وعندنا في الفعل المكلف به أربعة شروط :
الأول: أن يكون الفعل معلوما 
الثاني : أن يكون الفعل معدوما 
الثالث : أن يكون الفعل حاصلا بكسب المكلف
الرابع : أن يكون الفعل ممكنا أو مقدورا للمكلف 

أما الشرط الأول 
أن يكون الفعل معلوما: فالمراد بهذا أن تكون حقيقة الفعل المأمور به معلومة غير مجهولة 
أيضا يكون الأمر به معلوما لدى أهل العلم من المكلفين بان تكون الأدلة عليه منصوبة ظاهرة

ووجه التعليل لاشتراط هذا الشرط :
أن الأمر بغير المعلوم عبث ينزه الله تعالى عنه وليس المراد بهذا الشرط أن يعلمه كل مكلف بل يكفي أن تكون الدلائل منصوبة على التكليف بحيث يعرفها من طلبها.
قد يسأل سائل فيقول : ما الفرق بين هذا الشرط والشرط  السابق الذي ذكرنا انه من شروط المكلف وهو العلم بالتكليف ؟
 والحقيقة أن هذا الشرط يختلف عن ذلك الشرط لأن ذلك الشرط يشمل كل مكلف وبذلك وقع الخلاف في جزئياته أما هذا الشرط الذي معنا وهو أن يكون الفعل معلوما للمكلف به فهو شرط للفعل نفسه بغض النظر عن آحاد المكلفين بخلاف الشرط السابق فينظر فيه إلى المكلفين .

فإذا كان الفعل معلوم المقدار وعلم الأمر به من بعض المكلفين صح التكليف به ويجب على من جهل مقداره أن يطلب العلم به من أهله 
وأما مؤاخذة كل مكلف بتقصير ه فعلى حسب تقصيره : فان كان مقصرا يلحقه الإثم على تقصيره وإلا فلا 
والحقيقة أن هذا يختلف باختلاف اشتهار التكليف لذلك الفعل وعدم اشتهاره فكما سبق انه إذا كان من المأمور معلوم بالدين من الضرورة فلا يعذر بجهل بعض تلك الأفعال , وان كان من غير الأمور المعلوم بالدين من ضرورة من الأوامر التي تشتبه فهذه يعذر بجهلها كحديث عهد بالإسلام أو من عاش بعيد ليس قريب من أماكن العلم فهذا يمكن أن يعذر

الشرط الثاني 
أن يكون الفعل معدوما :ومعناه أن يكون الفعل غير حاصل حال الأمر به وان كان مأمورا به وذلك لأن الحاصل
لا يمكن تحصيله كماه هي القاعدة العقلية بهذا المقام كمن صلى الفجر لا يؤمر بالصلاة بعد فعله لها إذا جاء بها على وجهها الصحيح وهذا لشرط لا ينطبق إلا على جانب المأمورات أما المنهيات فيمكن أن يكون الفعل معدوما كما ينهى المسلم عن الزنا وهو لم يرتكبه وعن الكذب وهو لم يكذب ويمكن أن يكون موجودا كما ينهى الكاذب عن كذبه حالة كذبه وهو مباشر لهذه الأفعال

