مادة التاريخ الإسلامي
الحياة الفكرية، وأسباب سقوط الدولة الأموية
مدخل:
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول اللّه وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد أخي الطَّالب، سلام الله عليكَ ورحمته وبركاته، ومرحبًا بك في الدرس الثالث والعشرين من سلسلة الدُّروس المقرَّرة عليك في إطار مادَّة التاريخ الإسلامي (2)، لهذا الفصل الدِّراسيّ، آملينَ أن تجدَ فيها كلّ المُتعة والفائدة، وكنا قد تناولنا معًا في الدرس السابق الكلام عن (مظاهر الحضارة في العصر الأموي (3))، وإليك هذا الدرس الذي تتعرف فيه على (تابع الحياة الفكرية، وأسباب سقوط الدولة الأموية)، فأهلًا وسهلًا بك:
ثمرات الدّرس:
عند نهاية هذا الدرس تستطيع بإذن الله أن:
أولا: تتعرف على بعض ملامح الحياة الفكرية في العصر الأموي.
ثانيا: تتبين أسباب سقوط الدولة الأموية.
عناصر الدّرس:
23.1 تابع الحياة الفكرية: (علم الفقه وعلوم اللغة العربية وعلم السير والمغازي والتاريخ وحركة الترجمة من اللغات الأجنبية).
23.2 أسباب سقوط الدولة الأموية.
التّعريفات:
1 تكالب على التكالب: التصارع والتشاحن من أجل شيء.
23.1 تابع الحياة الفكرية: (علم الفقه وعلوم اللغة العربية وعلم السير والمغازي والتاريخ وحركة الترجمة من اللغات الأجنبية).
- علم الفقه: وهو من أجَلّ العلوم الإسلامية، فهو يعرف المسلم كَيف يعبد ربَّه، بما افترضه عليه من صيامٍ وصلاة وزكاة وحج، ويُنظّم معاملاتِ المسلمين، ويتقنها في البيع والشراء والزراعة والصناعة وسائر شئون حياتهم. ويُعدُّ الفقهاءُ من أكثر علماء الإسلام أثرًا في حياة المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خيرًا يُفَقِّهْه في الدين».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلْم الصحابةَ ويُفقِّههُم في أمور دينهم، ثم تولَّى بعده الصحابةُ تلك المهمةَ، وبخاصةٍ بعد أن اتسعت الدولة الإسلاميةُ في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، ثم اتسع نطاقُ علم الفقه، نتيجةً لزيادة المشكلات والقضايا التي تحتاج إلى فتاوى وحلول، وأصبح له علماءُ متخصصون، لهم قدرة على استنباط الأحكام الفقهية من الكتاب والسنة، وقدرة على الاجتهاد لإيجادِ أحكامٍ للقضايا التي لم يَرِدْ لها نصٌّ في كتاب الله أو سنةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ النصوصَ متناهية، في حين أنَّ المشكلات والقضايا غير متناهية ومتجددة، ولا بد لها من حلول، فالشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومعنى الصلاحية أن يكون لها حل للمشكلات وإجابةٌ عن كل الأسئلة، ومن ثَمَّ اجتهد الفقهاء في هذا الميدان، واختلفتْ اجتهاداتُهم طبقًا لفهمهم من الكتاب والسنة، ونتيجةً لذلك ظهرت المذاهب الفقهية المعروفة، وتراكم تراث فقهي هائل، أخذ يتزايد بمرور الزمان.
وفى العصر الأموي ظهر إمامان جليلان من أئمة الفقه الكبار، هما "أبو حنيفة النعمان" و"مالك بن أنس" أمَّا أولهما فقد وُلد في "الكوفة" سنة (80هـ) في عهد الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان، وتوفي سنة (150هـ) في خلافة "أبي جعفر المنصور العباسي"، أي أنه عاش أغلب حياته في العصر الأموي. وقد تلقى الفقه على كثير من كبار العلماء، منهم "أبو جعفر الصادق"، و"إبراهيمُ النَّخْعي"، و"عامرُ بن شَراحْبِيل الشَّعْبي"، و"الأعمش"، و"قتادة"، وغيرُهم، واشْتَهَر باجتهاده، وقوةِ حجته، وحسن منطقه، ودقته في استنباط الأحكام، وهو صاحبُ المذهب الحنفي المعروف، الذي ألَّف فيه ونشره بين الناس تلاميذُه العظام، من أبرزهم "أبو يوسف" المتوفى سنة (182هـ) قاضي القضاة في عهد الخليفة "هارونَ الرشيد العباسي" و"محمد بن الحسن الشيباني" المتوفى سنة (189هـ) و"زُفَر بن هذيْل" المتوفى سنة (158هـ). وقد انتشر المذهبُ الحنفي في "مصر" و"العراق" وأواسط آسيا وغيرها.
وأمَّا الإمامُ مالكٌ فقد وُلد في "المدينة المنورة" سنة (93هـ) في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك" وتوفي سنة (179هـ) في عهد الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، أي: أنه عاش نحو نصف عمره في العصر الأموي، وأكثر من نصفه الآخر في العصر العباسي. وقد نشأ "مالك بن أنس" وتفقَّه وروى الحديثَ في "المدينة" وترك كتابًا عظيمًا هو "الموطأ"، الذي يجمع بين الفقه والحديث.
والإمامُ "مالك" هو صاحب المذهب المالكي المعروف الذي انتشر في "مصر" و"المغرب العربي".
وقد عاصر هذين الإمامين الجليلين عددٌ آخر لا يقل عنهما علمًا وفقهًا، مثل: الأوزاعي إمام أهل الشام المتوفى سنة (157هـ)، و"الليث بن سعد" إمام أهل "مصر"، المتوفى سنة (175هـ) غير أن مذهب هذين الإمامين الجليلين اندثرا بعدهما؛ لأنهما لم يجدا تلاميذًا يواصلون نشر مذهبيهما.
- علوم اللغة العربية: ظهرت بعضُ علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والعَروض في العصر الأموي، وكان الناسُ قبل ظهور الإسلام وبعده بفترة حتى عهد "علي بن أبي طالب" يتحدثون بلغةٍ عربيةٍ سليمةِ الأداء، فصيحةِ النطق بالفطرة والسليقة اللغوية، دون أن يعرفوا ما يُسمى قواعد النحو أو الصرف، غير أنَّ الأمرَ اختلف بعد دخول كثير من أبناء البلاد المفتوحة في الإسلام؛ حيث بدأ ظهورُ الخطأ واللحن في اللغة، ومن ثَمَّ ظهرت الحاجةُ إلى علم الضبط والنطق السليم للكلمات العربية.
