مواقع التواصل الاجتماعي المكان الافتراضي والزمن الميدياتيكي
اصبحت تتشكل بفضل شبكة الإنترنت فضاءات تواصلية عدة هي بمثابة أمكنة إفتراضية، نتحدث عبر غرف الحوار والدردشة، بدون حدود وبدون تاريخ، ونتعامل مع هذه الفضاءات بعدّها أمكنة، ذات شحنة ثقافية يكون الحوار والتواصل اساسها. ويعدّ المكان الإفتراضي مصطلحا حديث التداول الفكري، "ويقصد به كل ما له صلة بالفضاء التخيلي، بشقه المادي والمتمثل في إبداع سبل جديدة في هندسة تكنلوجيات الإفتراضي وبشقه الإعتباري، يضم أنشطة عالمنا الواقعي المعتاد، أو في إمكانه أن يضمها جميعها ويضم أشياء جديدة أخرى".
        ومن بين مزايا المكان الإفتراضي هو نهاية فوبيا المكان، إن الخوف من المكان دليل على تملكنا لمكان آخر، وعندما ندخل في منظومة المكان الإفتراضي نصبح لا نخشي شيئا بحكم عدم مقدرتنا على تملك الإفتراضي بإعتباره فضاء، لذلك وصفت شبكة الإنترنت كفضاء إفتراضي بأكثر الأمكنة تحررية، وعدم مقدرة أي طرف إمتلاكها(1).
ومن الخصائص البارزة للإنترنت، تتجلّى في قيام نظام الإنترنت، على معادلة زمنيّة تجمع في الوقت ذاته، السّرعة اللّحظيّة، وسرعة الطّواف، وهذا ما عنه البعض بالزّمن العالمي الذي  هوّ بمثابة الزّمن العابر "للحدود بين القارّات والمجتمعات واللّغات عبر طرقات الإعلام المتعدّد، التي تنقل الصّور والرّسائل بالسّرعة القصوى من أيّ نقطة في الأرض إلى أيّ نقطة أخرى"، ويقابل هذا الزمن، ما أسماه الدكتور عبد الله الحيدري" بالزّمن الميدياتيكي"، وصورة ذلك هوّ أنّ حياة الفرد اليوم ظلّت متصلة اتصالا لا فكاك منه بوسائل الإعلام والاتصال الإلكترونيّة إلى حدّ تفكّك الرّوابط الحميميّة الأسريّة والاجتماعيّة الأخرى.
فالزمن الميدياتيكي هوّ الزمن الذي نحقّقه في صلاتنا المستمرّة مع وسائل الاتصال بوصفنا أفرادا اجتماعيين ولا يعدو أن يكون زمنا وسائطيّا لاعتمادنا، في الإنتاج والتفكير والتواصل والتفاعل، على تقنيات الإعلام والاتصال، ويحتضن ميول الأفراد واتجاهاتهم بوصفهم متابعين، مستهلكين ومنتجين للصّناعات الإعلاميّة المتدفّقة بأقدار لم يشهدها تاريخ صناعة المضامين، كلّ مجتمع ينتج تمثّله للزمن عن طريق الأنشطة التي يقوم بها، في المقابل كل مجتمع تقوده منظومة  القيم الميدياتيكيّة إلى بناء تمثّله للزّمن(1).
ويتسم المجتمع الافتراضي بمجموعة من السمات الآتية(2):
1- المرونة وانهيار فكرة الجماعة المرجعيّة بمعناها التقليدي، فالمجتمع الافتراضي لا يتحدّد بالجغرافيا بل الاهتمامات المشتركة التي تجمع معاً اشخاصاً لم يعرف كلٌ منهم الآخر بالضرورة قبل الالتقاء إليكترونياً.
2- لم تعد تلعب حدود الجغرافيا دوراً في تشكيل المجتمعات الافتراضيّة، فهي مجتمعات لا تنام، يستطيع المرء أن يجد من يتواصل معه في المجتمعات الافتراضيّة على مدار الساعة.
