لقد أطلقت لفظ العصور المظلمة كسائر المؤرخين في (تويليفي) هذا على أكثر عصور الممالك النصرانية انحطاطا على العموم وخصوصا القرن العاشر المسيحي تنصرت الممالك الأوروبية قبل ذلك بخمس قرون أو ستة قرون تقريبا مضت من يوم تغلب البوابي - جمع بابا - والأساقفة على إرادة الملوك وحثوهم على إبادة كل مصدر من مصادر الإلهام يخالفهم فأغلقوا المدارس والمعاهد وقضوا على العلم والأدب.
وإذا استثنينا بعض المواضع في أوروبا كالبندقية إذ كان فيها بقية تافهة إصطلاحية من علم اليونانيين تخفف من شرهم وهمجيتهم فإن أوروبا كلها كانت في تباب وخراب اقتصاديا واجتماعيا وعقليا وكان ذلك العهد أشد سواد وظلمة وانحطاطا من سائر العصور البابوية وفي ذلك الزمان أطلق الأساقفة والقسيسون والرهبان والراهبات الأعنة في الدعارة والشهوات البهيمية ولم يكونوا في ذلك الزمان
مع اعترافه بفضل المسلمين وسبب هذا الاستثقال  حب الإقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا ولما طبع هذا الكتاب ووصلت نسخ منه إلى تطوان في زمن الاستعمار الإسباني صادر الحكام الإسبانيون تلك النسخ وزجوا بالكتبي الذي كان يبيعها في السجن وليس ذلك بعيدا من أخلاقهم وقد حبسوني أنا بنفسي قبل أن ينشر الكتاب وقبل أن يعلموا بوجوده وكان ذلك تهورا منهم وطغيانا لوساوس كان شيطانهم يوسوس لهم بها ولمقالات كنت بعثتها في البريد الإنكليزي بتطوان إلى الأستاذ المجاهد الشهيد الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه فقد اطلعوا عليها بواسطة بعض الموظفين المغاربة في البريد الإنكليزي ثم أنقذني الله منهم وأنقذ ذلك الجزء من المغرب من حكمهم ونسأله سبحانه أن ينقذ الباقي وهو(سبتة, ومليلية ووادي الذهب والصحراء المغربية والساقية الحمراء) ويوفق المغاربة لغسل هذا العار إنه على كل شيء قدير .
قال جوزيف مكيب في كتابه مدنية العرب في الأندلس : 

ص -11-   يستترون حتى بجلباب النفاق ولو أن غنيا مليونيا من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان لقدر أن يشتري مملكة بأسرها وكان تسعة وتسعون في المائة خدما يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال ولا واحد في الألف من النساء تقدر على القراءة وكان الضعيف مضطهدا مقهورا مسحوقا تحت الأقدام مغموسا في الطين والدم بل حتى القوي كان مهددا بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية فادرس القرن العاشر فلا زخارف أقوال الواعظين ولا كذب المعتذرين ولا الإذعان السياسي من المؤرخين يقدر أن يخفي عن ذوي الألباب عظم تبعة الكنيسة ولا سيما البابوية في ذلك الزمان الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاء وحزنا من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية وأنه لأفضع فصول من فصول غضب الله. حقا لقد حطم "بولوس" من ناحية و"أوكستين" من ناحية أخرى مدنية الإنسان فهل هذا الذي سمياه - بعيدين عن اتباع الهوى - (مدينة الله).