ويُعد أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه أول من أشار بوضع قواعد علم النحو، حيث كلَّف أحدَ ولاتهِ وكُتَّابه -وهو "أبو الأسود الدؤلي" المتوفى سنة (69هـ)- بوضع قواعد علم النحو، ويروي "أبو الأسود" بنفسه أنه دخل على أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" فوجد في يده رقعةً، فسأله عنها، فقال: "إني تأملت كلامَ العرب فوجدتهُ قد فسد، فأردت أن أضعَ شيئًا يرجعون إليه". وأعطى الرقعةَ إلى "أبي الأسود"، فوجد مكتوبًا فيها: "الكلام كلُّه اسمٌ، وفعلٌ، وحَرْفٌ، فالاسمُ ما أنبأَ عن المسمَّى، والفعلُ ما أُنبئ به -حيث يدل على الحدث وزمانه- والحرفُ ما أفاد معنى"، ثم قال "علي" لأبي الأَسود: "انْحُ هذا النحوَ أضِفْ إليه ما وقع لك" فقال "أبو الأسود": فوضعتُ باب العطف والنعت، ثم بابي التعجبِ والاستفهام، إلى أن وصلتُ إلى باب: (إنَّ وأخواتها) ما خلا (ولكنَّ)، فلما عرضتها على "علي" رضي الله عنه أمرني بضم (لكنَّ) إليها، وكنت كلما وضعتُ بابًا من أبواب النحو عرضْتُه عليه، إلى أن حَصَّلتُ ما فيه الكفاية، فقال "علي" رضي الله عنه: ما أحسنَ هذا النحوَ الذي نحوتَ، ومن هنا ظهر علم النحو.
ولما كان "أبو الأسود" من أهل "البصرة" فقد ورثوا عنه حبَّه للنحو، والاهتمامَ به، وكانوا أولَ من اشتغل به، فطوَّروه، وجَدَّدوه، وأضافوا إليه ما زاده بيانًا ووضوحًا، ودوَّنُوا فيه المؤلفاتِ المبكرة، ومن هؤلاء: "يَحْيي بن يَعْمُر"، و"عَنْبَسة بن مَعْدان"، و"عيسى بن عمر الثقفي" المتوفى سنة (149هـ)، وهو أحد علماء مدرسة "البصرة" في النحو، وصنَّف كتابين في النحو بعنوان: "الإكمال" و"الجامع".
وعلى يد "عيسى بن عمر" تتلمذ أشهرُ علماء النحو واللغة في ذلك العصر وهو "الخليل بن أحمد الفراهيدي" المولود سنة (96هـ) والمتوفى سنة (170هـ)، وهو صاحب "معجم العين" الذي هو معجم في العربية، وواضع علم العَرُوض الخاص بأوزان الشعر العربي ومعرفة بحوره. ثم تتلمذ على يد "الخليل" عدد من النحاة، يأتي في مقدمتهم "سيبويه" (عمرو بن عثمان) إمامُ النحاة، وهو صاحب "الكتاب" أشهر مؤلَّف في النحو العربي، وتُوفِّي "سيبويه" وهو في الثانية والثلاثين من عمره سنة (180هـ).
- علم السير والمغازي والتاريخ:
وهو يعد من أوائل العلوم التي اهتم بها المسلمون الأوائل، وبخاصة أبناءَ الصحابة، حيث حَرَصَ آباؤهم على تعليمهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم كما كانوا يعلمونهم القرآن الكريم، بالإضافة إلى شغفهم بمعرفة ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه من أجل الدعوة، ومن ثَمَّ اتجهوا إلى دراسة السير والمغازي، وأخذها من مصادرها الوثيقة، من آبائهم وأهليهم الذين شهدوا الأحداث، وشاركوا في الغزوات، وكانوا يسألونهم مثلًا: كيف كانت غزوة "بدر"؟ ومَنْ هُمُ الذين شهدوها؟ ومتى كانت الهجرة إلى "الحبشة"؟ وكان الصحابة يُجيبون عن أسئلتهم إجابة شاهد العيان، الذي رأى وسمع.
ومن الآثار الواردة في ذلك قولُ علي (زين العابدين) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (المتوفى 93هـ): "كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورةُ من القرآن". ومنها: قول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص (المتوفى 134هـ) (وهو حفيد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أحد المبشرين بالجنة، وهو قائد معركة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس سنة 15هـ، ومؤسس مدينة الكوفة بالعراق، قال: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعدُّها علينا عدًّا ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذِكرها".
وكان من الطبيعي أن ينشأ هذا العلمُ في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي البيئةُ التي شهدت معظمَ تلك الأحداث، ومنها بدأت أُولى خطوات التدوين والتأليفِ في السيرة والمغازي، ومن أوائل علماء السيرة والمغازي:
1- أبان بن عثمان: وهو ابن الخليفة "عثمان بن عفان": وُلد سنة (20هـ) بالمدينة، وكان من فقهاء "المدينة" المعدودين، ومن كبار رواة الحديث، تتلمذ على أبيه وغيره من كبار الصحابة، وتعلم على يديه كثيرٌ من علماء الحديث والسيرة، في مقدمتهم: "محمد بن مسلم بن شهاب الزهري". وعلى الرغم من اشتغاله بالحديث والفقه، فإن شهرته في العلم بالمغازي والسِّير جعلته من علمائها البارزين. وتوفي في نهاية القرن الأول الهجري.
2- عروة بن الزبير بن العوام: وُلد في "المدينة" سنة (26هـ)، وتتلمذ على يد خالته أم المؤمنين السيدة "عائشة"، وروى عنها حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، واشْتَهَر "عروة" بأنه من فقهاء "المدينة"، مثل "أبان بن عثمان" وكان من الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم في زمن ولايته على المدينة، غير أن شهرتَه بالمغازي والسِّير كانت أكبر، وكانت له مؤلفات كثيرة، ذكر "ابن سعد" في كتابه "الطبقات" أنه أحرقها في يوم معركة "الحَرَّة" وهي الواقعة الحربية المشهورة سنة (63هـ) في "المدينة"، وقد حزن كثيرًا على فقدها، وتوفي "عروة" سنة (94هـ).
