تغيُّرات وتنوع نمط العيش للمجتمع المغربي
مستوى العيش المواطن الشعب المغربي
من الملاحَظ أن الدينامية الداخلية للمجتمع المغربي تعرف تحوُّلات عميقة، فهو مجتمع في طور التمدين وأنماط عيشه تتغير، إنه مجتمع يشهد تغيُّرات مهمَّة على مستوى البنية الأسرية والإسهام النسائي، كما أنه مجتمع يطور قدرات جديدة للتعبير، ويعرف بروز فاعلين جدد، مجتمع تشهد مرجعية قيمه صيرورة متحولة مع أنه لا يزال مترددًا إزاء الحداثة. ويتعين الإقرار في البداية بأنه إذا كانت الجغرافيا والتاريخ الخاصان بالبلاد قد صاغا تدريجيًّا مقوِّمات هُوِيَّة الشعب المغربي، فإن الاتصال بالاستعمار هو الذي مهَّد للمنعطف الكبير للانتقالات التي يشهدها المجتمع المغربي منذ عدة عقود.
على الرغم من أن مستوى العيش المتوسط للمغاربة قد تطور بوتيرة أقل من وتيرة أمم أخرى، فإنه عرف تقدُّمًا منتظمًا منذ الاستقلال. وفي نفس الوقت، تزداد الفوارق في مستوى العيش بين فئات الأسر، وبين الرجال والنساء، وبصفة خاصَّة ودائمة بين المدن والقرى.
ولقد شكَّل التغيير الذي طال بنية استهلاك المغاربة، ولو بكيفية نسبية، مؤشرًا مهمًّا على تطور المستوى المعيشي ونمط العيش، فقد تقلصت اليوم حصة الإنفاق الغذائي، بينما مثَّلَت سنوات الستينيات مرحلة الوفرة الاستهلاكية لدى السكان. أما المصاريف الأخرى المرتبطة بالتجهيز والترفيه فقد عرفت تضاعفًا ملحوظًا.
·                       تحوُّلات بنيوية للأسرة المغربية
يبيِّن بعض البحوث التي أنجزت حول القيم،  أنه على الرغم من انفتاح المغاربة على الحداثة، فإن غالبيتهم ما زالوا يُولُون أهميَّة قصوى لكل من التماسك الأسري بصفة عامَّة، ولرباط الزوجية بصفة خاصَّة. أما بالنسبة إلى التضامن الأسري، فقد أصبح يتعرض هو الآخر لتحوُّلات، وإن كانت ما زالت في بدايتها. ولقد أفادت أبحاث حديثة العهد أن أكثر من 20,2% من الأسر تسيِّرها امرأة، و8% من الأسر وحيدة الأب أو الأم.
وقد عرف السلوك الزوجي للمغاربة بدوره تحوُّلات ملموسة، من أبرزها الارتفاع التصاعدي للعزوبة، والتحوُّل الذي يطبع سلوكيات الزواج. وهكذا انتقلت نسبة العازبين بالمغرب ما بين 1960 و2004، من نحو 20% إلى 46% بالنسبة إلى الرجال، ومن 17% إلى 34% بالنسبة إلى النساء.
وقد شهدت وضعية النساء في المغرب في السنوات الأخيرة تحوُّلاً هامًّا على المستوى التشريعي، ففي سنة 2004، تمكنت الأسرة المغربية من التوفُّر على قانون جديد يؤسِّس للمعاملة بالمثل في الحقوق والواجبات بين الزوجين. ويرتكز هذا القانون الجديد على تأسيس علاقة الزواج على المساواة والتراضي والتفاهم واقتسام المسؤولية المنزلية والأسرية. كما أنه بإعادة تنظيمه الطلاق وحمايته لحقوق الطفل وفرضه قيودًا على تعدُّد الزيجات، كان داعمًا للعلاقة الزوجية.
·                       الشباب في صلب دينامية التغيير
ولعل أهمّ تحدٍّ يطرح لمغرب "العهد الجديد" هو التحوُّلات العميقة التي تعرفها شريحة الشباب، فالشباب يشكِّلون مؤهِّلاً ثمينا بالنسبة إلى البلاد وفرصتها نحو المستقبل. فمن البالغين دون سن الثلاثين من يمثلون 60% من الساكنة، في حين يمثل البالغون ما بين 15 و34 سنة 40%. وتبقى هذه الشريحة الواسعة من الشباب غير معروفة بما فيه الكفاية من الناحية السوسيولوجية والثَّقافيَّة. وتبرز الدراسات النادرة التي خصصت للشباب، على وجه الخصوص، عزوفه المقلق عن السياسة، في حين كان شغوفا بها خلال عقدي الستينيات والسبعينيات. وبالمثل، يلاحظ لدى الشباب نوع من الابتعاد عن المنظومة الأخلاقية للأجيال السابقة.