ومورد هذا الشرط وهو أنه يرد على المأمورات دون المنهيات : يعني قل من أشار إليه وقد أشار إليه شيخنا عياضة السلمي في كتابة أصول الفقه الذي لا يعذر الفقيه بجهله أشار إلى هذا الفرق و مورد الشرط ونبه إلى انه لن يختلف على اختصا ص هذا الشرط لجانب المأمورات دون المنهيات على أن هذا الشرط وهو اختصاصه بالمأمورات كما قلنا إن يكون الفعل معدوما بحيث لا يكلف بشيء موجودا قد أوجده المكلف أي 
لا يكلف به مرة ثانيه لكن ينبغي أن نبنه إلا إن المقصود إذا كان موجودا وجودا شرعيا موافقا للشرع موجودا موجودا شرعيا بحيث أن يكون الفعل المكلف به المكلف صحيحا وأما إن كان فيه خلل بمعنى أن يكون فاسد فهذا لا يعتبر بوجوده بل قد يكون بحكم المعدوم ويؤمر بفعله مرة ثانية مثل من اوجد صلاة دون طهارة فهذا وجدها فهل نقول انه لا يؤمر بها مرة ثانية ؟ في هذه الحالة الصلاة التي أتى بها المكلف وان كانت موجودة حقيقة ولكنها بحكمها الشرعي معدومة لأنها فقد ت شرط من شروطها فينبغي أن نقول إن هذا الشرط وان كان منصبا على جانب المأمورات دون جانب المنهيات فانه أيضاً بجانب المأمورات ليس على إطلاقه بل نقول نعم يشترط أن يكون الفعل معدوما فان كان موجودا وجودا شرعيا فلا يؤمر به المكلف مرة أخرى أما إذا كان وجوده وجودا حكميا فانه ينبغي أن لا يقال انه موجود بل يأخذ حكم المعدوم ويمكن أن يؤمر بفعلة مرة ثانيه هذا ما يتعلق بهذا الشرط .

الشرط الثالث
أن يكون الفعل حاصلا بكسب المكلف : وهذا الشرط يقصد به أن يكون هذا الفعل الذي حصل من المكلف حاصلا بفعله لا بفعل غير أو بكسبه لا بكسب غيره مثلا لا يمكن أن يؤمر شخصا بفعل قد كلف به شخصا آخر وهذا الشرط كما ذكر بعضهم شرط عقلي ولكن له ما يسنده شرعا كقوله تعلى ( ولاتزر وازرة وزر أخرى ) فالإنسان لا يحاسب بفعل غيره وإنما يحاسب بفعله هو .
استشكل بعض العلماء على هذا الشرط كيف نقول انه لا نشترط بفعل المكلف به أن يكون حاصلا بكسب المكلف ثم نأتي إلى بعض الأحكام الفقهية فنجد أن الشخص قد يكون مكلف بنتيجة فعل غيره فمثلا العاقلة تجب عليها الدية في حالة القتل الخطأ مع أن القتل صدر من القاتل وليس من العاقلة ؟
العلماء أجابوا أن هذا ليس من باب الحكم التكليفي وإنما هو من باب الحكم الوضعي الذي يتعلق بربط الأسباب بمسبباتها فجناية الشخص سبب في دية العاقلة وهذا قالوا معنى معقول وموجود مثله بأحكام الشريعة هذا 
ما يتعلق بالشرط الثالث

الشرط الرابع 
وهو أن يكون الفعل ممكنا :بمعنى كما قالوا أن يكون مقدورا للمكلف ومعناه أنه إذا كان الفعل غير ممكن بمعنى غير مقدور للمكلف فانه لا يكلف به هذا من حيث الأصل بمعنى لا يصح التكليف بغير الممكن أو بغير مقدور هذا هو مفهوم هذا الشرط لكن ما كان ممكنا ومقدورا للمكلف ولكن في فعله مشقة فهذا وقع التكليف به ولكنه هل هذه المشقة تخفف الحكم الشرعي أو لا تخففه هذه محل نظر ومحل تفصيل يأتي إن شاء الله في باب الرخصة لكن مسألتنا هذه أن يكون الفعل غير ممكن تماما للمكلف بمعنى أن يكون مستحيلا في هذه الحالة ففي هذه الحالة يكون على هذا الشرط غير مكلف المرء بهذا الشيء المستحيل