3- شَرَحْبيل بن سعد: وهو ثالث ثلاثة من كُتَّاب الطبقة الأولى من أهل "المدينة" في علم السيرة، نشأ في "المدينة"، وأخذ العلم عن الصحابة، حتى صار عَلَمًا من أعلام السيرة والمغازي، ويُروى أنه كان أعلمَ الناس بالمغازي، وبخاصة أهلَ "بدر"، وقد توفي سنة (123هـ).
4- وَهْبُ بن مُنَبّه: وُلد في قرية "زمار" بجوار "صنعاء" باليمن، وتوفي سنة (116هـ)، وهو واحد من رجال الطبقة الأولى من علماء السيرة والمغازي، ومن العلماء الموسوعيين الذين كتبوا في علوم شتى، فكان مصدرًا من مصادر علوم أهل الكتاب، ومن الثقاة في تاريخ الأنبياء. وقد ألَّف "وهب" مؤلفاتٍ كثيرة لم يصل إلينا منها شيء، وإن وُجِدَتْ مؤخرًا في مدينة "هَيْدَلْبِرج" بألمانيا أوراقُ بردي، يقال إنها قطعة من كتاب المغازي لوهب بن منبه، تحوي معلوماتٍ عن "بيعة العقبة"، وحديثِ "قريشٍ" في دار الندوة، وتدبيرها لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستعدادِ للهجرة إلى "المدينة".
ثم تلا هذه الطبقةَ طبقةٌ أخرى، واصلتْ عَمَلَها في مجال التأليف والكتابة في السيرة والمغازي، من أبرزهم "محمد بن مُسلم بن شهاب الزُّهْري" الذي امتاز عن معاصريه بكثرة الكتابة والتدوين، غير أنَّ مؤلفاتهِ ضاعتْ، ولم يصل إلينا منها شيءٌ، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ عِلْمَه حَفِظه لنا تلاميذُه الكثيرون، وكان من أعظمهم في مجال السيرة والمغازي:
5- محمد بن إسحاق: وُلد في "المدينة" سنة (85هـ) في خلافة "عبد الملك بن مروان"، وتتلمذ على أبيه الذي كان مُحدّثًا فقيهًا، وعلى غيره من كبار التابعين في "المدينة" مثل: "القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق"، و"سالم بن عبد الله بن عمر"، و"أبان بن عثمان بن عفان"، و"نافع مولى عبد الله بن عمر" و"أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف"، و"محمد بن مسلم بن شهاب الزهري"، ثم رحل "ابن إسحاق" إلى "مصر" سنة (115هـ)، والتقى بعلمائها الكبار، وفي مقدمتهم: "يزيد بن أبي حبيب"، وزار الإسكندريةَ، ثم عاد إلى "المدينة" ليواصل دراسته. ثم رحَلَ إلى "العراق" بعد قيام الدولة العباسية، وقضى فيها بقية حياته، حتى تُوفِّي سنة (151هـ).
وهناك إجماع بين العلماء على إمامة "ابن إسحاق" لعلم السِّير والمغازي، فقد حَفظ في كتابه معظمَ رواياتِ السابقين وآثارهم العلمية، وكلّ مَنْ أتى بعده عالةٌ عليه في هذا العلم كما قال الإمام "الشافعي" رحمه الله.
ولابن إسحاق كتابان -أحدهما عنوانه "كتاب الخلفاء" هو مفقود حتى الآن. والآخر: كتاب "السيرة والمبتدأ والمغازي" وهو أقدم كتاب وصل إلينا عن سيرة الرسول ومغازيه، وأوفاها علمًا، وإذا كان لم يظهرْ إلى الوجود كاملًا حتى الآن، فإنه جاء إلينا في صورةٍ تكاد تكون كاملةً عن طريق "عبد الملك بن هشام" المتوفى سنة (218هـ)، الذي أخذ سيرة "ابن إسحاق" ورواها عن شيخه "زياد بن عبد الله العامري البكّائي (المتوفى 183هـ) الذي رواها مباشرة عن شيخه "ابن إسحاق".
وقد قام "ابن هشام" بتهذيب سيرة "ابن إسحاق"، وحذف كثيرًا من الشعر والروايات التي لم ير ضرورةً لذكرها، وقد عُرِف عملُه هذا بسيرة "ابن هشام". ولا شك أنه أسدى إلى العلم بصفة عامة وإلى علم السيرة والمغازي بصفة خاصة خدمةً جليلة، بحفظِه هذا السِّفْرَ الضخمَ الذي كان مصدرًا لكل كُتَّاب السيرة والمغازي بعد ذلك، مثل "الواقدي" المتوفى سنة (207هـ)، وتلميذه "محمد بن سعد" المتوفى سنة (230هـ)، و"البلاذري" المتوفى سنة (279هـ)، و"ابن قتيبة" المتوفى سنة(276هـ)، و"الطبري" المتوفى (سنة 310هـ) وهذا الأخير هو عمدة المؤرخين المسلمين على الإطلاق.
- حركة الترجمة من اللغات الأجنبية:
حافظ الأمويون على التراث الثقافي للبلاد التي كانت تحت حكمهم، في "الإسكندرية" بمصر "وبيروت"، و"دمشق" و"أنطاكية" في "الشام"، و"نَصيبين" و"حرّان" في "العراق"، و"جُنديسابُور" في فارس، وكانت تلك المدنُ هي أعظمُ مراكزِ العلمِ القديمة.
وقد تأخر المسلمون في البداية في نظرهم إلى العلوم الأجنبية، نظرًا لانشغالهم بالجهاد وتمكين الدولة الإسلامية، وتأسيس العلوم العربية التي سبق الحديثُ عنها، ولعدمِ معرفتهم على نطاق واسع باللغات الأجنبية.
ولا يعني ما سبق أنَّ الأمويين أهملوا العناية بتلك العلوم الأجنبية، وترجمةِ بعضها إلى اللغة العربية، فقد شغف "خالد بن يزيد بن معاوية"، وهو من أمراء "بني أمية" بالكيمياء، التي كانت تسمى في ذلك الوقت "علم الصنعة"، وأحضر بعضَ العلماء من "مصر" إلى "دمشق"، ليترجموا له بعضَ الكتب من اليونانية إلى العربية، ويذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أنه رأى بنفسه مؤلفات لخالد بن يزيد، منها: كتاب في الحراريات، وكتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة. وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان): "كان خالد يعرف الكيمياء، وصنف فيها ثلاث رسائل". وقال ابن كثير: "له يدٌ طولى في الطب وكلام كثير في الكيمياء، وكان قد استفاد من راهب اسمه مريانش"، وقد علق الذهبي على ذلك بقوله: "وهذا لم يصح".
