إعادة الاعتبار
ـ التعريف بإعادة الاعتبار:
إن تنفيذ المحكوم عليه للعقوبة والتدبير الاحترازي المحكوم بهما، أو نيله عفواً خاصاً، أو سقوط عقوبته بالتقادم، لا يعني خلاصه نهائياً من آثار الحكم، بل تظل هذه الآثار عالقة به، ويحرم بنتيجتها من العديد من الحقوق، وتحسب في أحكام التكرار واعتياد الإجرام. والمعروف أن الأحكام التي تصدر عن المحاكم الجزائية ترسل بعد اكتسابها الدرجة القطعية إلى إدارة الأدلة القضائية لتدون في السجل العدلي،  ويمكن الرجوع إليها كلما احتاج الأمر إلى ذلك. وحسبنا أن نعلم بأن صورة السجل العدلي للمواطن في سورية من الوثاق الأساسية التي تطلب منه حين التقدم للوظائف أو الأعمال في الدولة، أو للحصول على رخصة أو إجازة أو منحة من الأجهزة الرسمية، وذلك للاطلاع على ما يطلق عليه بـ «صحيفة السوابق»، ومعرفة ما إذا كان المتقدم بالطلب محروماً من الحق الذي يبغي الحصول عليه أم لا.
وهذا الوضع شاذ، ولا يتفق مع منطق علاج الجاني وإصلاحه، لأن خروج المحكوم عليه من السجن إلى مجتمع يرفضه، ويسد أبواب العيش في وجهه، سيزيده حقداً، ويملؤه موجدة، ويدفعه للعودة إلى طريق الجريمة.
وعلى ذلك فقد عمد المشرع السوري إلى تبني مؤسسة إعادة الاعتبار (في المواد 158 ـ 160 من قانون العقوبات، والمواد 426 ـ 433 من قانون أصول المحاكمات الجزائية)، لإنهاء الحالة التي يكون عليها المحكوم عليه بعد انقضاء عقوبته بالتنفيذ، أو بالعفو الخاص، أو بالتقادم، ومحو آثار الحكم بالإدانة محواً كاملاً، وإعادة حقوقه السياسية والمدنية إليه.
ـ تقسيم:
إعادة الاعتبار في التشريع السوري على نوعين: قضائية وقانونية، وسندرس هذين النوعين في مطلبين، ثم نخصص مطلباً ثالثاً لإجراءات إعادة الاعتبار، ومطلباً رابعاً وأخيراً لآثار إعادة الاعتبار.
المطلب الأول
إعادة الاعتبار القضائية
ـ تعريف:
سميت إعادة الاعتبار القضائية بهذا الاسم لأنها من اختصاص القضاء، وتفترض عودة المحكوم عليه إلى الجهة القضائية المختصة لطلب إعادة اعتباره، ولهذه الجهة سلطة تقديرية في قبول الطلب أو رفضه.
ـ شروط إعادة الاعتبار القضائية:
تخضع إعادة الاعتبار القضائية لخمسة شروط بينتها المادة 158 من قانون العقوبات، ولابد من توافر هذه الشروط مجتمعة ليتمكن القضاء من قبول طلب المحكوم عليه بإعادة اعتباره. وهذه الشروط هي الآتية:
أولاً ـ تنفيذ العقوبة أو انقضاؤها بالعفو الخاص أو بالتقادم:
ويفترض هذا الشرط في المحكوم عليه الذي يتقدم بطلب إعادة اعتباره أن يكون قد نفذ عقوبته، ونال جزاءه، وأهلته هذه العقوبة للعودة إلى المجتمع إنساناً عادياً سوياً، يمارس حقوقه، ويؤدي واجباته، كغيره من المواطنين العاديين. ويراد بتنفيذ العقوبة أن يكون المحكوم عليه قد نفذها بكاملها، فإذا كانت الحبس، فيتوجب أن يكون المحكوم عليه قد أمضى في السجن المدة المحكوم بها، وإذا كانت الغرامة، فيتوجب أن يكون قد دفع مبلغها بكامله أو قضى مدة الحبس المستبدل بها.
