عرفت الليبرالية الجديدة في القرن العشرين نشاطاً وحيوية فكرية بالغة الأهمية، ما سمح لها بالإجابة جزئيا عن بعض تحديات عصرها. كيف بالإمكان إذا، في القرن الواحد والعشرين، إعادة إحياء الروح لهذه لليبرالية، ضد انحرافات النيوليبرالية، كما كان يقول ماكس فيبير(Max Weber) ، في الشروط الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمعاصرة
الليبرالية الجديدة” هي حزمة من السياسات الاقتصادية التي انتشرت على نطاق واسع في العقود الأخيرة. ورغم ندرة استخدام المصطلح، إلا أن تأثيراته واضحة؛ حيث يزيد الفقراء فقراً، ويزيد الأثرياء ثراءً.
وتشير الليبرالية إلى أفكار سياسية واقتصادية وحتى دينية. وتتبنى الليبرالية إستراتيجية تهدف لمنع الصراع الطبقي. ويتم تقديمها إلى الفقراء والطبقة العاملة على أنها نزعة تقدمية في مقابل النزعة المُحافظة أو اليمينية. وحين يُصرح السياسيون ذوي النزعة اليمينية أنهم يكرهون “الليبراليين” – فإنهم يقصدون النوع السياسي من الليبرالية – وليس لديهم مشكلة مع الليبرالية الاقتصادية والتي تنضوي الليبرالية الجديدة تحت لوائها.
كاينز Keynes والليبرالية "الجديدة"
بداية، ورغم تأثر كاينز بالليبرالية "الجديدة" إلا انه بقي ليبرالياً بالرغم من كل شيء. إنه في الواقع لخطأ تاريخي اعتبار كاينز معارضاً لليبرالية الاقتصادية بسبب من دعمه للسياسات التدخلية. فهو وان عارض بعض نسخ الليبرالية، الدوغماتية منها والمحافظة، التابعة لمدرسة مانشستر وللحزب الليبرالي في بداية القرن العشرين، أو التوجهات الاقتصادية "الارثوذكسية" للخزينة (الذي خاض معه العديد من الصراعات)، إلا انه بالطبع لم يعارض الليبرالية "الجديدة"، لا بل كان يكملها.
يمكننا القول بداية، أن كاينز أنجز وأكمل الصيغة/النموذج(Paradigme) لليبرالية الجديدة معطياً للدولة الإدارية التبرير الأخير الذي كانت تفتقده: الخبرة والتخصصية الاقتصادية وليس فقط الاجتماعية، مثل دولة بسمارك الاجتماعية في ألمانيا أو في الولايات المتحدة مع الرئيس وودرو ويلسونWoodrow Wilson. بحسب كاينز، فإن الفقر والمشاكل الاجتماعية سببها الحوكمة الاقتصادية السيئة، وضعف القدرات وسوء إدارة الحكومات للاقتصاد، كما و"حماقتهم" كما كان يردد غالباً، مشيراً إلى المشاكل العديدة التي واجهها مع مسؤولي الخزينة ومع مؤيدي وداعمي السوق وحرية التجارة(Free Market) بأي ثمن. سيسمح علم الاقتصاد الجديد بحل الأزمات الاقتصادية مبدلاً المتغيرات، وذلك من خلال إطلاق الطلب(La demande) عبر الاقتراض، جاعلاً الدولة تتدخل لتنفيذ ذلك، من خلال سياسات تقوم على تبني وتنفيذ مشاريع كبيرة، من وحي الاقتصاديين الأميركيين غير الأرثوذكسيين (Institutionnalistes)، وذلك حتى قبل كاينز.
ما فعله كاينز كان عملية استكمال أكثر مما هو عملية تغيير لليبرالية الجديدة بهدف إدخال أفكار جديدة، كالمخاطر والمجهول والتوقع واحتساب الاحتمالات، ناهيك عن أهمية ظواهر الاقتصاد الكلي(Macroéconomiques) . كما قام كاينز بلفت النظر بشأن التشابه (ومع قليل من الغرور)، بين النظرية النسبية لأينشتاين، التي تضم وتستوعب معادلات نيوتن كظاهرة فريدة صالحة للسرعات(Vitesses) الادنى من السرعة الضوئية، وبين نظريته العامة التي تضم وتستوعب المفاهيم الكلاسيكية والنيوكلاسيكية للإقتصاد الليبرالي كحالات فريدة.
يمكننا أن نلاحظ أنه وبنتيجة واقعيته وتوجهه العملي والتجريبي، يعلن وبكل فخر: "عندما تتبدل الوقائع، أبدل وجهة نظري". لذا تابع كاينز تطوير الليبرالية الجديدة (كبديل للسياسة الحمائية التي يتبناها قسم من اليمين وكبديل أيضاَ لسياسات التدخل وإعادة توزيع الثروة التي يتبعها اليسار) من خلال تطوير إمكانيات التحكم بالدورات الإقتصادية والسياسية "للعمل" ومشجعاً بالوقت نفسه النمو الإقتصادي. يضيف كاينز عامل الإستقرار الإقتصادي الكلي الى البرنامح الليبرالي ما قبل الحرب ليعطيه الأولوية الأولى. بالنسبة له، الإستقرار القصير المدى للرأسمالية هو أكثر خطورةً من اللامساواة على المدى الطويل في سوء توزيع الثروات والعائدات. أكبر العلل والأمراض الإقتصادية هي المخاطرة(Risques) ، المجهول والشك وضعف المعرفة. ودور الدولة يكون في تقليصها من خلال سياستها النقدية والإستثمارات في المشاريع الكبيرة والبنى التحتية الإجتماعية، إلى آخره. قام كاينز بنقل مشكلة العدالة الإجتماعية من المستوى الميكرو-اقتصاديMicro إلى مستوى الإقتصاد الكلي(Macro) . أصبح الظلم والغبن الاجتماعيين مشكلة مخاطر مستقبلية وغياب القدرة على التنبؤ (incertitudes): العدالة أصبحت عملية القدرة على التنبؤ التعاقدي(prédictibilité contractuelle) . بعكس ما نعتقد عموما، يلعب عنصر إعادة توزيع الثروة دوراً صغيراً في فلسفة كينز الإجتماعية حيث يكون آلية إستقرار للإقتصاد الكلي وليس وسيلة لغايات مثالية.