إن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي  * وفرت "فتحاً تاريخياً" نقل الإعلام إلى آفاق غير مسبوقة وأعطى مستخدميه فرصاً كبرى للتأثير والانتقال عبر الحدود بلا رقابة إلا بشكل نسبي محدود. وابرز حراك الشباب العربي الذي تمثل بالثورات التي شهدتها بعض الدول العربية قدرة هذا النوع من الإعلام على التأثير في تغيير ملامح المجتمعات، وإعطاء قيمة مضافة في الحياة السياسية، وانذار لمنافسة الإعلام التقليدي.
استخدم الشباب في بداية الأمر مواقع التواصل الإجتماعي للدردشة ولتفريغ الشحن العاطفية، ولكن يبدو أن موجة من النضج سرت، وأصبح الشباب يتبادلون وجهات النظر، من أجل المطالبة بتحسين إيقاع الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية ومن هنا تشكلت حركات الرفض الشبابية التي إنتظمت في تونس مروراً بمصر واليمن وليبيا والبحرين والأردن. وتخطت تلك الأفكار الرافضة للسياسات بسهولة عبر شبكات التواصل الإجتماعي الوطن العربي.
واستخدم كبار الشخصيات هذه الوسائل الجديدة واقتطعوا وقتاً معيناً من الأنشطة الأخرى لصالحها، لإيمانهم بأنها البوابة الحقيقة والجادة للتواصل وسماع الناس والمواطنين، وبهذا سيتغير المشهد الإعلامي قريباً بشكل واضح للعيان في عالمنا العربي.
ولهذا تثير علاقة مواقع التواصل الاجتماعي بالإعلام إشكاليات عدة، لايمكن اختزالها في الابعاد التقنية المستحدثة في مجال البث والتلقي، إذ تجعلها عاملاً محدداً للتحولات الثقافية وتستبعد أنماط التواصل الجديدة. ولهذا سيعتمد بحثنا على المفاهيم النظرية القادرة على تحليل الاشكال الإمبيريقية* لمواقع التواصل الاجتماعي، بالاعتماد على نماذج الاتصال، لفهم الظاهرة كحقل تتفاعل فيه التقنية والتواصل كعملية اجتماعية معقدة، وايضاً من منطلق مقاربة خصوصيته كممارسة إعلامية، أفرزتها الوسائط الإعلامية الجديدة التي تعمل داخل بيئة تواصلية متغيرة تسهم في تشكيلها تقنيات المعلومات والاتصال. وتستعرض الدراسة مجموعة من التعريفات، وتحليل الرؤى النظرية التي اتيح للباحثة الاطلاع عليها، التي يتم تداولها لدى المتخصصين في هذا المجال. ونصل بعد ذلك الى جملة من الخلاصات لمجموعة الرؤى المطروحة عن مواقع التواصل الاجتماعي وعن مداخل* فهمه.
أهمية البحث
1- تكمن أهمية هذا البحث في أنّه من البحوث التي تعنى بموضوعات العصر وتنامي دور الشباب في رسم خريطة التغيير السياسي في الوطن العربي.
2- مواقع التواصل الاجتماعي، التي من الممكن اذا "وظفت من ان تسهم في إعلاء قيم المعرفة والنقد والمراجعة وحوار الذات، وهي القيم التي ينطلق منها أي مشروع تنموي ثقافي"(1).
3-"عدّ مواقع التواصل الاجتماعي إعلاماً بديلاً: ويقصد به "الموقع الذي يمارس فيه النقد. ويولد أفكاراً وأساليب لها أهميتها، وأيضاً طرقاً جديدة للتنظيم والتعاون والتدريب بين إفراد المجتمع. وربما الأكثر أهمية، يشير الى أن البديل يتناول الموضوعات الحساسة في الآليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتوترات بين السيطرة والحرية، وبين العمل والبطالة، وبين المعارضة والحكومة*"، ومن ثم يتضاءل البديل إلى إن يصبح نمطاً، للاتصال الجماهيري"(2).
4- تعدّ مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة للتواصل بين الحكام وصناع القرار والجمهور  ، اذ يؤدي غياب الحوار، إلى اختلال العلاقة بينهما.
