المقصود بالسكران فاقد للعقل
فموضوع السكر حقيقة محل كلام يجب أن نقف عنده وننبه إليه أن كلام العلماء في أصول الفقه غير واضح وغير منضبط عن أحكام السكران وعن ضوابطه التي تحكم أحكامه لذلك نجد نوعا ً من التناقض بينما يذكر في أصول الفقه وبين ما يذكر في الفقه وهنا أشار المرداوي إلى أن التنظير هنا يختلف في أصول الفقه عما هو في الفقه لكن ينبغي أن ننبه إلى بعض الأمور التي ينبغي الإشارة إليها في موضوع تكليف السكران وهو الذي يشرب ما يزيل عقله سواء كان شاربا له بطريق محرم أو بطريق مباح .
ç أولا ً : في تحرير محل النزاع في مسألة تكليف السكران
1) اتفق العلماء على أن السكران المعذور في سكره أي الذي سكر بطريق مباح وزال عقله كمن تناول دواء ً للمعالجة أو أعطي البنج مثلا ً فإن هذا غير مكلف في حال سكره وكما قلنا هو الذي لا يعلم ما يقول .
2) اتفق العلماء أن السكران غير المعذور في سكره إذا كان عقله ما يزال حاضرا ً ويعقل فإنه مكلف إذا شرب ولم يسكر بعد فإنه في هذه الحالة يعقل ويكون مكلفا ً .
× لكنهم اختلفوا في السكران غير المعذور في سكره الذي سكر وزال عقله بالسكر فهل هو مكلف وهو من شرب بطريق محرم وزال عقله بسبب هذا السكر فهل هو مكلف في هذه الحال؟
ورد خلاف للعلماء في هذه المسألة :
ç هناك من يقول إن السكران في هذه الحالة غير مكلف وهم الجمهور لماذا ؟
ç وعللوا لهذا بأن السكران في حال سكره لا يفهم الخطاب فكيف يوجه إليه خطاب لا يفهمه ويقال افهم فهو زائل العقل كالمجنون والصبي غير المميز فلو طلب منه امتثال ما يقتضيه الخطاب وهو في حالته تلك لكان ذلك تكليفا ً بما لا يطاق حيث وجه إليه خطاب ولا يفهم المقصود منه وطلب امتثال وهذا محال .
ç هناك من يقول بأن السكران في هذه الحالة مكلف مطلقا ً وهذا ذهب إليه بعض الحنفية وبعض الشافعية واستدلوا على تكليفه بما سبق الاستدلال به على تكليف المجنون وتكليف الصبي المميز وتكليف المعتوه وهو أن السكران تجب في ماله الزكاة وتجب عليه وأروش الجنايات وقيم المتلفات ولو لم يكن مكلفا ً لما أمر بهذه الأمور وقد سبق الجواب عن ذلك وبيان وجه الإشكال في هذه المسألة .
õ القائلون بتكليف السكران في هذه الحالة وهو السكران غير المعذور الذي سكر وزال عقله اعترضوا على مذهب الجمهور وقالوا : كيف تقولون أن السكران الذي لا يعقل غير مكلف ثم توجبون الغرامات عليه في حال اعتداءه أو إتلافه مال غيره وكيف تقولون بأنه غير مكلف ثم تقولون بوقوع طلاقه فيما لو تلفظ بالطلاق حال سكره؟
ويجاب عن هذا فيما سبق وقلناه بأن هذا ليس تكليفا ً بل إن الشارع وضع أسبابا ً معينة تثبت عندها أحكام معينة وهذه الأسباب لا تكليف فيها على السكران بل مجرد وقوعها منه كاف لترتب الأحكام عليه مباشرة فثبوت هذه الأحكام لا يعني أنه مكلف وهذا كما قلنا إنه من باب ثبوت أهلية الوجوب في حق السكران أما أهلية الأداء فغير متوافرة في حقه بمعنى لا يصح ولا يأمر بالأداء في حال سكره لكنه في أهلية الوجوب في الذمة متوافرة لديه فلذلك هو مأمور أو يتوجه إليه التكليف أو أهلية الوجوب في الذمة .