وعلى الرغم من كثرة النقائص التي تشوب المنظومة التربوية، فإن الشباب المغربي لا يزداد إلاَّ تعلُّمًا وتأهُّلاً، وبذلك فإن نسبة البطالة التي تطاله اليوم أصبحت مزعجة ولا تُطاق. وبغضِّ النظر عن البطالة، فإن المشكلات التي يعيشها الشباب هي من الكثرة والتعقيد بمكان، بحيث تتجاوز اختصاصات بعض القطاعات الوزارية (الشباب، التربية، الرياضة، الثَّقافة).
تجدر الإشارة إلى أن النقاشات الناشئة في المغرب حول علاقة المجتمع بالدين تكشف عن وجود ثلاث نزعات أساسية: أُولاها -وهي الأكثر غالبية- تَوَلِّي مؤسَّسة إمارة المؤمنين (المؤسَّسة الملكية) مكانة مركزية في الدولة المغربية، وثانيتها تتمثل في توجُّه يروم أسلمة جميع مناحي المجتمع، من خلال المطالبة بقراءة للدين خارج الزمن وبتعالٍ عن التاريخ. أما النزعة الثالثة فتنادي للمجتمع بالدنيوية وحدها الكفيلة، حسب دعاتها، بضمان حرية التأويلات المقرونة بالديموقراطية وحرية التعبير. ويتبين، من خلال معاينة الممارسات الدينية للمغاربة، وكذا تلك المتعلقة بالمؤسَّسات (الدولة والإدارة)، أن البلاد تسير نحو إدماج المؤسَّسة الدينية في الفضاء العمومي، وذلك بالطبع دون تخلِّيها عن مرجعياتها الدينية.
·                       تحول نظام القيم
قام المغرب لأول مرة سنة 2004 ببحث وطني حول القيم، أفرزت التحليلات المترتبة عنه أن في مرجعية القيم بالمغرب تحولاً، وأنها تمرّ اليوم بمرحلة انتقال، تتميز بما استأنس به المغاربة من تعايش بين القيم التقليدية، التي تعرف تراجعًا لحساب القيم الجديدة التي توجد في طور البروز والترسُّخ.
وبالفعل، فقد كان المغاربة يستمدُّون أهمّ قيمهم من الحضارة العربية الإسلامية ومن التُّراث الأمازيغي، ومن العادات والتقاليد والأعراف الجماعية والقبلية الخاصَّة بالبلاد. إن هذا النظام، الذي تَرَسَّخ عبر الزمن وتَغَذَّى باستمرار من الداخل، قد تأثر بإسهامات خارجية، وبالتفاعلات التي أقامها المجتمع المغربي مع محيطه. إلاَّ أنه، وعلى غرار البنيات الاجتماعية، فإن الاتصال مع الاستعمار بوجه خاصٍّ هو الذي خلخل الخزان التقليدي للقيم بالمغرب، ووضع على المحكِّ نظام التمثُّلات والمرجعيات، بدخول قيم جديدة مرتبطة بالعلاقة مع الزمن والمكان والفرد، وبالعلاقات الاجتماعية بصفة عامَّة. وخلال العقدين الأخيرين فرضت العولمة وتطور الإعلام على المجتمع المغربي قيمًا ومرجعيات جديدة، أكثر كونيَّة. ويصل البحث الوطني حول القيم إلى الخلاصات التالية:
-                لا يزال الزواج محتفظًا بقيمته الكبرى، إلاَّ أن الأسرة محدودة الأفراد تميل تدريجيًّا إلى الهيمنة. كما أن الاختيار الحر للشريك هو المرشَّح ليصبح القاعدة السائدة، وأن نسبة 97% تعتبر التكفل بالأشخاص المسنِّين في الأسرة من الواجبات الملقاة على عاتق أبنائهم.
-                إن العلاقة بالدين تميل نحو التستر والفردانية.
-                إن الاهتمام بالعمل السياسي يبدو ضعيفًا على عكس الاهتمام بالعمل الجمعوي: مفاهيم اليمين والوسط واليسار غير مفهومة عمومًا، في حين يعتبر60% من المستجوَبين المسلسل الديموقراطي يتقدم في المغرب، كما أن 64% لهم كامل الثقة في مستقبل بلادهم، كما أن الموقف من إسهام المرأة في السياسة، على العموم، إيجابي.