ويذكر "القِفْطي" في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) من مترجمي العصر الأموي الطبيب "ماسَرْجَوْيه" الذي ترجم كتابًا في الطب للخليفة " عمر بن عبد العزيز"، كما يذكر "ابن النديم" أيضًا أن "سالمًا" كاتب الخليفة "هشام بن عبد الملك، ترجم رسائل "أرسطو" إلى تلميذه "الإسكندر الأكبر"، وهي رسائل في السياسة.
وعلى أية حال فإن ذلك كان بداية متواضعة لحركة الترجمة، فرضتها ظروف الدولة وصراعاتُها في الداخل والخارج، وحَسب الأمويين أنهم حافظوا على تلك الثروة الهائلة، وصانوها من الضياع، ولولا ذلك ما وجد العلماء في العصر العباسي شيئًا يترجمونه. وقد توسعت حركة الترجمة إلى اللغة العربية في بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وشملت كل ما أنتجه الأوائل من اليونان والفرس والهنود في مجال الطب والنبات والصيدلة والأحياء والفلك والرياضيات، والأدب والفلسفة. وهذه قصة أخرى تحتاج إلى تفصيل وبيان في مقام آخر.
نشاط: 23.1
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
أكمل ما يأتي:
1- في العصر الأموي ظهر إمامان جليلان من أئمة الفقه الكبار، هما ........ المولود في الكوفة سنة 80هـ والمتوفى سنة ........ و"مالك بن أنس" المولود في ........ سنة ....... والمتوفى سنة 79هـ.
2- ظهرت الحاجةُ إلى علم ...... والنطق السليم للكلمات العربية بعد دخول كثير من أبناء البلاد ........ في الإسلام؛ حيث بدأ ظهورُ الخطأ و ....... في اللغة.
3- تأخر المسلمون في البداية في نظرهم إلى العلوم .....، نظرًا لانشغالهم بالجهاد وتمكين الدولة الإسلامية، وتأسيس العلوم ...... ولعدم معرفتهم على نطاق واسع بالـ ..... الأجنبية.
4- علم السير و ..... والتاريخ يعد من أوائل العلوم التي اهتم بها المسلمون الأوائل، وبخاصة أبناء الصحابة، حيث حَرَصَ آباؤهَم على تعليمهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم كما كانوا يعلمونهم ..........
الإجابات النموذجية:
1- أبو حنيفة النعمان - 150هـ - المدينة المنورة - 93هـ.
2- الضبط - المفتوحة – اللحن.
3- الأجنبية – العربية – اللغات.
4- المغازي - القرآن الكريم.
23.2 أسباب سقوط الدولة الأموية.
لقد قامت الدولة الأموية في المشرق من عام الجماعة (41هـ) وعاشت تواجه عددًا من المشكلات حتى انتهت سريعًا -وهى لا تزال فتية- (سنة (132هـ). ويكاد يجمع المؤرخون على أن مؤسسها الأول، وهو معاوية بن أبي سفيان (توفي 60هـ)، عظيم من عظماء العرب، وداهية من دهاتهم، ويكادون يجمعون كذلك على أنَّ "مروان بن محمد" آخر خلفاء الدولة الأموية (127 - 132هـ) هو الآخر من عظماء الخلفاء والقادة في تاريخ الإسلام، وأنه كان كفؤًا بارعًا، ولولا تكالبُ عوامل السقوط وبزوغ "دعوة آل عباس" لكان قادرًا على قيادة السفينة باقتدار. وبين هذين الرجلين العظيمين -مع اختلاف في درجة العظمة بينهما- تتابع خلفاء بني أمية الأربعة عشر، فكان منهم عظماء كبار، وبناةُ دولة من طرازٍ نادر، مثلَ عبدِ الملك بن مَرْوان (65-85هـ)، والوليد بن عبد الملك (86-96هـ)، وعُمرَ بن عبد العزيز (99-101هـ)، وهِشامِ بن عبد الملك (105-125هـ).
ومن يقرأ تاريخ الدولة الأموية، ويَدْرُسُ فتوحِاتها العظيمةَ، ونُظُمَها الإداريةَ الراقيةَ، ومساهمتَها الحضاريةً المشْرِقةَ، وكفاءة خُلفاِئها وولاتِها العالية، ربما لا يتوقع نهايتَها المفجعةَ، وسقوطَها السريع. وبالفعل يُعدُّ سقوطها وانهيارُ بنيانها الشامخِ من الأمور العجيبة في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ البشري كله". وإذا أردنا مقارنةً تاريخية بين شخصيات الدولة الأموية وأعمالها، وشخصيات عدد من الدول التي طال عمرها وأعمالها -كالدولة الفاطمية مثلًا في مصر والشام والحجاز (358-567هـ)- فسوف تكشف لنا هذه المقارنة أنَّ الأمويين لم يكونوا أقلَّ من غيرهم إن لم يكونوا أفضلَ منهم، سواءٌ في نوعية الشخصيات الحاكمة وإمكاناتها الخُلُقية والنفسية والفكرية، والتزامها بالإسلام، أم في الأعمال والإنجازات العامة السلمية والحربية التي قامت بها كل دولة من هذه الدول، ومن هنا نرى: أنه لا تطابق بالضرورة بين أعمار الدولة وبين عظمتها، وإن سقوط بني أمية السريع ليس دليلًا على عدم جدارتهم، كما أن امتداد أعمار بعض الدول ليس دليلًا –بالضرورة- على أهليتها للبقاء. ولربما يرى كثيرٌ من دارسي التاريخ أنَّ ميزان الأمويين -على قصر عمرهم- لا يقل عن ميزان العباسيين مع طول عمرهم (132-656هـ).
- والسؤال الذي كان ولا يزال يلح كثيرًا على مؤرخي الإسلام -والذي يُعَدُّ دليلًا على نوع من الاندهاش والحيرة إزاء هذا العمر القصير والسقوط السريع لدولة الفتوحات العظيمة- هو: عَلَى مَا سقطت هذه الدولة الشابة الفتية إذن؟!.