õ هناك اعتراض آخر بالمسألة قالوا إن الله تعالى يقول"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى نهى عن قربان الصلاة في حال السكر وهذا خطاب للسكارى
فدل على جواز تكليف السكران ويجاب عن هذا بعدة أجوبة وهي تجيب على أن السكران غير مكلف وننبه على أن هذين الوجهين الذين سنذكرهما في المسألة تقرير على أن الآية نزلت في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر تحريما ً نهائيا .
الوجه الأول : مبني على المنع ومعناه أننا نمنع أن الآية خطاب للسكارى في حال السكر بل الآية خطاب للسكارى في حال الصحو ومعناها لا تسكروا ثم تقربوا الصلاة وهذا مثل قوله تعالى "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي استمروا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وليس خطاب لهم في حال الموت وقولنا مثلا ً لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي استمر على خفة البدن حتى تقوم للتهجد فكذلك هذه الآية التي معنا معناها استمروا على الصحو حتى تدخلوا في الصلاة والخطاب لهم حينئذ ٍ كان في حال صحوهم والمراد من هذا النهي منعهم من الشرب من طريق تضييق وقت السكر عليهم لأنه بناء ً على هذه الآية سيكون وقت الشرب عندهم هو ما بعد وقت العشاء وما بعد وقت صلاة الفجر غالبا ً ووقت العشاء وقت نوم وبعد الفجر وقت عمل وبهذا انشغلوا عن السكر ومنعوا عن الإفراط فيه تهيئة ً لنفوسهم من قبيل تحريمه مطلقاً.
والوجه الثاني في الجواب مبني ٌ على التسليم بأن الخطاب بهذه الآية هو للسكارى وعلى هذا الوجه نقول إننا لو سلمنا أن الخطاب هنا هو للسكارى فالمراد بالسكارى هنا هم من وجدت منهم مبادئ للنشاط والطلب ولم تزل عقولهم تماما ً فلاشك أن من كان هكذا فهو مكلف .
ابن قدامة عندما ذكر هذين الوجهين ذكر أن الغرض من هذين الوجهين الجمع بين الأدلة وذلك أن هذه الآية تشعر أن السكران مكلف وقد تقرر لدينا بالأدلة أن السكران لا يفهم الخطاب فهو غير مكلف والسكران لا يفهم فكأن هذا فيه نوع من التناقض فلجأ ابن قدامة إلى الجمع بين الآية وبين الأدلة بهذا .
õ هناك مذهب بعض الحنفية والشافعية من يقول بأن السكران مكلف ويستدلون بهذه الآية +يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" وقد بين وجه الاستدلال بها وقالوا أيضاً أن السكران قد أذهب عقله بنفسه فهو متعد ٍ فنعامله بنقيض قصده وقالوا أيضاً في الاستدلال أننا لو قلنا إنه غير مكلف لأُتخذ السكر وسيلة ً لإسقاط التكاليف عن المكلف ثم أن السكران مأزور فلا يسوى بينه وبين المجنون الذي هو مبتلى ً مأجور فنخفف عنه التكليف لسكره لكن ننبه على أن هناك اتفاق على جل أحكام السكران في الفقه وأحكامه تختلف من جزئية لأخرى فالواجب بحث كل مسألة من مسائل السكران على حده وأما التنظير الأصولي فهو ما ذكرناه في هذا المقام .
õõ هنا قد يرد إشكال من قال إن السكران اعتبر طلاقه لكن نقول إن هذا ربط الأسباب بمسبباتها وقد قلنا بتكليف السكران مثلا ً فيما إذا أتلف مال غيره أو إذا كان له مال فتجب الزكاة فيه أو تلفظ بطلاقه فإنه أيضاً يقع طلاقه من باب ربط الأسباب بمسبباتها فيكون بهذا تكليف السكران تعليقا ً وليس تنجيزاً .
لا يزال الحديث موصولا في هذه الحلقات عن شروط التكليف وخاصة شروط المكلف تحدثنا فيما تقدم من حلقات عن شروط التكليف المتعلقة بالمكلف عن جملة منها وذكرنا (الحياة وكونه من الثقلين- والبلوغ –والعقل ) وهذه الحلقة موضوع الكلام عنها هو
الشرط الخامس من شروط التكليف المتعلقة بالمكلف وهو شرط (الفـهــم) .
وسنتكلم عن المراد بهذا الشرط وما ينبني على اشتراطه بمعنى الأمور التي تخرج باشتراط هذا الشرط.