 يقصد المؤلف بهذا الكلام رجلين على يديهما انتشرت النصرانية المحرفة التي يعزو إليها المؤلف كل ما أصاب الناس من الشقاء وينبغي أن أذكر للمستمعين الكرام ترجمتي هذين الرجلين باختصار:
أما "بولوس" ويسميه الأوروبيون (بول الرسول) وتعده الكنيسة من الرسل الإثني عشر من أصحاب عيسى عليه السلام وكان "بولس" يهوديا يونانيا ولد في "طرسوس" ولا يعرف بالتحقيق تاريخ ولادته وقد خمن المؤرخون أن يكون قد ولد سنة عشر للميلاد وكان عالما بعلوم اليهود واليونان وكان يعد من فقهاء اليهود وكان شديد العداوة لكل من آمن بالمسيح محرضا على قتلهم ولما كان في نحو الثلاثين من عمره ادعى أنه رأى رؤيا تدل على أن النصرانية حق فصار نصرانيا متعصبا وبعد ما قضى "بولوس" بقية عمره أي خمسا وثلاثين سنة في حل وترحال مطوفا في أقطار آسيا الصغرى وأوروبا في البر والبحر يدعو الناس إلى النصرانية ويخبرهم بأن الله أمره بذلك ويبني الكنائس ويؤسس الجماعات ويركب الأخطار

ص -12-   وأعداؤه من اليهود الحاقدين عليه والنصارى الحاسدين له ينصبون له الشباك ويكيدون له المكائد وقد سجن مرارا وقتل في رومية سنة 65بتاريخ النصارى وله مؤلفات كثيرة معروفة مقدسة عند النصارى .
وأما "أوكستين" ويسمى باللاتينية (أغسطونيوس) فقد ولد في "تاغستة" وهي بليدة من توميديا في إفريقيا غير بعيدة عن قرطجنة وهي في هذه الأيام من أعمال تونس في 13من تشرين الثاني سنة 354وتوفي في 18 آب سنة 430 بتاريخ النصارى وكان أبوه وثنيا وأمه نصرانية متعصبة وكان في أول أمره بعيد على التدين والصلاح ثم اشتغل بدراسة الفلسفة ولما بلغ من عمره 29 سنة انتقل إلى إيطاليا فاجتمع بالعلماء ثم دخل في النصرانية بإلحاح من أمه وألف كتاب سماه (الاعترافات) ذكر فيه سيرته قبل التدين بالنصرانية وبعده ثم رجع إلى بلده "تاغستة" ثم أخذ يعظ في الكنيسة إلى أن صار أسقفا وبقي فيها 35 سنة وألف تآليف كثيرة في الديانة النصرانية منها تفسير الزبور ومنها حواش على الأناجيل الأربعة وله كتابان آخران أحدهما كتاب (الاعترافات) وقد تقدم ذكره والثاني (مدينة الله) وإليه أشار "جوزيف مكيب" الذي ترجمت كتابه وسميته "مدنية العرب في الأندلس" ومقصوده بهذا الكتاب الرد على الوثانيين الذين يعبدون الأوثان والأصنام ودعوتهم إلى الدخول في مدينة الله بإيمانهم بدين النصارى الذي يقصر العبادة على ثلاث أقانيم فقط أولها الأب وثانيها الإبن وهو عيسى عليه السلام وثالثها روح القدس وهو قد يظهر في بعض الأحيان على شكل حمامة أو غيرها يقول كاتب هذه المحاضرة وليت شعري ما الفرق بين عبادة الأوثان والأصنام وبين عبادة الأقانيم الثلاثة؟ صدق الله العظيم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة المائدة.
ثم قال "جوزيف مكيب" في وصف انحطاط الأوروبيين قبل فتح المسلمين الأندلس وبعده بزمن  طويل:

ص -13-   "اعلم أن أمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ أي من سنة 756-1356م فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن ويضاف إلى ذلك أنها لم تكن مبلطة أو تجتمع فيتكون منها برك حتى بعدما علمت النهضة في أوروبا عملها قرونا طوالا أما في مدن المور فكانت الشوارع مبلطة منورة قد سويت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر قال "سكوت": بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في "بلنسية" تقدر أن تكتسح سيارة وأصغر قناة منهن تقدر أن تكتسح حمار وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة وهذا النظام الصحي السامي كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذه العصور شيئا واجبا ولكنها في ذلك الزمن كانت في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان أما في بقية بلاد أوروبا فلم يكن فيها ولا حمام واحد وكان أشراف أوروبا ورؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حد يحجم الإنسان عن وصفه ولم يكن لبس الكتان معروفا في أوروبا حتى أخذت (موضة)   - أي طراز - لبس الكتان النظيف من المحمديين ولم تكن الزاربي أيضا تصنع هناك وكان الحشيش يغطي قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه وفي ذلك الوقت لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية ولكن في إسبانيا العربية كان الناس من جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعودا في صحون الدور والقصور والأماكن العامة ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان كبيران جميلان من مرمر يزينان ذلك الصحن حيث كان كل مصلي يتوضأ قبل أن يدخل إلى المسجد ووصفهما "سكوت" في هذا الزمان فقال هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة والأخلاق السبعية والجهل العظيم

ص -14-   بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأن لا دوام للمدنية العليا وأن الإنسان دائما يميل بطبعه إلى التقهقر والرجوع إلى أحوال الهمجية ويشهدان بما لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلا أسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية وهذه العدد التي أعدها الخلفاء بفرط ذكائهم ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة في السكان على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلا بعد مضي أربعة أو خمسة قرون ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط فمع كثرة النفوس المفرطة كانوا لا يرون أحد يصاب بمصيبة إلا نفسوا عنه الكرب وواسوه وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها.
وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاما حسنا في استخدام البطالين في إصلاح الطرق والأشغال العامة وكان "عبد الرحمن الثاني" قد أعلن أن كل من يريد العمل يمنحه ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب كما أثبته المحققون كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد وكانت المعارف والتعليم أحسن مما كانت فيه ممالك الروم ولم يكن يضاهيها إلا ما بلغه اليونانيون من المعارف العلية في أرقى أيامهم والخلفاء أنفسهم شيدوا المشافي (جمع مستشفى ) ودور الأيتام كما كان يفعل ملوك اليونانيين ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات في أوروبا وكان الأعيان والتجار لا يألون جهدا ما اقتفوا آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون عن المكروبين لينفسوا كربهم والنساء اللائي كن نزلنا إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا لكراهية القسيسين للزواج وإيثارهم العزوبة كن على خلاف ذلك عند المور مكرمات مالكات حريتهن والكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذان حلا محل التقشف والتعصب في دمشق انتقلا إلى الأندلس فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا لم توجد في الأندلس والنساء في القصر الملكي بقرطبة كن يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور وكان طلب العلم مباحا لهن بكل حرية وكثير منهن كان

ص -15-   لهن ولع شديد بالعلوم الرائجة في ذلك الزمن من فلك وفلسفة وطب وغيرها وكانت النساء يتبرقعن في خارج بيوتهن ولكنهن كن مكرمات وفي منازلهن كن مشرفات ومحترمات ولا حاجة إلى أن أتكلم في ظرف المور ولطفهم وشهامتهم لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعا لا يمحى أبدا على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين وهناك مزية أخرى يمتاز بها المور وهي التسامح الديني.
في أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء يعني مقتولين لمخالفتهم الدين ولكن لا مناسبة بين ذلك وبين المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيرا في ذرية المور .
وأما بعد استقلال المملكة العربية في الأندلس فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى كأهل طليطلة الذين كانوا على الدوام ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال فقد كان أهل الأديان جميعا يعاملون بالحسنى وكانت على اليهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصم وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم فكثر عددهم وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم.
وقد رخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنائسهم الكبرى ورخص لهم أن يبنوا عددا كثيرا من الكنائس وكانت لهم في طليطلة ست كنائس وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية وأما ما يخص اليهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذ وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم ونالوا أعلى المناصب في دولة مور فسأتكلم عليه في فصل آخر.
وهذه النبذة المجملة في ذكر مدينة المور ستزداد وضوحا وتفصيلا عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة ولا بد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفا تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقا خارقا للعادة ولا بد رأى أثرها في أوروبا المتوحشة وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين.
والمؤرخون لا يقابلون بين المور والنصارى لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل "بوستون" - مدينة في إمريكا - بقبائل "إسكيمو" وذلك عجب عجيب. قال "ستنلي لين بول" في شأن النصارى الذين فتحوا شمال إسبانيا كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على من

ص -16-   يكون لهم فريسة وكانوا خشنا جاهلين أميين لا يقدر على القراءة إلا قليل منهم جدا ولم يكن لهم من الأخلاق إلا مثل ما لهم من المعارف يعني لم يكن لهم منها شيء وأما تعصبهم وقسوتهم فهو ما يمكن نتوقعه من الهمج البرابرة" ا-هـ.