لقد اختلفت آراء المؤرخين قديمًا وحديثًا حول تفسير عوامل سقوط الدولة الأموية، مع اختلاف في إبراز هذا العامل أو ذاك. والواقع أنه ليس عاملًا واحدًا أو اثنين هما اللذان قوَّدا هذا البنيان الشامخ، وإنما تضافرت عدة أسباب، وتفاعلت لتكون معاول هدم في جسم الدولة الأموية لينهار ذلك الصرح الكبير. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في النقاط الآتية:
أولًا: الثورات التي قامت ضد بني أمية على امتداد تاريخهم وأهمها:
1- ثورات الشيعة العلويين بدءًا من ثورة "الحسين بن عليّ بن أبي طالب" ضد الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية (60-64هـ)، واستشهاده في "كربلاء" في المحرم (سنة 61هـ)، ومرورًا بثورة "التوابين" في الكوفة (64-65هـ)، وهم الذين خذلوا الحسين ولم يوفُّوا ببيعتهم له، ثم عبَّروا عن توبتهم بخروجهم ضد بني أمية يطلبون بثأره، وانتهى أمرهم بالهزيمة، ثم ثورة المختار بن عبيد الله الثقفي (66-67هـ) الذي استطاع أن يهزم جيوش الأمويين في أكثر من معركة، ويُقيم دولة في الكوفة وضواحيها، وينجح في قتل عبيد الله بن زياد أمير العراق، والمسئول الأول عن مقتل الحسين. وقد انتهت ثورته بمقتله على أيدي الزبيريين (سنة 67هـ) ثم ثورة "زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب" في الكوفة أيضًا (سنة 121-122هـ) زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (105-125هـ) وغير ذلك من ثورات العلويين.
وربما لا تكون هذه الثورات في وقتها ذات أثر عسكري كبير على الدولة الأموية -باستثناء حركة "المختار الثقفي"- لكن أثرها كان بعيد المدى في نفوس الناس. وهذا ما استفاده دُعاةُ العباسيين في مرحلة التحضير لثورتهم.
2- ثورات الخوارج: وهذه كانت من القوة والعنف والاتساع بحيث أسهمت إسهامًا واضحًا في إضعاف الدولة الأموية أمام أعدائها، فلم تتركها تستريح وظلت تنفجر في أماكن كثيرة، وبخاصة في العراق وجنوبي الجزيرة العربية حتى آخر لحظة في حياة الدولة، وقد بلغت حركة الخوارج أقصى درجات العنف في عهد مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين (127-132هـ) الذي شهد آخر ثورات الخوارج وأشدها خطرًا بقيادة "الضحاك بن قيس الشيباني" في العراق و"أبي حمزة الخارجي" في اليمن. وكان للجهود الحربية التي بذلها هذا الخليفة طيلة ثلاث سنوات في محاربة الخوارج -رغم الصعاب التي واجهته في أنحاء دولته- الأثر الكبير في زوال نفوذهم، وما كاد يرجع إلى "حَرَّان" -مقر إقامته- ليدبر شئون الخلافة بعد أن قضى على ثورات الخوارج حتى أعقبه القدر بمن هو أقوى شوكة، وأعظم أتباعًا، وأشد بأسًا من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخراساني يقود الجيوش العباسية في خراسان، ويستولي على المدينة بعد الأخرى. ويمكن القول: إنَّ الخوارج كانوا سِتَارًا كثيفًا حجب عن الولاة الأمويين بالعراق ما يجري في الكوفة وخراسان من الدعوة للعباسيين.
3- ثورات بعض كبار القادة، وأبرزها:
أ- ثورة عبد الله بن الزبير الذي خرج على الأمويين بعد موت معاوية بن أبي سفيان، رافضًا البيعة لابنه "يزيد". وقد أعلن نفسه خليفة في "مكة" بعد موت يزيد (سنة 64هـ)، واستطاع أن يُكَوِّن دولة واسعة شملت معظم أنحاء البلاد الإسلامية عدا منطقة الأردن في الشام، واستمرت نحو تسع سنوات (64-73هـ)، وانتهى أمره بمقتله وهو محاصر في مكة (سنة 73هـ).
ب- ثورة عبد الرحمن بن الأشعث الكندي في العراق (81-83هـ)، وهي أعنف ثورة واجهت الخليفة عبد الملك بن مروان، وسببها السياسة القاسية التي انتهجها أمير العراق والمشرق الحجاج بن يوسف الثقفي، إضافة إلى الطموح الشخصي الذي لعب برءوس بعض أبناء القبائل الكبرى. وقد انضم عدد من الفقهاء والعُبَّاد من كبار التابعين إلى ابن الأشعث، وصدقوا دعواه بأنه إذا بُويع بالخلافة فسيحكم بالعدل، ويعيد حكم الراشدين، ويمحو مظالم بني أمية، وكان منهم "عامر الشَّعْبي"، و"سعيد بن جبير". وقد استمرت هذه الثورة فترة تقرب من ثلاث سنوات، دارت خلالها نحو ثمانين معركة قُتِلَ فيها عشرات الألوف من الرجال، وكان آخرها معركة "دير الجماجم" التي استمرت وحدها مائة يوم، وانتهت بهزيمة ابن الأشعث ومقتله.
ج- ثورة يزيد بن المهلَّب بن أبي صُفرة (101-102هـ) وهو من أسرة "آل المهلَّب" العريقة، صاحبة الدور الكبير في مساندة الدولة الأموية في حربها مع الخوارج، والمشاركة في حركة الفتوحات الإسلامية على الجبهة الشرقية ببلاد خراسان وسجستان وغيرها. وقد اتسعت ثورته حتى شملت البصرة والجزيرة الفراتية والبحرين وعمَان وفارس والأهواز. وانتهت بمقتله وعدد كبير من أسرة "آل المهلَّب" سنة (102هـ).
ثانيًّا: العصبيات القبلية:
لقد جاء الإسلام بمبادئه الإنسانية التوحيدية ليقضيَ على روح العصبية القبلية التي كانت متفشية في المجتمع العربي، غير أنه لم يتسن إبَّان حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي عليها تمامًا، فظلت تخبو حينًا، وتظهر حينًا آخر، حتى وجدنا دلائل على استمرارها في أخريات حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم استردت شيئًا من عافيتها في خلافة عثمان رضي الله عنه، وبخاصة في أخرياتها، حتى كانت إحدى العوامل المحركة للخروج عليه واستشهاده رضي الله عنه، ثم وجدت هذه العصبية القبلية فرصتها في أجواء الفتنة التي أعقبت مقتل الخليفة الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي أثناء النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما والذي انتهى بقيام الدولة الأموية بتنازل الحسن بن عليّ رضي الله عنه عن الخلافة (سنة 41هـ).