3- ومن سماتها وتوابعها أنّها تنتهي إلى عزلة، على ما تعد به من انفتاح على العالم وتواصل مع الآخرين. هذه المفارقة يلخّصها عنوان كتاب لشيري تيركل "نحن معا، لكنّنا وحيدانً/ وحيدون: لماذا أصبحنا ننتظر من التكنولوجيا أكثر مما ينتظر بعضنا من بعض؟"(3). فقد أغنت الرسائل النصيّة القصيرة، وما يكتبون ويتبادلون على الفيسبوك والبلاك بيري عن الزيارات. من هنا لم تعد صورة الأسرة التي تعيش في بيت واحد بينما ينهمك كلّ فرد من أفرادها في عالمه الافتراضي الخاص، لم تعد مجرّد رسم كاريكاتيري، بل حقيقة مقلقة تحتاج مزيدا من الانتباه والاهتمام.
4- لا تقوم المجتمعات الافتراضيّة على الجبر أو الإلزام بل تقوم في مجملها على الاختيار.
5- في المجتمعات الافتراضيّة وسائل تنظيم وتحكّم وقواعد لضمان الخصوصيّة والسريّة، قد يكون مفروضا من قبل القائمين، وقد يمارس الأفراد أنفسهم في تلك المجتمعات الحجب أو التبليغ عن المداخلات والمواد غير اللائقة أو غير المقبولة*.
6- أنّها فضاءات رحبة مفتوحة للتمرّد والثورة – بداية من التمرّد على الخجل والانطواء وانتهاء بالثورة على الأنظمة السياسيّة.
7- تتسم المجتمعات الافتراضية بدرجة عالية من اللامركزية وتنتهي بالتدريج إلى تفكيك مفهوم الهويّة التقليدي. ولا يقتصر تفكيك الهويّة على الهويّة الوطنيّة أو القومية بل يتجاوزها إلى الهويّة الشخصية، لأنَّ من يرتادونها في احيان كثيرة بأسماء مستعارة ووجوه ليست وجوههم، وبعضهم له أكثر من حساب(1).
جدلية قيم حتمية تقنية الاتصال والمجتمع
يكمن النظر للتغير الاجتماعي برؤية "حتمية" التحول في ثلاثة مسارات. أولهما، ما يعرف "بالحتمية التقنية"Technological Determinism . وثانيهما، ما يعرف "بالحتمية الاجتماعية"Social Determinism، وإن لكلا المسارين وجهات نظر تدعم تفسيره، إلا إن التفسير الذي قدمه بعض المفكرين "في اختلاف معدل التغير في كل من الثقافة المادية واللامادية، نتيجة التأثير التقني في المجتمعات يعدّ الأساس في التحليل الاجتماعي لتقنية الاتصال"، مع احتمال "حدوث تصادم بين التغير التقني والتغير الثقافي"، ويترتب عليه خلل وظيفي مما يؤثر في تفكير أفراد المجتمع، وتتوتر القيم والإيديولوجيات السائدة(2).
وتبرز الحتمية الاجتماعية في مقابل الحتمية التقنية على أساس "أنّ القوى الاجتماعية بأنواعها تمتلك زمام تطور التكنولوجيا، وتؤثر في تطويرها وتوجيهها. واشتهر في هذا الاتجاه، الأمريكي لزلي وايت". وقدم وايت الطرح التالي: "إن النسيج الاجتماعي هو الثقافة المتقدمة بخطى التكنولوجيا، وتبنى المجتمعات البشرية ثقافيا بواسطة المادية التكنولوجية، وتبنى اجتماعيا بفعل التطور الاجتماعي، بمعنى جدلية الاجتماع/ التقنية"(3).
"وتعدّ وسائل الاتصال عنصرا أساسا في المجتمع، لكن النظر إليها على أنها أساس عملية التغير الاجتماعي ينقلها إلى دائرة "الحتمية"، وهذا ما رفضه علم الاجتماع المعاصر. وتؤدي الثقافة اللامادية، كالإيديولوجيات السياسية والاجتماعية إلى تغير واسع في حياة المجتمع، أكثر من تأثير الثقافة المادية في بعدها التكنولوجي، ولكن يصعب قياس هذه التغيرات "التغير المادي واللامادي"، مما أدى إلى إطلاق النظرة النسبية".
