شروط التكليف وخاصة شروط المكلف
شرط الإسلام
س---- هل يشترط في المكلف أن يكون مسلما ؟ أم لا يشترط فيه ذلك ؟
ج----- أن قلنا أنه يشترط في المكلف أن يكون مسلما فمعنى ذلك أن غير المسلم غير مكلف وإن قلنا إن الإسلام ليس شرطا ً في التكليف فمعنى هذا أن غير المسلم مكلف بالتكاليف الشرعية وهنا سنحتاج إلى تحرير محل الخلاف بين العلماء وتحرير المراد بتكليف الكافر عند من يقول به
لأن هناك من قال بتكليف الكافر فنحتاج إلى تحرير مراد من يقول بهذا القول فأما شرط الإسلام وهل يعد شرطا في التكليف فهذا محل خلاف ولكن قبل أن نذكر الخلاف ننبه إلى مواطن اتفاق اتفق العلماء فيها في هذا المقام
أولا ً : أتفق العلماء على أن الكفار مكلفون بأصول الشرائع والمقصود بها أصول الاعتقاد كالأيمان بالله تعالى والإيمان برسله وتصديقهم ونحو ذلك فهذه متفق عليها بدليل قوله تعالى " إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية "
فتركهم لهذه الأصول يوجب تخليدهم في النار بدلالة هذه الآية
ثانيا ً : لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلفون بالعقوبات كالحدود والقصاص ونحو ذلك وبعض العلماء يعبر عن هذا بعبارة أعم من هذا فيقول : أجمع العلماء على أن الكفار مخاطبون بخطاب الوضع أي ليس بخطاب التكليف مثل اعتبار جناياتهم سببا ً في وجوب العقوبات عليهم ولذلك تقام الحدود عند تقرر أسبابها منهم كما يعتبر وقوع عقودهم على الأوضاع الشرعية سببا ً لترتيب أثارها عليها مثل : البيع والنكاح منهم ونحو ذلك كما أن الإتلاف يعد سببا ً لوجوب الضمان عليه وذكروا لتكليف الكفار في المعاملات سببا ً وهو أن المعاملات قصد بها الحياة الدنيا والكفار أنسب لتكليفهم بالمعاملات من أهل الإسلام لأنهم أثروا الحياة الدنيا على الآخرة وذكروا السبب في القول بتكليفهم بالعقوبات كالحدود والقصاص ونحو ذلك قالوا أن العقوبات قصد بها الزجر عن ارتكاب أسبابها والكفار أحق بالزجر وأولى به من المؤمنين هذه أمور تقريبا ً ثلاثة لا خلاف بين العلماء في تكليف الكفار بها
الأمر الرابع اختلف العلماء في تكليف الكفار في ماعدا ما سبق يعني في ماعدا( أصول الشرائع) وبما عدا المعاملات وبما عدا العقوبات فهل هم مكلفون مثلا ً بالصلاة والزكاة والصوم والحج وموضوع الطلاق والظهار مثلا والكفارات والأيمان لو الحلف صدر من كافر ونحو ذلك فهل هم مكلفون بهذا أم غير مكلفين ويعبر العلماء عن هذا
القسم الرابع بقولهم( فروع الشريعة )
س----- هل الكفار مكلفون بفروع الشريعة ويجعل هذا مقابل لما ذكرنا في القسم الأول وهو أصول الشريعة متفق على أنهم مكلفون بها ويقولون إن الخلاف إذن بفروع الشريعة هل هم مكلفون بها فيذكر خلافا في هذا
ج----- هناك من نقل اتفاق على أن الكفار مكلفون بالنواهي دون الأوامر بمعنى أنهم مطالبون بالانكفاف عن المنهيات دون المأمورات فهم غير مأمورين بفعلها لعدم صحتها منهم في حال الكفر
وهذا القول ذكره الزركشي في( البحر المحيط) وأستحسنه ولكن هذا الاتفاق يقدح فيه أنه سيأتي من يخالف في هذا من خلال الأقوال التي سنذكرها الآن ويقول : لا بل هم مكلفون أيضاً ً بالأوامر بما أنهم مكلفون بالنواهي وعلى كل حال هذه النقطة ذكر فيها بعض العلماء اتفاق وهو ليس على وجهه الصحيح
خلاف العلماء في تكليف الكفار على عدة أقوال وسنختصر المسألة على أهم هذه الأقوال
القول الأول :
أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة مطلقا الأوامر والنواهي بشرط تقدم الإسلام بمعنى أنه مكلفون بهذه الفروع بشرط أن يقدم عليها الإيمان وجعلوا هذا نظير مسألة تكليف المسلم بالصلاة بشرط الطهارة وقالوا المسلم مكلف بالصلاة بشرط أن يقدم عليها الطهارة فنظير هذا أن الكافر مكلف بالواجبات الشرعية من صلاة وصوم وزكاة إلى أخره بشرط أن يقدم عليها الإيمان \
ومعنى هذا أن الكافر مطالب بفعل هذه الأمور وهي الصلاة والصوم والحج كما أنه مطالب بالإيمان ومعاقب على تركها إن كانت أوامر أو على فعلها إن كانت نواهي كما أنه معاقب على ترك الإيمان هذا معنى هذا القول وذهب عليه جمهور الأصوليين فهو عليه أكثر الشافعية وهو ظاهر مذهب الإمام مالك وأيضا نقل عن الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه ونقل عن بعض الحنفية كالكرخي والخصاف منهم وقال الدبوسي أنه مذهب عامة مشايخ العراق من الحنفية ومن أدلة هذا القول قوله تعالى " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين " ووجه الدلالة من هذا أنها دلت صراحة على أن الكفار مؤاخذون على ترك الصلاة وعلى ترك أطعام المسكين وأن تركهم لذلك موجب لتخليدهم في النار ولولا تكليفهم بهذه الأمور لما عوقبوا عليها وأيضا ً من أدلتهم في هذا المقام أن الله تعالى ذم قوم شعيب على الكفر ونقص المكيال وذم قوم لوط على الكفر وإتيان الذكور وذم قوم عاد على الكفر وشدة البطش فقال مثلا في قوم هود " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " دل هذا الذم على أن هؤلاء الكفار مكلفون بهذه الأمور مكلفون مثلا ً بترك نقص المكيال كما أنهم مكلفون بترك الكفر مكلفون بترك إتيان الذكور كما أنهم مكلفون بترك الكفر ومكلفون بترك شدة البطش كما أنهم مكلفون بترك الكفر فدل هذا على أن الكفار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالأصول واستدلوا أيضاً ً بأدلة أخرى منها قوله تعالى " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فقالوا إن هذا أيضاً صريح ٌ بأن الكفار معذبون عذابا ً زائدا ً على عذاب الكفر ومادام أنهم معذبون عذابا زائدا ً فمعنى هذا أنهم مكلفون بتلك الأمور منها الصد عن سبيل الله ونحو ذلك كما ورد بدلالة هذه الآية وأيضا ً قوله تعالى " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " في شأن نكاح المشركات المسلمات للكفار وحتى الزركشي يقول عن هذه الآية و الآية السابقة وليس فيه أصلح منهما وأيضا ً من الأدلة على تكليف الكفار بفروع الشريعة قوله تعالى " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ثم قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة "
هذا صريح بأن الكفار مكلفون بعبادة الله تعالى ومكلفون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هذه طبعا ًجملة أدله منها أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين الذين زنيا ولولا تكليفهم بهذا لما رجمهم وهذا طبعا ً في باب العقوبات وهو خارج عن محل النزاع
استدلوا أيضاً بدليل القياس فقالوا إن المؤمن يثاب عند الله تعالى ويستحق الثواب عند الله تعالى على امتثاله الأوامر واجتنابه النواهي زيادة ٍ على ثواب إيمانه قالوا فكذلك الكافر من باب أولى ينبغي أن يستحق العقاب على ارتكاب النواهي والعقاب على ترك الأوامر زيادة ً على عقاب ترك الإيمان من باب أولى وهذا استدلال كما قلنا بالقياس
استدلوا أيضاً بدليل في هذا المقام قالوا أن الكفر لا يصلح مخففا ً وإذا قلنا بعدم تكليف الكفار بفروع الشريعة كان كفرهم سببا ً في التخفيف عنهم وهذا دليل لأصحاب هذا القول
وهذه أدله متضافرة على القول أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة مثل تكليفهم أيضاً بأصول الشريعة من الإيمان ونحو ذلك