وعلى الرغم من المجهودات الكبيرة التي بذلها بعض خلفاء بني أمية وولاتهم -وفي مقدمتهم معاوية بن أبي سفيان (41-60هـ) وعبد الملك بن مروان (65-86هـ) وأولاده من بعده الوليد (86-96هـ)، وسليمان (96-99هـ)، ويزيد (101-105هـ)، وهشام (105-125هـ)، وكذلك عمر بن عبد العزيز (99-101هـ) للحد من هذه العصبية والتعامل معها بتوازن شديد مدركين خطورتها على وحدة دولتهم وسلامة بنيانها الاجتماعي، فإننا نرى هذه العصبية تبرز بشكل خطير في بعض مراحل هذه الدولة، حتى تكون هي السمة الأكثر بروزًا، كما حدث في الفترة التي تَلَتْ موت يزيد بن معاوية (64هـ)، وتنازل ابنه معاوية عن الخلافة بالشام، وكما حدث بعد مقتل الوليد بن يزيد (125-126هـ) وانقسام البيت الأموي على نفسه في الفترة الأخيرة من حكم بني أُميَّة.
في هذه الفترة الأخيرة (125-132هـ) انفجرت العصبيات القبلية، وفتحت فاها كألسنة النيران، دون أن يستطيع أحد أن يوقفها أو يسدَّ فاها؛ لأنَّ بعض الخلفاء الأواخر لم يكونوا أهلًا للقيادة، فعجزوا عن التصدي لها، بل كانوا هم سببًا في اشتعالها. وقد زاد الأمر خطرًا أن تلك العصبيات انفجرت في الشام الحصن الحصين للدولة الأموية، فانقلبت عليهم القبائل "اليمنية" الحليف التقليدي لهم، بسبب تَقَلُّب سياسة الخلفاء وتذبذبها في الاعتماد على "اليمنيين" تارة، وعلى "القيسيين" تارة أخرى، فإذا تقدم اليمنيَّة احتلوا مراتب الدولة، ونكلُّوا بالقيسية، وإذا قدم أحد الخلفاء "القيسية" وعادوا إلى بعض مناصب الحكم نكَّلُوا من خصومهم "اليمنيين".
والأخطر من ذلك أنَّ العرب خلال عمليات الفتح الإسلامي حملوا خلافاتهم وعصبياتهم في كل أرض يَحلُّون بها، وبخاصة "خراسان" في مشرق العالم الإسلامي، حيث أسهم بعض ولاتها في تفاقم نار العصبية، والعمل على إشعالها، بسوء سياستهم وضيق أفقهم، فكان إذا جاء وال ينتسب إلى "اليمنية" تعصَّب لقومه، وخصهم بالوظائف والمزايا، واضطهد "القيسيين"، وإذا جاء والٍ من "القيسية" فعل عكس ذلك، والنتيجة أن "خراسان" لم تنعم بالاستقرار في أخريات حكم الأمويين، وكانت الأحوال تنتقل من سيِّئ إلى أسوأ مما ساعد الدعاة العباسيين -الذين اتخذوا من خراسان تربةً خصبةً لدعوتهم- على استثمار هذه الأوضاع لصالحهم، وأن يستغلوا الخلاف المتفاقم بين الفصائل العربية المتنازعة، ويحققوا نصرًا كبيرًا على الجيوش الأموية، كان المنطلق لتحقيق باقي الانتصارات ضد الوجود الأموي.
ثالثًا: موقف الموالي من الدولة الأموية:
الموالي هم سكان البلاد التي فتحها المسلمون، وكان هؤلاء من عناصر غير عربية ويمكن تقسيمهم إلى أربع طوائف رئيسة:
1- الطائفة الأولى: أسلمت إسلامًا حقيقيًّا ارتفع بها فوق العصبية القومية، مثل "الحسن البصري" (ت 110هـ)، ومحمد بن سيرين (ت110هـ)، وعطاء بن يسار الهلالي (ت 94هـ)، وعطاء بن أبي رباح (ت 114هـ) وغيرهم. وهذه الطائفة أسلمت وحَسُنَ إسلامها، ولم ترَ بأسًا في أن يحكمها العربُ، ونظرت إليهم نظرة تقدير واحترام؛ لأنَّهم سبب هدايتها، وقد بادل العرب هذه الطائفة وُدًّا بِوُدٍّ، وتقديرًا بتقدير. كما أنَّ علماء هذه الطائفة من الموالي كانوا موضع احترام من المجتمع والدولة، وكان تأثيرهم في الحركة العلمية عظيمًا.
2- الطائفة الثانية: وهم الذين أسلموا إسلامًا رقيقًا، ولم تتخلص تمامًا من الماضي، وظلت تفخر بالأمجاد الفارسية القديمة. وهذه الطائفة لم ترفض الإسلام دينًا، ولكنها رفضت السيادة والحكم العربيين، وظلت تسعى للقضاء عليهما، وكانت نواة "الحركة الشعوبية" التي نادت بتفضيل الفرس على العرب.
3- الطائفة الثالثة: وهي التي أسلمت نفاقًا؛ لأنَّها رأت أنَّ السبيل إلى المال والجاه لا يكون إلا بالدخول في الإسلام، فأعلنت اعتناقه، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم تدع فرصةً للكيد للمسلمين إلا كادتها، كما دعت إلى "الشعوبية" وإلى المذاهب الدينية الهدَّامة، وهذه الطائفة كانت أساسًا لحركة "الزندقة" التي ظهرت في مطالع العصر العباسي.
4- الطائفة الرابعة: وهي التي لم تسلم، وبقيت على ديانتها بفضل الحرية التي منحها العرب لأهل البلاد المفتوحة.
وقد كان لبعض الموالي من الفرس مواقف عدائية من الدولة الأموية، على الرغم من تسامح الحكومة معهم وإشراكهم في الإدارة، بل تفضيلهم أحيانًا على العرب أنفسهم، فلم يتركوا فرصة للخروج عليها إلا انتهزوها، ولا دعوة لثائر إلا انضموا إليها، فقاتلوا مع "المختار بن عبيد الله الثقفي" بالكوفة (66-67هـ)، وعبد الرحمن بن الأشعث (81-83هـ)، ويزيد بن المهلَّب (101-102هـ)، وغيرهم من الثائرين، كما أنَّهم ناصروا الخوارج، وتحالفوا مع الشيعة دائمًا، ويُذكر أن عدد الموالي الذين انضموا إلى ثورة ابن الأشعث كان مساويًا لعدد العرب المشاركين في هذه الثورة.