ونكتفي بهذا القدر من صفة حال أهل أوروبا قبل فتح المسلمين لجنوب بلادهم وإقامة مدنية عظيمة أدهشت العالم وفتحت لأهله بابا ليخرجوا من ظلمات الهمجية والجهل إلى نور المدنية والعلم وقد اقتبس الأوروبيون من المسلمين الفاتحين المعلمين المهذبين قبسة من علومهم وآدابهم وكانت أساسا لنهضتهم ولا شك أن العلم والمدنية اللذين سبق إليهما المسلمون في الحجاز أولا حيث نزل القرآن وأشرق نور الإسلام ثم في دمشق والأندلس وبغداد ثانيا هما أعظم تقدم شهده العالم قبل نهضة الأوروبيين فالمسلمون أئمة العلم والحضارة والأخلاق لو تركوا ذلك التقدم ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام لكانوا رجعيين مذمومين منتكسين خاسرين وكذلك الأوروبيون لو رجعوا من نهضتهم وتقدمهم إلى ما كانوا عليه في زمن نهضة المسلمين لكانوا رجعيين أشقياء مخذولين خاسرين ولكن الأوروبيين استمروا في نهضتهم من الوجهة المادية وقلت عنايتهم بالوجه الخلقية وقد بلغوا اليوم أوج المدنية والسعادة المادية ولا يزالون دائبين في طلب الكمال وإذا التفتوا إلى الوراء وشهدوا ما كانوا فيه من الجهل والظلمة اغتبطوا واستعاذوا بالله من ذلك العهد ولهم الحق في ذلك ولو أراد بعضهم الرجوع إلى تلك العصور المظلمة كما يسمونها هم أنفسهم لحكم عليه عقلاؤهم بالجنون وسفهوا رأيه واحتقروه وهو بذلك جدير أما المسلمون ومنهم العرب فإن معظمهم مسلمون وغير المسلمين منهم قليلون والحكم للغالب فقد أخذت علومهم ومدنيتهم في الجزر بعد ذلك المد العظيم منذ مئات السنين ولم يزالوا يرجعون إلى الوراء وينحطون من عليائهم حتى بلغوا أسفل سافلين وكانوا بالنسبة للأوروبيين كدلوين اختلفا صعودا وهبوطا فكلما تقدم الأوروبيون في العلم والمدنية اللذين اقتبسوها من المسلمين ازداد المسلمون توغلا وهبوطا في الجهل والتأخر اللذين اقتبسوهما من الأوروبيين ولا شك أن استمرارهم في هذه الحال لا يزيدهم إلا خبالا فماذا ينبغي لهم أن يعلموا لاستعادة علمهم ونورهم ومجدهم؟

ص -17-   أيعودون إلى جهاليتهم الأولى يطلبون منها الخلاص ولا خلاص فيها؟ أم يعودون إلى جاهلية الأوربيين؟.
قال قائل لا هذا ولا هذا ولكن يقتبسون من الأوروبيين مدنيتهم الحاضرة ويعتبرون أنفسهم كأنهم خلقوا خلقا جديدا ويقطعون النظر عن الماضي خيره وشره قلنا لهم هذا تقليد ومحاكاة لا ثمرة لهما أبدا ولابد لكل بناء من أساس ولو أرادوا أن يفعلوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا فإن الأوروبيين حين اقتبسوا العلم والمدنية من المسلمين لم ينسلخوا من تاريخهم وعاداتهم وعقائدهم ولو فعلوا ذلك لصاروا مسلمين وإنما أخذوا من أساتذتهم المسلمين ما كانوا في حاجة إليه حسبما بدا لهم ولم يتركوا شخصيتهم ولا جنسيتهم وبذلك بلغوا من الرقي ما هم فيه إلا أنهم أغفلوا جانبا من علوم الإسلام وهو ما يتعلق بالنفس وتزكيتها والصعود بها من دركات المادة الصماء إلى أوج السعادة الروحية.
