة إلى أن المترجمين إلى اللاتينية لا يحسنون هذه اللغة أو لا يحسنون العربية ، فتكون نقولهم تبعاً لذلك مشوشة وركيكة وهذا ما حدث في ترجمة كتاب كامل الصناعة الطبية للمجوسي وحتى في كتاب القانون لابن سينا .
وفضلاً عن كل ما تقدم إن أكثر الترجمات إلى اللاتينية كانت باللغة البروفانسية ، وهي لاتينية مطمورة ممجوجة وعاجزة عن التعبير بالمفاهيم العلمية ، وخصوصاً المصطلحات الطبية وأسماء الأدوية ، فكان من نتيجة ذلك كثير من الأغلاط التي مست جوهر المادة الطبية المترجمة إلى اللاتينية " [19].

[1] - السامرائي ، د. كمال – الطب العربي في أوربا اللاتينية ، معالم تصلح للمناقشة ( مقال ) – كتاب دراسة في فضل العرب في الطب على الغرب ص 88 . 
[2] - سيزكين ، د. فؤاد – محاضرات في تاريخ العلوم ص 21 .
[3] - هونكة ، سيغريد – شمس العرب تسطع على الغرب –نقله للعربية فاروق بيضون ، وكمال                         الدسوقي ص306 .
[4] - سيزكين ، المصدر السابق ص 17 – 18 .
[5] - خير الله ، د. أمين أسعد – الطب العربي ، ص 48 .
[6] - سيزكين ، المصدر نفسه ص 21 .
[7] - سيزكين ، المصدر نفسه ص 22 .
[8] - حسين ، د. محمد كامل – في الطب والأقرباذين ص 289 .
[9] - الجميلي ، د. رشيد – حركة الترجمة في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة                           ص 27- 28  .                    
[10] - الجميلي ، المصدر نفسه ص 28 .
[11] - مرحبا، د. محمد عبد الرحمن – من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية ص 320 .
[12] - الجميلي ، المصدر السابق ص 40 .
[13] - الجميلي ، المصدر نفسه ص 42 .
[14] - المصدر نفسه ، ص 42 – 43 .
[15] - الجميلي ، المصدر نفسه ص 47 – 48 .
[16] - الجليلي ، د. محمود – تأثير الطب العربي في الطب الأوربي ص 198 ، 199 .
[17] - خير الله ، أمين أسعد – الطب العربي ص 49 ، ص 206 .
[18] - محمد كامل حسين ، في الطب والأقرباذين ص 264 .
[19] - السامرائي ، المقال السابق ص 88 .

أحدث أقدم