إن هذه المواقف العدائية من الموالي تجاه الدولة الأموية جعلت الباحثين يظنون أنهم فعلوا ذلك لظلمٍ وقع عليهم من الدولة، وراحوا يكيلون التُّهم جزافًا للأمويين، بأنهم متعصبون للموالي ضد الفرس، وهذا اتهام لم يقم عليه أي سند تاريخي، وبعيد عن واقع الأمر. والحق أن الدولة الأموية قد عُرفت بتسامحها مع غير المسلمين من أهل الذمة، فكيف تضيق بالمسلمين من الموالي وتضطهدهم؟ ولعل السبب الرئيس في عداء الموالي للدولة يكمن في أن طوائف منهم -كما ذكرنا- لم يستطيعوا أن يتخلصوا تمامًا من ماضيهم، حيث كانوا أصحاب السيادة على العرب قبل الإسلام، فلما فتح المسلمون بلادهم عزَّ عليهم أن يحكمهم العرب، فعملوا على تقويض الدولة. ومع ذلك -وفي الوقت الذي ننفي فيه القول باضطهاد الدولة الأموية للموالي- فإننا لا ننكر أن يكون بعض الولاة العرب قد نظروا إلى الموالي الفرس نظرة تعالٍ وتكبر، وأوقعوا بهم صورًا من الحيف والظلم، مثل فَرْض الجزية على من أسلم من أهل الذمة، لكنَّ ذلك لم يكن سياسة دولة وإنما نتج عن تجاوز وسوء فهم لأحكام الإسلام من بعض الولاة، أو "لأسباب سياسية، واقتصادية عمقت الشكوك في حقيقة إسلام هؤلاء الموالي".
رابعًا: التآكل والانشقاق الداخلي للبيت الأموي الحاكم وعدم المواءمة بين اتساع حركة الفتوحات والعمل على تثبيت الإسلام.
ومع أنَّ الثورات والفتن الكثيرة التي قامت ضد بني أمية على امتداد تاريخهم كانت من أسباب ضعفهم، وكبَّدت الدولة الكثير من الجهد والمال والرجال، فإنَّ ذلك لا يُعَدُّ من الأسباب الأساسية في سقوط بني أمية، فهذه الخلافات تكاد تكون من سنن الله في المجتمعات، ولا توجد دولة بلا خصوم من داخلها ومن خارجها.
ومع أننا لا نستطيع أن ننكر تأثير العصبيات العربية على مسيرة الدولة، وخصوصًا في الفترة الأخيرة من تاريخها، فإنَّ ذلك أيضًا لا يُعَدُّ من الأسباب الجوهرية لسقوط بني أمية، فإنَّهم استطاعوا في معظم تاريخهم تحقيق التوازن والعدل بين القوى المتنافسة على الرئاسة والشرف. وليس صحيحًا -كما ذكرنا- أنَّ الدولة الأموية كانت دولة عربية متعصبة ضد الموالي.
إنَّ ذلك كله لا يكفي لتفسير سقوط هؤلاء العظماء، وهي أسباب تكاد توجد في معظم الدول والحضارات، وكثير من الدول عاشت أضعاف ما عاشوا وهي تحمل جراثيم الفناء أكثر مما كانوا يحملون. وإذا كان الأمر كذلك كما قررنا فما الأسباب الحقيقية إذن؟
- ليس هناك إلا حقيقتان:
الأولى: حقيقة أن بني أمية انهاروا من الداخل، وأنهم انتحروا عندما تفرغوا لمحاربة بعضهم بعضًا، وتبادلوا مواقع الموت، وتركوا الدولة -في السنوات السبع الأخيرة (125-132هـ)- تتعرض لأشد المخاطر حتى جاء من قضى عليهم جميعًا، وهم العباسيون.
والحقيقة الثانية: أنَّ بني أمية وقعوا في خطأ حضاري كبير، وهو أنهم لم ينبعثوا بتيار حضاري يتمِّم تيارات الفتوحات الكبرى ويكمله، ويمتص كلَّ حركات الخروج والفتن. لقد كان بإمكانهم تحويل كل المناوئين لهم إلى عاملين معهم في مجال نشر الإسلام والعربية، والقضاء على الفِرَق والطوائف والشيع بالحوار والفكر، ونشر الإسلام الصحيح، وترجمته إلى لغات البلاد المفتوحة، وتحقيق إسلام وتعريب كاملين لهذه الأراضي الشاسعة التي فتحها الله عليهم. أي وبإيجاز تحقيق التوازن بين (الدولة والدعوة) أو (الأرض والعقيدة) أو (السياسة والفكر) وكانت هذه رسالة عظمى لم يتقدم فيها الأمويون بصورة كافية، كما تقتضي طبيعة الظروف والتحديات، وكما تقتضي الاستجابة الملائمة للتحدي. وهذا هو الخطأ الحضاري الكبير.
نشاط: 23.2
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
أكمل ما يأتي:
1- بنو أمية وقعوا في خطأ ........ كبير، وهو أنهم لم ينبعثوا بتيار حضاري (علمي - فكري - دعوي) يتمِّم تيارات ....... الكبرى ويكمله، ويمتص كلَّ حركات الخروج و .......
2- بنو أمية انهاروا من ......، وانتحروا عندما تفرغوا لـ....... بعضهم بعضًا، وتركوا الدولة في السنوات ...... الأخيرة تتعرض لأشد المخاطر حتى جاء من قضى عليهم جميعًا، وهم .....
3- السبب الرئيس في عداء بعض ........ للدولة الأموية يكمن في أن طوائف منهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا تمامًا من ......، حيث كانوا أصحاب ...... على العرب قبل الإسلام، فلما فتح المسلمون بلادهم عزَّ عليهم أن يحكمهم ......
4- يجمع المؤرخون على أن مؤسس الدولة الأموية الأول هو........ المتوفى 60هـ، ويجمعون كذلك على أن ........... آخر خلفاء الدولة الأموية (127-132هـ).
5- كان من أحد عوامل سقوط الدولة الأموية ....... التي قامت ضد بني أمية على امتداد تاريخهم وأهمها: ثورات......, وثورات........, وثورات بعض كبار .............. مثل ....... و ........ و .........
الإجابات النموذجية
1- حضاري- الفتوحات- الفتن.
2- الداخل – محاربة – السبع- العباسيون.
3- الموالي – ماضيهم- السيادة- العرب.
4- معاوية بن أبي سفيان- مروان بن محمد.
