- المجاورة الصوتية :
المجاورة مصطلح أطلقه علماء العربية القدماء على إعطاء الشيء حكم الشيء إذا جاوره 88. قال ابن جني :  ((إذا جاور الشيء الشيء دخل في كثير من أحكامه))89. وسماه سيبويه الإتباع بالمجاورة 90.
ويتبين من ذلك أن المجاورة تأثر اللفظ باللفظ الذي قبله من الناحية الصوتية سواء كان في بنية الكلمة، أم في حركاتها البنائية أم الإعرابية ؛ لهذا نعد المجاورة ضربا من التجانس الصوتي يتأثر فيه الصوت السابق باللاحق , وما يسمى في علم اللغة الحديث بالتأثر المقبل، أو أن يتأثر اللاحق بالسابق وما يسمى بالتأثر المدبر 91.
والمجاورة عند علماء العربية القدماء على نوعين : احدهما تجاور الألفاظ. والآخر تجاور الأحوال،فأما تجاور الألفاظ فهو على ضربين : الأول : في المتصل، والأخر : في  المنفصل 92.
ومن الأمثلة : قولهم : قنية وصبية، والأصل : قنوة من قنوت، وصبوة من صبوت ؛ لان الواو جاورت الكسرة قبلها فصارت الكسرة كأنها قبل الواو93.
فعلماء العربية لم يعدوا الصوت الساكن الذي يفصل بين فاء الكلمة ولامها حاجزا قويا ؛ لذلك تأثرت اللام بحركة الفاء (الكسرة) فانقلبت الواو إلى ياء لتجانس حركة الفاء المكسورة.
ومن مجاورة الألفاظ، مجاورة العين للام بحملها على حكمها، نحو قولهم : صيّّم في صوّم، وجيّع في جوّع.
إذ إن : صيّم وجيّع، شبهت بباب عصي فقلبه بعضهم حملا على قول عصي في عصو.
فالأصل : صوم وجوع، فقلبت الواو ياء لمجاورتها اللام تشبيها بعصي 94.
ونظير قولهم هذا : اقتل، وادخل. فضموا الهمزة لضمة العين ولم يعتدوا بالفاء حاجزا لسكونها فصارت الهمزة كأنها قبل العين المضمومة ؛ فضمت كراهية الخروج من كسر إلى ضم95.   
ثالثا: المشاكلة في المجال الصرفي :
- المزاوجة أو المحاذاة :
إن عامل المجاورة له تأثير في كلام العرب، فهناك مظاهر لغوية ظهرت بسببه، ومن ذلك ما يسميه اللغويون (المزاوجة) او (المحاذاة) وهي : ((أن تجعل كلاما بحذاء كلام، فيؤتى به على وزنه لفظا، وان كانا مختلفين))115 وهو باب واسع كبير ؛ إذ قال ابن سيده (ت458هـ) : ((وهذا واسع كثير في كلام العرب، يحافظون عليه، ويدعون غيره إليه، اعني أنهم قد يؤثرون المحاكاة والمناسبة بين الألفاظ تاركين لطريق القياس؛ كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ارجعن مأزورات غير مأجورات. وكقولهم :عيناء حوراء،من العين الحير. وإنما هو الحور، فاثروا قلب الواو ياء في الحور إتباعا للعين. وكذلك قولهم : إني لآتية بالغدايا والعشايا. جمعوا الغداة على غدايا إتباعا للعشايا، ولولا ذلك لم يجز تكسير فعلة على فعائل ولا تلتفتن إلى ما حكاه ابن الإعرابي من أن الغداياجمع غدية،فانه لم يقله احد غيره،إنما الغدايا إتباع كما حكاه جميع أهل اللغة))116
وذكر ابن يعيش أن : ((المشاكلة بين الألفاظ من مطلوبهم، ألا ترى أنهم قالوا : أخذه ما قدم وما حدث، فضموا فيها، ولو انفرد لم يقولوا إلا (حدث) مفتوحا. ومنه الحديث : ارجعن مأزورات غير مأجورات. والأصل : موزورات، فقلبوا الواو ألفا مع سكونها لتشاكل مأجورات، ولو انفرد لم يقلب))117.