وهذا الجانب الذي أغفلوه هو الذي سبب لهم ما هم فيه اليوم من الشقاء بالتخاصم والتنازع والتحاسد والتحارب وسعى كل فريق منهم إلى الاستئثار بأطايب الحياة وشهواتها وملذاتها وحرمان من سواهم من البشر وإذا كان آباؤنا قد سبقوا إلى العلم والنور والمدنية والأخلاق الفاضلة ورجعنا حن إلى اقتفاء آثارهم وإحياء علومهم لم نكن راجعين وإنما نحن متقدمون أحسن التقدم إلا إذا قلنا إن العلوم المدنية والحضارة قد وقفت في الحد الذي وصل إليه أسلافنا فيجب أن نقف عندما وصلوا إليه ولا نقتبس شيئا جديدا نافعا أبدا وحينئذ نكون جامدين ولا نستحق الحياة فبعض الكتاب من المسلمين المتهورين الذين لا يَزِنُونَ أفكارهم بل يهرفون بما لا يعرفون إذا سمعوا الأوروبيين يستنكرون عصورهم المظلمة ويسمونها رجعية ويستعذون بالله منها يقلدونهم في أقوالهم كالببغاءات ويحاكونهم في أفعالهم كالقردة ولا يعلمون الفرق بين ماضينا وماضيهم فإن ماضيهم كما قال علماؤهم ظلمات مدلهمة لا نور فيها أما نحن فبالعكس ماضينا علم ونور وحضارة مزدهرة وقوة وعز وسعادة فرجوعنا إليه هو عين التقدم ولا يتنافى ذلك مع اقتباس ما جد من العلوم والأعمال النافعة.
والحكمة ضالة المؤمن أما حاضرنا فهو كماضيهم ظلمات بعضها فوق بعض ولنا مثال آخر مع فرق سننبه

ص -18-   عليه وهو الشعب الياباني فإنه اقتبس الحضارة الأوروبية وبلغ فيها شأوى يفوق أساتذته أو فاقهم مع المحافظة على مقوماته ومعنوياته ولا يتنازل عن شيء منها فماذا نقول في هذا الشعب أهو تقدمي أم رجعي؟ لا يستطيع أحد أن يقول هو رجعي فإنه في طليعة الشعوب المتقدمة وقد أصيب بهزيمة عظيمة في الحرب العالمية الأخيرة فلم تقضي عليه ولم توقف تقدمه ولا يزال هذا الشعب يقدس ملكه ويعتقد أنه ابن الشمس ويقوم بخدمته بطقوس لا تعقل ولم يضره ذلك ولا نقص تقدمه لأنه لا يخطو خطوة في طلب التقدم إلا بعقل ووعي ولا يحب التقليد أبدا.
لما كنت مقيما في برلين كنت أتردد على مطعم صيني أحيانا وكنت أراه مع اختلاف أطعمته عن المطاعم الجرمانية يشابهها في التأنق والزخرفة ويؤمه دائما الأغنياء من الأوروبيين الذين عاشوا مدة في الشرق وألفوا أطعمته بنسائهم وبناتهم وأولادهم وكثير منهم كانوا يأكلون الرز بالعيدان كعادة الصينيين إلا أنهم يشربون الحساء بدون صوت سواء منهم الشرقيون والغربيون كعادة الأوروبيين فإنهم يستنكرون الشرب بصوت وكان في ذلك الوقت في برلين ثلاثة مطاعم صينية وسمعت بمطعم ياباني فذهبت إليه لأوازن بينه وبين المطاعم الصينية فلم أر فيه شيئا من التأنق وكان صغيرا رأيت فيه نحو خمسة وعشرين آكلا كلهم رجال يابانيون ولا يوجد فيه إلا امرأتان اثنتان عجوز في المطبخ وأخرى توزع الطعام والذي استرعى نظري فيه وتعجبت منه هو شرب الحساء بأصوات منكرة تتجاوب أصداؤها فقلت في نفسي هؤلاء اليابانيون كلهم يقيمون في بلاد الجرمانية ويعرفون عادات الجرمانيين حق المعرفة وأنهم يستقبحون الشرب بصوت فقد رغبوا عن عاداتهم وتباروا في الشرب بأصوات عالية فما مقصودهم بذلك؟ أظن أن مقصودهم بذلك الاعتزاز بعادتهم مهما كانت لأنهم لم يسافروا إلى أوروبا بقصد تعلم آداب الأكل وأدب الشرب وأدب الرقص وأدب الغناء وما أشبه ذلك لأنهم يرون آدابهم أكمل الآداب ولا يبغون بها بديلا ولكنهم جاءوا لأغراض لا يمكن أن تحصل في بلادهم وفي ذلك عبرة للمقلدين.
Previous Post Next Post