5- الثورات – الشيعة العلويين – الخوارج - القادة – عبد الله بن الزبير – عبد الرحمن بن الأشعث – يزيد بن المهلب بن أبي صفرة.
ملخّص الدّرس:
- علم الفقه: وهو من أجَلّ العلوم الإسلامية، فهو يعرف المسلم كَيف يعبد ربَّه، بما افترضه عليه من صيامٍ وصلاة وزكاة وحج وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلْم الصحابةَ ويُفقِّهُم في أمور دينهم، ثم تولَّى بعده الصحابةُ تلك المهمةَ، وبخاصةٍ بعد أن اتسعت الدولة الإسلاميةُ في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وفى العصر الأموي ظهر إمامان جليلان من أئمة الفقه الكبار، هما "أبو حنيفة النعمان" و"مالك بن أنس".
- علوم اللغة العربية: ظهرت بعضُ علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والعَروض في العصر الأموي، وكان الناسُ قبل ظهور الإسلام وبعده بفترة حتى عهد "علي بن أبي طالب" يتحدثون بلغةٍ عربيةٍ سليمةِ الأداء، فصيحةِ النطق، بالفطرة والسليقة اللغوية، دون أن يعرفوا ما يُسمى قواعد النحو أو الصرف، غير أن الأمرَ اختلف بعد دخول كثير من أبناء البلاد المفتوحة في الإسلام.
- علم السير والمغازي والتاريخ: وهو يعد من أوائل العلوم التي اهتم بها المسلمون الأوائل، وبخاصة أبناء الصحابة، حيث حرص آباؤهم على تعليمهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم كما كانوا يعلمونهم القرآن الكريم ومن أوائل علماء السيرة والمغازي: أبان بن عثمان وعروة بن الزبير بن العوام وشَرَحْبيل بن سعد ووَهْبُ بن مُنَبّه و محمد بن إسحاق.
- حركة الترجمة من اللغات الأجنبية: حافظ الأمويون على التراث الثقافي للبلاد التي كانت تحت حكمهم وقد تأخر المسلمون في البداية في نظرهم إلى العلوم الأجنبية؛ نظرًا لانشغالهم بالجهاد وتمكين الدولة الإسلامية، وتأسيس العلوم العربية التي سبق الحديثُ عنها، ولعدمِ معرفتهم على نطاق واسع باللغات الأجنبية. وحَسْب الأمويين أنهم حافظوا على تلك الثروة الهائلة، وصانوها من الضياع، ولولا ذلك ما وجد العلماء في العصر العباسي شيئًا يترجمونه. وقد توسعت حركة الترجمة إلى اللغة العربية في بغداد عاصمة الخلافة العباسية
أهم أسباب سقوط الدولة الأموية:
أولًا: الثورات التي قامت ضد بني أمية على امتداد تاريخهم وأهمها:
1-ثورات الشيعة العلويين.
2-ثورات الخوارج.
3-ثورات بعض كبار القادة، وأبرزها:
- ثورة عبد الله بن الزبير.
- ثورة عبد الرحمن بن الأشعث.
- ثورة يزيد بن المهلَّب.
ثانيًّا: العصبيات القبلية.
ثالثًا: موقف بعض فئات الموالي من الدولة الأموية.
رابعًا: التآكل والانشقاق الداخلي للبيت الأموي الحاكم وعدم المواءمة بين اتساع حركة الفتوحات والعمل على تثبيت الإسلام .
تمارين الدّرس:
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
ضع علامة (√) أمام العبارة الصحيحة وعلامة (×) أمام العبارة الخاطئة:
1- الليث بن سعد والأوزاعي اندثرا مذهبهما؛ لأنهما لم يجدا تلاميذًا يواصلون نشر مذهبيهما.
2- أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أول من أشار بوضع قواعد علم النحو.
3- تتلمذ على يد "عيسى بن عمر" أشهرُ علماء النحو واللغة ومنهم الخليل بن أحمد.
4- ومن أوائل علماء السيرة والمغازي: أبان بن عثمان: وهو ابن الخليفة "عثمان بن عفان".
5- قامت الدولة الأموية في المشرق من عام الجماعة 41هـ وانتهت سريعًا سنة 132هـ.
6- عدد خلفاء بني أمية كان اثني عشر خليفة كلهم عظماء كبار.
7- استمرت ثورة عبد الرحمن بن الأشعث في العراق فترة تقرب من ثلاث سنوات وانتهت بهزيمته ومقتله.
8- المواقف العدائية من بعض فئات الموالي تجاه الدولة الأموية كانت بسبب الظلم الواقع عليهم من الدولة.
الإجابات النموذجية:
1- (√)، 2- (×)، 3- (√)، 4- (√)، 5-(√)، 6- (×)، 7- (√)، 8- (×).
مراجع الدّرس:
1- تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ط: دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
2- وفيات الأعيان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن خلِّكان (ت681هـ) ط: دار صادر بيروت، 1968م، تحقيق، د. إحسان عباس.
3- سير أعلام النبلاء، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، الذهبي (المتوفى 748هـ) ط: مؤسسة الرسالة، بيروت 1985م.
4- البداية والنهاية، لعماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، د: دار الغد العربي، القاهرة، الطبعة الأولى.
5- نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات ابن الأنباري ، ط: مكتبة الأندلس، بغداد 1970م.
6- طبقات الأطباء، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لموفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة، الدمشقي المعروف بابن أبي أصيبعة، ت 668هـ، ط: درا مكتبة الحياة، بيروت.
7- إخبار العلماء بأخبار الحكماء، لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي، ت 646هـ، ط: مكتبة المتنبي بالقاهرة.
8- الفهرست، لأبي الفرج محمد بن أبي يعقوب، المعروف بابن النديم ت 385هـ، ط: دار المعرفة، بيروت 1978م.
9- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (ت463هـ) ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
10- بنو أمية بين الضربات الخارجية والانهيار الداخلي، د: عبد الحليم عويس، دار الصحوة للنشر، القاهرة، 14087هـ 19854م.
11- موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، الجزء الثاني: العصر الأموي، ط: شركة سفير، القاهرة 1996م.
خاتمة:
بهذا نكون قد وصلنا أخي الدارس إلى ختام الدرس الثالث والعشرين وهو ختام مادة التاريخ الإسلامي التي نرجو من الله أن تحقق منها كل النفع والفائدة، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما درسنا، ونسأله سبحانه أن يمن علينا جميعًا بالعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص والقبول.
هذا، والله وليُّ التَّوفيق. وصلى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.