-                77% يتمنون الشغل بقوة، وتعتبر عقلية الريع والإثراء السهل والوسائل غير المشروعة للاغتناء مرفوضة من طرف المستوجبين. أما القيم المرتبطة بالوقت الثالث فهي غير معروفة وأكثر من نصف المستوجبين لا يستفيدون من العطل بانتظام. كما أن 73% من المستجوَبين لا يمارسون رياضة معيَّنة.
1)   التُّراث والدينامية الثَّقافيَّة
يشكِّل تراث البلاد وديناميته الثَّقافيَّة والفنية إمكانًا مهمًّا، وإسهامًا أصيلاً وثمينًا في الحضارة والثَّقافة العالميتين. تَمكَّن المجتمع المغربي من الحفاظ على العناصر الأساسية للتُّراث الوطني، وإتاحة تجديد في الإبداع الثَّقافي والفني، بعد فترة خمول أملتها جزئيًّا نزاعات سياسية، واتسمت بغياب سياسة ثقافيَّة حقيقية، ذلك أن أجيال ما بعد الاستقلال وُفِّقَت عمومًا إلى حفظ ومنح الحياة لمختلف تعابير التُّراث العتيق للبلاد، في أشكالها الأصلية، ثم في عصرنتها. وهذا التُّراث هو الذي يستمرُّ اليوم في تمكين المغرب من صورة الأمة المتجدرة في التاريخ، بما يغدقه عليه من الإمكانات السياحية والثَّقافيَّة.
إلاَّ أنه يتعين ملاحظة أن التُّراث الأنثروبولوجي والهندسي للبلاد، قد طاله بعض علامات التأكُّل، نظرًا إلى عدم كفاية مجهود الصيانة والتقويم التي عانى منها خلال العقود السابقة. ونفس الشيء ينسحب على التُّراث الشفاهي وجميع هذه "المعارف الضمنية الْمَحَلِّيَّة"، التي تنقاد غالبًا نحو الاقتصاد غير المهيكَل. ويجب أيضًا تأكيد مستوى الإنتاج الفني والثَّقافي، أن الإقلاع الثَّقافي، الذي عرفه المغرب خلال السنوات الأولى للاستقلال، والذي امتد إلى بداية السبعينيات، عرف جمودًا دام أكثر من عقدين. ومنذ بداية التسعينيات، ومع الانفتاح السياسي وتطوُّر الإعلام، برزت ملامح دينامية ثقافيَّة وفنية جديدة في مختلف الميادين، على نحو ما يمكن معاينته في مجال الإنتاج الأدبي، وكذا في مجالات الهندسة المعمارية والفنية المعاصرة والسينما والمسرح.
أما على مستوى اللغة الأمازيغية، كأحد مكونات الهُوِيَّة الوطنية، فقد عانت من التهميش في بعدها الثَّقافي والحضاري منذ الاستقلال وإلى نحو 2001 حيث أسس خطاب العرش (30 يوليو 2001) بداية لسياسة جديدة قائمة على الاعتراف والاعتزاز بتعددية مكونات الثَّقافة الوطنية، وعلى المكانة الأساسية التي تحتلُّها الثَّقافة الأمازيغية. ويعتبر تصالح المجتمع مع المكون الأمازيغي عنصرًا رئيسيًّا في الاستراتيجية الثَّقافيَّة واللغوية الجديدة للدولة. وهي استراتيجية تتأسس على أربعة محاور أساسية: (1) الأمازيغية معطى تاريخي متجذِّر في أعماق تاريخ المغرب وحضارته، (2) الأمازيغية عنصر أساسي في التُّراث الوطني المتقاسم بين سائر مكونات المجموعة الوطنية دون استثناء، (3) النهوض بالثَّقافة الأمازيغية مسؤولية وطنية، (4) العناية بالثَّقافة الأمازيغية في إطار ترسيخ دولة القانون والمؤسَّسات وبناء مشروع المجتمع الديموقراطي والحداثي الذي ينشده المغرب.
ضمن هذا المنظور، نِيطَت بالمعهد الملكي للثَّقافة الأمازيغية المؤسس في سنة 2001، مهمَّة النهوض بالثَّقافة الأمازيغية بالتعاون مع السلطات الحكومية والمؤسَّسات المعنيَّة، وذلك من أجل إدماجها في كل من المنظومة التربوية والإعلام والحياة الثَّقافيَّة والبحث العلمي.
وفي ما يخصُّ الإنتاج الأدبي بالمغرب، فقد عرف قطاع النشر في العقدين الأخيرين تطوُّرًا ملحوظًا حيث تمَّ إصدار نحو 12.400 كتاب ما بين 1985 و2003، في حين لم يتجاوز 3113 كتابًا خلال مرحلة 1955-1984.

Previous Post Next Post