قولنا أن يكون الفعل ممكنا أو مقدورا :معناه أن لا يكون ممتنع الوقوع عقلا أما إذا كان ممكن الوقوع عقلا فانه لا يكلف به .
الأشاعرة خالفوا في هذا الشرط فأجازوا التكليف بالمحال ولكن بنوع منه كما يأتي وقد لا يسمى هذا النوع مستحيلا وسوف يأتي الكلام بهذا 
وإجازتهم له من الناحية العقلية ولكن اختلفوا في وقوعه بالشرع وأكثر الأشاعرة لا يرى وقوعه شرعا وهذه المسالة تسمى اختصار بالتكليف المحال أو التكليف بما لا يطاق وعندما نأتي إلى محل الخلاف نجد فيها اختلاف لكن ينبغي أن نعرف أن هناك نقاط ليس بها اختلاف منها المستحيل عقلا هذا يتفق الجميع على أن المرء غير مكلف به مثال : أن يجمع بين القيام والجلوس بوقت واحد هذا لا يمكن عقلا فلا يكلف به المرء وأيضا المستحيل عادة مثلا الصعود إلى السطح بلا سلم هذا غير ممكن في العادة . لكنه في العقل ممكن فيتصور أن يحصل منه هذا مثلا أن يقفز الشخص إلى السطح وهذا ممكن أن يحصل ولكن بالغالب لا يمكن أن يصعد الشخص إلى السطح بلا سلم وهو مستحيل عادة فهذا وقع الاتفاق انه لا يقع التكليف به ولكن يبقى الكلام في مسالة المستحيل الذي تعلق علم الله تعالى الأزلي بعدم وقوعه وأيضا نقل بعضهم أن هذا لاخلاف في جوزا التكليف به ووقوعه ولكن الصواب أن هذا لا يسمى مستحيل 


فإذن عندنا نوع اتفقوا على عدم وقوعه وهو المستحيل عادة والمستحيل عقلا
ونوع اتفقوا أو نقل عدم الخلاف في جواز التكليف به ووقوعه شرعا وهو المستحيل أو غير الممكن الذي تعلق علم الله الأزلي بعدم وقوعه 
لكن بعضهم يقول هذا ليس من المستحيل بل هو من الممكن بمقتضى العقل والعادة لأن علم الله بعدم وقوع هذا الشيء أمر مغيب عنا ولم نكلف بمعرفته ولا ببناء الأحكام عليه
ومثل هذا :التكليف بالإيمان بمن علم الله تعالى انه يموت على الكفر وكذا التكليف بالصلاة لمن علم الله تعالى انه لا يدرك الصلاة

فالمثال الأول لا خلاف في جوازه ووقوعه في الشرع والمثال الثاني وقع فيه الخلاف والخلاف لفظي لأنهم اتفقوا على أن هذا الشخص معذور إذا مات وهو عازم على الصلاة في آخر وقتها أو كان ساهيا عنها فهذا معذور, أما إذا كان ذاكرا عازما على الترك وتركها فانه يأثم وعلم الله تعالى بهذا انه يتركها فيأثم على ذلك القصد السيئ على الصحيح وقد قيل لا يلزمه العزم بل يكون معذورا إذا مات قبل مضي الوقت والمسالة فيها تفصيل لكن نشير أن هناك من يقول إن هذا المسالة محل اتفاق لأنهم يتفقون على انه معذور إذا مات وهو عازم على الصلاة فيخرج اختلافنا إلى أن يكون اختلافا لفظيا .

الأدلة الدالة على عدم وقوع التكليف شرعا بما لا يطاق سواء كان مستحيل عقلا أو عادة: 
فالمسالة تأتي إلى جواز التكليف بالمستحيل بغيره كما يعبر عنه أو بالمستحيل الذي تعلق علم الله الأزلي بعد م وقوعه مثل هذا يمكن أن يكلف به المرء ؟
هذا الكلام فيه وتسمى المستحيل لغيره وبعضهم يقول هذا ليس من باب المستحيل

