الثورات المحمودة
و أما الثورة، فإنها شر قد يضطر إليه المغلوب على أمره المقهور، فمتى كان الثائرون مظلومين مهضومين، قد اعتدى عليهم غريب يستعبدهم ويستغل أموالهم، متجبرا متكبرا، معتمدا على قوته، وقد شعر هؤلاء المظلومون بالقهر شعورا وحد أفكارهم،  وأزال من أنفسهم جميع الأغراض الشخصية حتى صاروا كرجل واحد، واعدوا العدة لثورتهم، ونظروا في العواقب، فإن الثورة تفك أسرهم وتحررهم، وتجعلهم سادة في بلادهم، فيدوم صفوهم، ويستقيم أمرهم وذلك كأهل البلاد السويسرية في ثورتهم على أمراء النمسا الذين كانوا مستولين عليهم، وكسكان الولايات المتحدة في ثورتهم على الدولة البريطانية، فكلتا الثورتين تحقق نجاحها واطرد، وسار أهلها إلى الأمام متحدين متقدمين، فيئس منهم عدوهم فعاد يخطب ودهم.

و كثورة سكان اتحاد جنوب إفريقيا البيض على الدولة البريطانية، وبعض هؤلاء هولنديون، وبعضهم من البلاد البريطانية في الأصل. فلما عجزت الدولة البريطانية عن إخماد ثورتهم صالحتهم وتوددت إليهم فاتحدوا معها عشرات السنين.

الأبيض والأسود
و في هذا الزمان الذي طغت فيه موجة الاستقلال والتحرر من الرق الأجنبي، طالب سكان اتحاد جنوب إفريقيا السود والسمر بنصيبهم من الحرية، وامتنع الحكام البيض من إعطائهم أي نصيب من هذا الحق، فتحرج مركز الدولة البريطانية التي تخلت عن كثير من مستعمراتها بدون حرب، بعدما دافعت عن سياسة اتحاد جنوب إفريقيا، والتمست له الأعذار، واضطرت إلى أن تستنكر إصرار الاتحاد على سياسته الخرقاء الممقوتة في نظر أكثر الأمم.

فلم ترض دولة الاتحاد بهذا الخذلان، فانفصلت عن الدولة البريطانية، فقابلت بريطانيا انفصالها بتسامح وصدر رحيب. ولم تقطع علاقاتها، لا الدبلوماسية ولا التجارية معها، فضلا عن أن تكيد لها وتعلن عليها حربا كلامية، أو تدس لها الدسائس، وتنشئ فيها فرقة خامسة لتحطمها عقابا على انفصالها.

و لا بد أن اذكر هنا موقف إيرلاندا مع بريطانيا وحلفائها في زمان الحرب العالمية الأخيرة، فإن بريطانيا اتهمت إيرلاندا بمناصرة أعدائها الألمانيين واليابانيين، إذ لم تقطع إيرلاندا علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا واليابان، مع إلحاح بريطانيا وحلفائها على إيرلاندا وادعائهم انه مادام السفير الألماني ومن معه، والسفير الياباني ومن معه في إيرلاندا، لا تستطيع  بريطانيا وحلفاؤها غزو أوربا الهتلرية، لان أولئك الألمانيين واليابانيين القاطنين في إيرلاندا يطلعون على الخطط الحربية، ويبعثون بأخبارهم إلى إخوانهم، فلم تلتفت دولة إيرلاندا الحرة إلى ذلك الادعاء، وأصرت على رفض الطلب، مع أن جميع الدول العربية والدولة التركية أيضا قبلوا مثل ذلك الطلب. وقطعوا علاقاتهم مع ألمانيا واليابان بلا سبب غير التزلف والخنوع لإرادة المستعمر، وإن كان استعمارا غير مباشر، ولم تكتف تلك الدول بقطع العلاقات. بل زادت إعلان الحرب على ألمانيا، وهي تلفظ النفس الأخير، ومع ذلك تحملت بريطانيا من إيرلاندا ذلك الرفض بصبر، ولم تغضب على إخوانها الايرلنديين بل احترمت حريتهم ورأيهم.

مثال من الهند
و هناك مثال آخر، وهو دولة الهند التي انضمت بعد استقلالها إلى المملكة المتحدة البريطانية ثم لم تلبث أن أعلنت النظام الجمهوري، وخرجت عن التاج البريطاني، فلم يمنعها ذلك من أن تبقى في مجموعة الدول البريطانية (كومنويلت) ثم اختارت الانضمام إلى الكتلة الحيادية، فلم يغضب ذلك بريطانيا.