وقد ذهبت محكمة النقض السورية إلى أن إعادة الاعتبار لازم في حالة وقف التنفيذ في الجنحة، وتبتدئ المدة القانونية لإعادة الاعتبار بعد انتهاء مدة التجربة. وقد عللت هذا الموقف بقولها: «... وكان ظاهراً من ذلك أن إعادة الاعتبار لا تمنح في الجنحة إلا بعد مرور ثلاث سنوات على تنفيذ الحكم، وأن وقف التنفيذ يبقي الحكم معلقاً في مدة التجربة، وهي خمس سنوات، فلا يعد الحكم منفذاً إلا بعد انتهائها، وحينئذ تبتدئ المدة القانونية لإعادة الاعتبار. وهكذا يبدو أن المحكوم عليه في حالة وقف التنفيذ معرض لمعاملة أقسى ممن قام بالتنفيذ، وذاق طعم العقوبة، إلا أن القانون كافأه على ذلك بإلغاء الحكم حينما تمر فترة التجربة بسلام...».
ونحن لا نشارك محكمة النقض هذا الرأي، فلا حاجة في تقديرنا لمن حكم عليه، وأوقفت المحكمة تنفيذ الحكم، أن يطلب إعادة اعتباره، لأن انقضاء مدة التجربة في وقف التنفيذ دون نقضه، لا يلغي العقوبة فقط، وإنما يمحو الحكم بأكمله ويزيل آثاره جميعها. وهذا هو المقصود بقول المشرع في المادة 171 من قانون العقوبات: «إذا لم ينقض وقف التنفيذ عد الحكم عند انقضاء مدة التجربة لاغياً، ولا يبقى مفعول للعقوبات الإضافية والتدابير الاحترازية ما خلا الحجز في مأوى احترازي والمصادرة العينية وإقفال المحل المنصوص عليه في المادة الـ 104». فعبارة «عد الحكم... لاغياً»، الواردة في هذه المادة، تعني دون ريب، إلغاء الحكم برمته، باستثناء الحجز في مأوى احترازي والمصادرة العينية وإقفال المحل، وهي تدابير احترازية تتعلق بحماية المجتمع، ولا تأثير لبقائها على زوال الحكم.
ويتوجب على من يطلب إعادة اعتباره أن يكون قد نفذ أيضاً ما يلازم العقوبة من تدبير احترازي مانع للحرية، كالحجز في مأوى احترازي، والعزلة،والحجز في دار للتشغيل.
وأجاز المشرع إعادة اعتبار المحكوم عليه الذي انقضت عقوبته أيضاً بالعفو الخاص أو بالتقادم. فهذان السببان يُسقطان العقوبة ويحولان دون تنفيذها.
ثانياً ـ مرور مدة زمنية معينة (مدة التجربة) على تنفيذ العقوبة أو العفو الخاص عنها أو سقوطها بالتقادم:
فرض المشرع على من يتقدم بطلب إعادة اعتباره أن يكون قد مر بمدة زمنية معينة، يمكن أن نطلق عليها اسم «مدة التجربة»، يكون قد أثبت خلالها جدارته للعودة إلى الحياة الاجتماعية العادية.
ومدة التجربة هي سبع سنوات في الجناية، وثلاث سنوات في الجنحة. وتبدأ هذه المدة من يوم الإفراج عن المحكوم عليه، أو صدور مرسوم العفو الخاص، أو سقوط عقوبته بالتقادم، أما إذا كانت العقوبة المقضي بها هي التجريد المدني، فتجري المدة منذ اليوم الذي يصبح فيه الحكم مبرماً. وعند الحكم بالحبس الإضافي، تجري المدة منذ انقضاء أجل هذه العقوبة، أما إذا كانت العقوبة المقضي بها هي الغرامة، فتجري المدة منذ يوم الأداء أو انقضاء أجل الحبس المستبدل.
وتضاعف مدة التجربة، أي تصبح أربعة عشر عاماً في الجناية، وستة أعوام في الجنحة، إذا كان المحكوم عليه مكرراً، أو سبق له أن منح إعادة الاعتبار.
وترى محكمة النقض السورية «أن المقصود بمضاعفة المدة لمن سبق منحهم إعادة الاعتبار، هم المحكومون بجرائم وقعت بعد صدور قرار إعادة الاعتبار، شأنهم في ذلك شأن المكررين. أما حين يرتكب شخص جرماً لاحقاً قبل الحكم عليه في الجرم الأسبق، فإنه يعاد اعتباره عن كل منهما بمعزل عن الآخر، ولا تضاعف هذه المدة».