مشكلة البحث
لا تمثل مواقع التواصل الاجتماعي العامل الأساس للتغيير في المجتمع، لكنها اصبحت عامل مهم في تهيئة متطلبات التغيير عن طريق تكوين الوعي, في نظرة الإنسان إلى مجتمعه والعالم. فالمضمون الذي تتوجّه به عبر رسائل إخبارية أو ثقافية أو ترفيهية أو غيرها، لا يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة فقط، بل انه يسهم في تكوين الحقيقة، وحل اشكالياتها.
ولكن لكي يحدث التغيير في المجتمعات العربية، لا بد من أن يصاحبه تغيير في "الذهنيات والعقليات"**، وفي البنية الثقافية ككل حتى يتم التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وبالمقابل كل ما يطرأ من تبدل قيمي أو مفاهيمي "ايجابي" يحدث تغييراً في الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تؤثر في بناء المجتمع العربي. وتشكل تكنولوجيا الاتصال البنية التحتية لصياغة ونشر ثقافة تفرض قيمها، بهدف ضبط السلوك الإنساني بما يتلاءم مع النظام العالمي الجديد، أي عوامل إنتاج معرفي. ووفقاً لهذا ينطلق البحث من تساؤلات عدة:
1- ما هي شبكات التواصل الاجتماعي ؟
2- ما هو الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في انتفاضات الشعوب العربية ؟
3- هل يمكن أن يكون لتأثير وتطبيقات هذا الاعلام الجديد صيرورة اجتماعية وسياسية مستقبلاً، وتصبح مجتمعاتنا العربية عبارة عن تكتلات سوسيولوجية رقمية "مجتمعات افتراضية" ؟
4- هل تعدّ مواقع التواصل الاجتماعي "إعلام بديل" ؟.

* هناك تداخل بين مفهوم مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، والإعلام البديل، والإعلام الاجتماعي،  ومن الممكن إن يحل المفهوم الأول محل الثاني والثاني محل الأول، وهكذا والتفاصيل في ثنايا متن البحث.
* الامبيريقية: تعني ان المعرفة قائمة على التجربة المباشرة او الملاحظة التي تقوم على ما تدركه الحواس وحدها، وان كل قول لايمكن فحصه عن طريق الحواس لاقيمة له.
نقلاً عن: د. عبد الغني عماد،((سوسيولوجيا الثقافة- المفاهيم والإشكاليات من الحداثة إلى العولمة))، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2006م، ص
* يشير مصطلح المدخل إلى نظرية لم تستقر بعد، وذلك كي يتمكن الباحثون من الرجوع إليها في أي وقت وأي مجتمع لتفسير العلاقات القائمة بين متغيرات ظاهرة ما، ويعد الاستقرار صعبا في العلوم الإنسانية.
(1) مجموعة مؤلفين،((التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية))، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2008م، ص9.
* "جاء التعبير عن الحركات الاجتماعية الجديدة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية عبر الموسيقى الشعبية، وبدأت بموسيقى البلوز، وهو الشكل الذي بدأت تجمعات أوسع التعرف عن طريقه على رد الفعل الافرو-أمريكي على الاضطهاد، وتطلعه إلى الحرية. وفيما بعد انتظمت مشاعر الأمريكيين المعادين للحرب في فيتنام حول موسيقى الروك، والعروض الموسيقية الحية، كنوع من الاحتجاج السياسي، والتي يمكن أن تغير العالم سياسيا. وكانت الحركات الاجتماعية تتعرض للتجاهل أو الاضطهاد من قبل السياسات السائدة. ولم تجد فرصة التعبير إلا في المجال الخاص للهوية والتكوين الذاتي". نقلا عن: جون هارتلي وآخرون،((الصناعات الإبداعية))، ترجمة: بدر السيد سليمان الرفاعي، الكويت، عالم المعرفة، 2007م، ج1، ص144ص145
(2) المصدر السابق نفسه، ص72ص73.
** الذهنيات: هي "الغلاف ألمفاهيمي والمعرفي الشامل الذي يغطي صور وإحكام وتصورات وتصرفات شعب معين "ذهنية العرب، أو الانكليز ...الخ".
       العقليات: هي "البناء ألمفاهيمي الجزئي الذي تنضوي تحت لوائه مثلا: عقلية الأغنياء، وعقلية الفقراء، وعقلية النساء... الخ. ومن ثم فان الذهنية العامة قادرة على احتواء العقليات المتنافرة والمتخاصمة لأنها تقوم على عناصر شاملة وعديدة لا على عنصر واحد". تقلا عن: د.عبد الغني عماد،((مصدر سبق ذكره))، ص330.
أحدث أقدم