و لما وقعت الحرب بين الهند وبين الصين، كانت بريطانيا ومن معها أول من هب لنجدتها بالسلاح والمدربين. فنحن نرى الدولة البريطانية التي حنكتها التجارب لا تفرض على الدول المتعاونة معها نظاما ما بعينه، وإن كانت ترغب الشعوب التي خرجت من حكمها المباشر في الانضمام إلى مجموعتها. فهي تقبل التعاون مع كل دولة بأي شكل، فإن أبت تركتها وشأنها، نعم إذا رأت بريطانيا دولة لا تريد الانضمام إليها ولا مسالمتها، فإنها تكيد لها كيدا وتستعمل ما تقدر عليه من الدسائس، ولا غرابة في ذلك، فإن الحرب خدعة.

و هناك نوع آخر من الثورات، ثورة الشعب على حكامه إذا طغوا وحادوا عن سبيل الرشد، واتبعوا أهواءهم، ولم يرقبوا في شعبهم إلا ولا ذمة، بل صاروا يعاملونه معاملة العدو لعدوه.

الملكية البريطانية
و الأمثلة الناجحة في ذلك، ثورة الشعب البريطاني على الملكية المطلقة، ووضع حد لاستبداد الملوك الغشم وثورة الشعب الفرنسي على الملكية جملة وتفصيلا.

فهاتان الثورتان لم تقم بهما فئة من الشعب لتستغلهما في مصالحها الخاصة، وإنما قام بهما الشعب كله لاكتساب حريته، والتصرف في شؤونه ولذلك أجريت الانتخابات الحرة بعد الثورة فاختار كل منهما النظام الذي يعجبه، واستقرت الأمور.

و هناك شعوب أخرى لم تحتج إلى ثورة، بل زالت منها الملكية من تلقاء نفسها، بعدما قل أنصارها وكثر أضدادها. وهناك شعوب سعيدة قوية عزيزة، لا تزال متمسكة بالنظام الملكي الدستوري، لا تبغي به بديلا، فليست الثورة مطلوبة لذاتها، وإنما ضرورة قد تضطر الشعوب إليها، كما يضطر الجسم إلى إجراء عمل جراحي للمحافظة على الصحة الموجودة، أو لاسترداد صحة مفقودة.

فمدح الثورة لذاتها، واعتماد أن كل شعب يحتاج إليها -و لا بد أن تنجح فيه، وتأتي بالخير العميم للشعب الذي يقوم بها- هو اعتماد فاسد تكذبه المشاهدة، بل الثورة التي لم تتوفر أسبابها ودواعيها، ولم تبن على أساس متين، هي مرض خطير، متى أصيب به شعب تشتت شمله، وتبعثرت قواه، وزالت وحدته، واتسع خرقه على الراقع، وسار سيرا حثيثا إلى الفناء.

الملكيات والجمهوريات
و أما الجمهورية فليست مرادة لذاتها، ولا تتوقف سعادة كل دولة وعزتها ورفاهيتها على النظام الجمهوري. فبريطانيا والسويد والنرويج والدانمارك  وهولندا والبلاد البلجيكية كلها تسير على النظام الملكي، وهي موفقة سعيدة، وليست الجمهوريات بأحسن حالا منها.

و يمكن أن تتعاون دولتان إحداهما ملكية، والأخرى جمهورية تعاونا صادقا بغاية الإخلاص كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فكل منهما راضية بنظامها مغتبطة به ولا تسعى إحداهما أبدا في حمل الأخرى على موافقتها في نظامها، لان ذلك دخول فيما لا يعني وعدوان.

و ليس كل جمهورية ناجحة، ولا كل ملكية خاسرة، فإن نجاح الدولة له أسباب متى حصلت جاءت النتيجة المؤلمة، ومتى فقدت الأسباب لم تحصل النتائج. فالذي تتوقف عليه سعادة الأمة وسعادة الدولة قبل كل شيء هو العدالة والمساواة في توزيع الواجبات والحقوق، ونصر المظلوم، وإيجاد الثقة في نفوس أفراد الشعب، حتى لا يخشى احد أن يفرض عليه أكثر من واجبه، أو أن ينقص من حقه.

و هذه الثقة هي التي تبعت أفراد الشعب على التعاون الصادق الذي يفضي بهم إلى القوة والعزة والعيشة الراضية، وطمأنينة النفس، ولا حاجة بنا إلى ضرب الأمثلة، فإنها كثيرة ومشاهدة.  




Previous Post Next Post