ومن نظائر ذلك، تقول العرب للرجل إذا قدم من سفر : أوبة وطوبة، أي أبت الى عيش طيّب ومآب طيّب، والأصل طيبة ؛ فقالوا بالواو لمحاذاة أوبة، وقولهم :هنأني ومرأني، والأصل أمرأني، وقولهم : هو رجس نجس، بكسر النون وسكون الجيم، والأصل بفتح النون وكسر الجيم.
ولقد وردت هذه الظاهرة في القران الكريم، ومن ذلك :
-         قوله تعالى : ((لاعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21)))118، فاللامان في (لاعذبنه، لاذبحنه) لا ما قسم، ثم قال : (ليتاتيني) فليس ذا موضع ؛ لأنه عذر للهدهد، فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر، لكنه لما جاء به على اثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه إرادة التناسب الصوتي 119.
-         وقوله تعالى : ((ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم))120، فاللام التي في (لسلطهم) جواب لو، ثم قال : (فلقاتلوكم)، فهذه اللام حوذيت بتلك اللام، وإلا فالمعنى : لسلطهم عليكم فقاتلوكم121.
ومن هذا الباب أيضا الجزاء عن الفعل بمثل لفظه 122، إذ قال أبو علي الفارسي (ت377هـ) في تشاكل الألفاظ وتشابهها : ((وإذا كانوا قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في المعنى على الحقيقة فان يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو قوله :
ألا لا يجهلن احد علينا                      فنجهل فوق جهل الجاهلينا  )) 123 نحو قوله تعالى : ((إنما نحن مستهزئون الله (14) يستهزئ بهم)) 124، أي : يجازيهم جزاء الاستهزاء. وقوله تعالى : ((ومكروا ومكر الله)) 125، ((نسوا الله فنسيهم))126.
-         المشابهة (حمل النظير على النظير) :
تعد أصلا مهما من الأصول العامة التي صدر عنها علماء العربية  ؛ فقد عولوا عليها في تفسير كثير من قضايا اللغة، واتخذوها ضابطا رئيسا يضبط عددا من الظواهر اللغوية في العربية، سواء أكان في المجال الصرفي كصياغة الأبنية، أم في المجال النحوي كعمل المشتقات، والممنوع من الصرف، والمبنيات من الأسماء ؛ إذ انه يفسر هذه الظواهر تفسيرا منطقيا يقوم على العلاقات بين العناصر اللغوية127.
إن المشابهة تقوم على وجود شيئين يشتركان في بعض الوجوه، فيترتب على اشتراكهما أن يأخذ احدهما حكم الأخر، أو إنها تعني أن يحمل حكم شيء على حكم شيء آخر لاتفاقهما في وجه من الوجوه127، أما من الناحية الصرفية فهي حمل بناء على بناء في الاستعمال لاتفاق بينهما في اللفظ أو في المعنى أو فيهما معا أو صفة من الصفات 129.
    وقد اعتنى علماء العربية بهذه الظاهرة، ورأوها أمرا تفترضه طبيعة اللغة، وحكمة المتكلمين بها ؛ لهذا ذكر ابن جني : ((فهذا مذهب مطرد في كلامهم ولغاتهم، فاش في محاوراتهم ومخاطباتهم  أن يحملوا الشيء على حكم النظير، لقرب ما بينهما وان لم يكن في احدهما ما في الأخر مما اوجب له الحكم))130.