أما الأدلة على عدم امتناع التكليف شرعا بما لا يطاق أو بالمستحيل عادة وعقلا فمنها:
الدليل الأول : قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا وسعها ) 
ووجه الاستدلال: أن الله تعالى اخبر ولا شك أن خبر ه صدق انه لا يكلف الإنسان بما لا يطيق ولا شك أن المستحيل عادة أو عقلا غير داخل تحت الوسع والطاقة 
والدليل الثاني : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج  ) 
ووجه الاستدلال من هذه الآية : أن الله تعالى اخبر ولا شك أن خبره صدق انه لم يجعل في ديننا حرج ولاشك أن التكليف بالمستحيل عادة أو عقلا في التكليف به فيه حرج عظيم ومن دلالة الآية لا يمكن 
وأيضا من الأدلة قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )
ووجه الاستدلال من هذه الآية:أن التكليف بالمستحيل فيه عسر ومشقه والله اخبر انه لا يريد بنا العسر ومعنى هذا انه لن يكلفنا بما لا نستطيعه 
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم )
ووجه الاستدلال منه :انه يدل على عدم وجوب القيام بالعمل الشاق الذي لا يستطيعه الإنسان وان كان ممكنا فمن باب أولى أيضاً التكليف بالمستحيل الذي لا يستطيعه الإنسان أصلا كالمستحيل عادة أو عقلا . 
ومن الأدلة أيضاً استقراء أحكام الشريعة وفروعها وما ورد فيها: فإننا عندما نتتبع أحكام الشريعة نجد انه لا يوجد فيها تكليف بمستحيل عادة أو عقلا 
ودليلا آخر أن المستحيل عادة أو عقلا لا يتصور وقوعه وما لا يتصور وقوعه فانه لا يعد شيئا والذي ليس بشي لا يمكن أن نؤمر به. 
هذا ما يتعلق بالمستحيل عادة وعقلا ونقل عن الأشاعرة أنهم ذهبوا إلى جواز التكليف بما لا يطاق أو المستحيل وزعموا ا انه مذهب أهل السنة والجماعة واختلفوا في وقوعه فذهب بعضهم إلى انه جائز وممكن وقوعه 
وذهب بعضهم إلى عدم وقوعه رحمه ورأفة من الله عز وجل بعباده وقد ذكر الرازي وهو احدهم في كتابه المحصول أدلة كثيرة تدل على وقوع التكليف بالمستحيل أو بما لا يطاق في شريعة الإسلام ومن قال بجواز التكليف بما لا يطاق نناقشه فنقول :
إن كان مرادك الجواز العقلي فإننا لا ندعي أن العقل هو المانع منه لا نقصد أن العقل هو الذي منع عن التكليف بما لا يطاق أو المستحيل ولكن الدليل الذي دل على امتناعه التكليف بالمستحيل عقلا أو عادة هو دليل الشرع وقد مر بنا جمله من الأدلة الدالة على امتناع التكليف بالمستحيل عادة وعقلا في الشرع .

وأما الذي قال منهم انه واقعا شرعا فقد استدلوا على ذلك بادله منها قوله تعالى( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به )
ووجه الاستدلال من ذلك أنهم قالوا إن هؤلاء قد دعوا الله تعالى أن لا يحملهم مالا يطيقون فدل ذلك على أن هذا ممكن الحصول لأن الشيء الذي لا يمكن حصوله لا فائدة من دعاء الله بعدم إيقاعه علينا فدل على أنهم لما دعوا الله تعالى في عدم إيقاع هذا الأمر عليهم دل على انه ممكن وقوعه فانه لو لم يمكن هذا حصوله ما سألوا الله تعالى إلا يحملهم مالا طاقة لهم به لأنه في هذه الحالة سيكون ممتنعا والممتنع لا يشرع أن يسال الله تعالى رفعه أو منعه فحينئذ أو كما يقال انه لا يجوز مثلا أن يقول الشخص اللهم لا تظلمني لأن الظلم لا يمكن أن يقع من الله تعالى للعبد فمادام انه لا يمكن وقوعه فلا يشرع دعاء رفعه أو منعه.

Previous Post Next Post