ثم ظهر مفهوم الحتمية المعلوماتية في بداية الألفية الثالثة، إذ "لم يعد يقاس مدى تقدم الدول، على أساس نتاجها القومي، بل: إجمالي نتاجها المعلوماتي القومي". وأهم المفكرين في هذا، هو سكوت لاش عالم الاجتماع، إذ اهتم بالتغير المعاصر في عصر "ما بعد الحداثة"، ونبه إلى تناقض عصر ما بعد الحداثة، لأنه يفرض على الإنسان صعوبة العيش فيه دون أدواته الاتصالية التي تربطه بالمجتمع. فمثلاً، "لا نستطيع العمل من دون هاتف نقال، أو الحاسوب، ..."، أي أشكال تقنية للحياة الاجتماعية. ويؤكد سكوت لاش "انه تصبح لإشكال الحياة خصائص جديدة عن طريق العمل بالتكنولوجيا، واهم هذه الخصائص: هي أن "تتسطح أشكال الحياة، ويتفاعل كل شيء عن طريق وسائل الاتصال"(1).
ولا يمكن القول إن عوامل التغير يمكن تعليلها بعامل وحيد، إذ يبين الواقع  تساند عوامل عدة، "اقتصادية، وتعليمية، وأيدي عاملة، وجغرافية، وتكنولوجيا، وقادة مخلصون، وإعلام مسؤول، وإيديولوجيا موجهة"، تتفاعل هذه العوامل لإحداث التغير. لذلك يصعب تحديد العامل الفاصل في التغير، بشكل ديناميكي عبر الزمن. "ولكن نستطيع القول أن الثقافة فقدت السيطرة على المجال التقني، وتحولت إلى أداة تطوع ما تفرضه هذه التكنولوجيا من متطلبات. ويبرز ذلك في تقليد "الحتمية التقنية" ثم لاحقاً في "الحتمية الإعلامية"".

(1) د. جمال الزرن، "هندسة المكان الإفتراضي منتجة لخطاب ثقافي"، مدونة مقعد وراء التلفزيون: الإعلام والاتصال والمجتمع.                                                                      http://www.jamelzran.jeeran.com
(1) د.عبد الله الزين الحيدري،((ما المقصود بالزمن الميدياتيكي؟))، مدونة أجيال.
(2) د. بهاء الدين محمد مزيد، "المجتمعات الافتراضية بديلاً للمجتمعات الواقعية/ كتاب الوجوه نموذجاً"، جامعة الامارات العربية المتحدة، 2012م.
(3) أولجا جوديس بيلي، وآخرون، "فهم الإعلام البديل"، مصدر سبق ذكره، ص56.
Sherry Turkle, " Together: Why We Expect More from Technologies than from Each Other Alone", New York: Basic Books, 2011.
* وقد تابعنا تدخُّلات الحكومات العربية، بتعليق حسابات بعض من وجدت فيهم خطراً على استقرارها السياسي والاجتماعي مع اندلاع الثورات في عدد من البلاد العربيّة. في حالات أخرى تلجأ بعض الحكومات إلى تعطيل قنوات الاتصال جملة وتفصيلاً لضمان عدم التنسيق بين أفراد الجماعات التي تهدّد أمن البلاد من وجهة نظر تلك الحكومات.
(1) د. بهاء الدين محمد مزيد ، "مصدر سبق ذكره".
(2) د.علي محمد رحومة،((الانترنت والمنظومة التكنو-اجتماعية))، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م، ص75 .
(3) المصدر السابق نفسه، ص83.
(1) د.علي محمد رحومة، "مصدر سبق ذكره"، ص86. د. عبد الغني عماد، "مصدر سبق ذكره"، ص206.
Previous Post Next Post