ثالثاً ـ عدم صدور حكم لاحق بحق المحكوم عليه يقضي بعقوبة جنائية أو جنحية:
وهذا الشرط تفرضه السياسة التشريعية لإعادة الاعتبار، وحكمة وجوده. فإعادة الاعتبار تمنح للمحكوم عليه الذي يردعه الحكم السابق، ويُقوّم سلوكه، أما المحكوم عليه الذي يرتكب أثناء مدة التجربة جناية أو جنحة، فإنه يبرهن بجريمته الجديدة على أنه ما يزال متابعاً لطريق الجريمة، وأنه لم يحن الوقت بعد لإعادة اعتباره.
ومفعول الحكم اللاحق بعقوبة جنائية أو جنحية هو قطع سريان مدة إعادة الاعتبار، أي زوال المدة التي سبقت الحكم اللاحق، وبدء سريان مدة جديدة محسوبة من تاريخ الحكم اللاحق.
وقد أكدت محكمة النقض السورية، على أن الحكم اللاحق الذي يقطع مدة إعادة الاعتبار القضائية هو الحكم الذي يصدر قبل انتهائها، وقالت في ذلك: «إن المادة 158 من قانون العقوبات قد نصت على أن كل محكوم بعقوبة جنائية يمكن منحه إعادة الاعتبار بعد انقضاء سبع سنوات على تنفيذها، بشرط أن لا يكون قد صدر بحقه حكم لاحق، لأن كل حكم لاحق يقطع سريان المدة. ومؤدى ذلك أن واضع القانون قد أعطى المحكوم عليه فرصة مناسبة لإصلاح نفسه وإظهار انسجامه مع المجتمع الذي يعيش فيه، وكافأ من استقام أمره وحسنت أخلاقه بإعادة اعتباره إليه، وإلغاء مفاعيل الحكم الذي سجل عليه، واشترط لذلك شروطاً منها مرور سبع سنوات في الجناية، وعدم صدور أحكام عليه في أثنائها. أما إذا صدر الحكم بعد انقضائها، فلا تأثير له في ذلك، فقد جاء في المادة المذكورة أن الأحكام اللاحقة تقطع سريان المدة، وفي هذا دليل على أنها يجب أن تصدر قبل انتهائها، حتى تكون قاطعة لمرور الزمن، إذ لا معنى لانقطاع الزمن بعد انقضائه. وكانت المحكمة قد أخطأت في تأويل القانون وتفسيره حينما ذهبت إلى أن الحكم اللاحق يحول دون إجابة الطلب، ولو كان صدوره بعد سبع سنوات، مما يتعين معه نقض القرار المطعون فيه». 
وقد كررت محكمة النقض السورية هذا الموقف في تطبيقها لأحكام المادة 159 من قانون العقوبات، المتعلقة بإعادة الاعتبار القانونية.
رابعاً ـ وفاء الإلزامات المدنية المحكوم بها:
الإلزامات المدنية التي يحكم بها على الجاني عادة هي الرد والتعويض المدني ومصاريف الدعوى.
والوفاء بهذه الإلزامات دليل يبرهن به المحكوم عليه على احترام حقوق الغير، وعلى رغبته في العودة إلى الحياة الاجتماعية العادية، وهو بريء الذمة من كل ما نتج عن جريمته من آثار مدنية.
ويقبل المشرع بديلاً للوفاء بالإلزامات المدنية سقوط هذه الإلزامات بأحد أسباب سقوط الإلتزام المدني، كالتنازل والمقاصة والحوالة والتقادم.
وقد أجاز المشرع للقضاء أن يتجاوز عن شرط الوفاء بالإلزامات المدنية المحكوم بها إذا أثبت المحكوم عليه أنه في حالة لم يتمكن معها من الوفاء بهذه الإلزامات.
أما إذا كانت جريمة المحكوم عليه هي الإفلاس، فعليه أن يثبت أنه قضى الدين أصلاً وفائدة ونفقات، أو أنه أعفي منها.
خامساً ـ صلاح المحكوم عليه:
وهذا الشرط هو محور فكرة إعادة الاعتبار، لأن حسن سلوك المحكوم عليه، وصلاحه فعلاً، ينفي مبرر الإبقاء على حكم الإدانة بكل آثاره الماسة بالحقوق والاعتبار.
ويثبت صلاح المحكوم عليه من سجلات السجن ومن سيرته بعد الإفراج عنه، وللمحكمة سلطة تقديرية في التحقق من سلوك المحكوم عليه، وتقييمه أخلاقياً واجتماعياً، وتقدير كفايته لممارسة حياته الطبيعية.
Previous Post Next Post