وأشار علماء العربية انه ليس كل اشتراك بين شيئين يوجب لأحدهما حكم الأخر، فهذا مرتبط بقوة الشبه بينهما ؛ فالشبه ((إذا قوي اوجب الحكم وإذا ضعف لم يوجب، فكلما كان الشبه اخص كان أقوى، وكلما كان اعم كان اضعف، فالشبه الأعم كشبه الفعل الاسم من جهة انه يدل على معنى فهذا لا يوجب له حكما، لأنه عام في كل اسم وفعل، وليس كذلك الشبه من جهة انه ثان باجتماع السببين فيه، لان هذا يخص نوعا من الأسماء دون سائرها، فهو خاص مقرب للاسم من الفعل)) 131.
وعلى هذا فالمشابهة درجات، وقد لا يقتصر على هذا بل قد يجاوزه إلى أن يأخذ كل طرف ما لأخيه ((وهذا عادة للعرب مألوفة، وسنة مسلوكة : إذا أعطوا شيئا من شيء حكما ما قابلوا ذلك بان يعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه ؛ عمادة لبينهما، وتتميما للشبه الجامع لهما. وعليه باب مالا ينصرف ؛ ألا تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه ؛ كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه ؟))132.
وبناء على ما تقدم فان المشابهة ترتبط بالمشاكلة في المجال الصرفي كصياغة بعض الأبنية الصرفية بشرط وجود بنيتين تتشابهان في شيء ما، فينتج عن هذا أن تصاغ احدهما مثلما تصاغ الأخرى.
والمشابهة بين الأبنية إما أن تكون في المبنى، او في المعنى، او فيهما معا وسأذكر أمثلة توضح ذلك :
-         فمن المشابهة في المبنى :
ومن ذلك جمعهم فعال، وفعال، وفعيل، وفعول على بناء واحد في القلة وهو (أفعلة) : كقولهم : غزال واغزلة، وكساء وأكسية، وغراب واغربة، وعمود وأعمدة ((لأنها مستوية في أنها من الثلاثة، وان ثالثها حرف لين))133.
-         ومن المشابهة في المعنى :
ومن ذلك جمعهم (فعل) على فعلان، نحو : صنو صنوان، وخشف وخشفان، ورئد ورئدان ؛ ((وذلك أن فعلا وفعلا اعتقبا على المعنى الواحد، نحو : بدل وبدل، وشبه وشبه، ومثل ومثل. فكما كسروا فعلا على فعلان كشبث وشبثان، وخرب وخربان، ومن المعتل تاج وتيجان، وقاع وقيعان، وكذلك كسروا أيضا فعلا على فعلان)) 134
ومن ذلك أيضا قول سيبويه : ((وأما الوكالة والوصاية والجراية ونحوهن، فإنما شبهن بالولاية ؛ لان معناهن القيام بالشيء))135.
-         ومن المشابهة في المبنى والمعنى :
ما جاء جمعه على لفظ مفرد حملا له على لفظ أخر يشابهه في مبناه ويعاقبه في معناه فقد ((يتفق لفظ الحروف ويخت\لف معناه، وذلك نحو قولهم : درع دلاص، وادرع دلاص، وناقة هجان، ونوق هجان، فالألف في دلاص في الواحد بمنزلة الألف في ناقة كناز، وامرأة ضناك، والألف في دلاص في الجمع بمنزلة ألف ظراف وشراف ؛ وذلك لان العرب كسرت فعالا على فعال، كما كسرت فعيلا على فعال، نحو : كريم وكرام، ولئيم ولئام. وعذرها في ذلك أن فعيلا أخت فعال ؛ ألا ترى أن كل واحد منهما ثلاثي الأصل، وثالثه حرف لين، وقد أعقبا أيضا على المعنى الواحد، نحو : كليب وكلاب، وعبيد وعباد))136.
ومثله أيضا في جمع (فعل) بضم الفاء وسكون العين على (فعل) بفتح الفاء والعين ؛ لأنهما متعاقبان على المعنى الواحد، نحو : البخل والبخل، العجم والعجم137.  

Previous Post Next Post