القول الثاني في هذه المسألة:
أن الكفار غير مكلفين أو غير مخاطبين بفروع الشريعة من الأوامر والنواهي وهذا قول جمهور الحنفية قال عنه صدر الشريعة الحنفي : هو قول مشايخ ديارنا وأراد بذلك مشايخ ما وراء النهر ونسبه التفازاني إلى أبو زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي وقال هو المختار عند المتأخرين يعني من الحنفية وأبو زيد الدبوسي والسرخسي صرحا
بان هذا القول ليس منقولاً عن الحنفية المتقدمين في هذه المسألة نصا ً وإنما أخذ من فروع الحنفية من فتاوى علماء الحنفية وذكروا عن الإمام محمد بن الحسن أن من نذر الصوم ثم أرتد ثم أسلم فإنه لا يلزمه قضاء ذلك النذر لأن الشرك أبطل كل عبادة فاستنبطوا من هذا القول أن محمد بن الحسن يرى أن الكفار غير مكلفين بفروع الشريعة ومن هذا مسألة عدم تكليفهم بالنذر هنا وهذا يدلنا على ما سبق و قررناه في أول حلقات هذا المنهج قلنا في منهج الحنفية وما تميز به المنهج أنهم يبنون قواعدهم الأصولية من خلال النظر في فتاوى علمائهم وأئمتهم فهم أخذوا من هذه الفتوى لمحمد بن الحسن وغيرها من الفتاوى
أخذوا منها أن الكفار غير مكلفين وغير مخاطبين بفروع الشريعة
والسرخسي من علماء الحنفية يقول : لا خلاف في أن الكفار مخاطبون بالأيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة وأما في العبادات فبالنسبة للآخرة كذلك يعني مكلفين أما بحق وجوب الأداء بالدنيا فهي موضع خلاف ويشير بهذا إلى الخلاف الواقع بين الجمهور والحنفية في هذا المقام
الحنفية ومن تبعهم في هذا المقام الذين رأوا عدم تكليف الكفار بفروع الشريعة استدلوا على هذا بجمله من الأدلة منها
أولا ً : قالوا إن الأمر بالعبادة يقصد منه تحصيل الثواب والكافر ليس أهلا للثواب فلا يأمر بها وأيضا ً استدلوا بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله" أدعهم إلى شهادة لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد أفترض عليهم خمس صلوات ...إلى أخر الحديث"
قالوا هذا دليل على أن الأمر بالصلوات والزكاة وغير ذلك فيما أتى في أخر الحديث لا يكون إلا بعد طاعتهم بأن يؤدوا الشهادتين على وجههما فحينئذ ٍ يؤمرون بالصلاة وما تبعها فهذا دليل على أن الكافر لا يكلف بفروع الشريعة إلا بعد الإيمان استدلوا بدليل ثالث قالوا لو صح تكليف الكفار بفروع الشريعة لصح منهم فعلها لأنهم إذا أدوها كانوا موافقين للأمر فطبعا ًهذا دليلهم في هذا المقام وسيأتي إجابة عن أدلة الحنفية في هذا المقام بعد ذلك
القول الثالث في المسألة :
أن الكفار مكلفون بالنواهي دون الأوامر وسبق أن ذكرنا أن الزركشي نقل الاتفاق على هذا القول واستحسن هذا القول وقلنا أن فيه نظر لأن هناك من يخالف في هذا
دليلهم في هذا قالوا أن الانتهاء أو الكف عن الشيء في حالة الكفر ممكن فإنه لا يشترط في الانتهاء قصد التقرب فيجوز التكليف في المنهيات والنواهي في حق الكفار بخلاف الأوامر فأنه يشترط فيها قصد التقرب إلى الله تعالى وهذا لا يتحقق من الكافر فحينئذ ٍ لا تصح منه وإذا كانت لا تصح منه فلا نقول بتكليفه هنا هذا بما يتعلق بالقول الثالث
القول الرابع على عكس القول الثالث
أن الكفار مكلفون بالأوامر فقط دون النواهي وهذا القول ذكره الزركشي ونقله عن ابن المرحل في كتابه ( الأشباه والنظائر ) وابن المرحل هو ابن الوكيل في كتابه الأشباه والنظائر ولعله أنقلب ممن قبله يعني عكس القول السابق قال ويرده الإجماع السابق على تكليف الكفار بالنواهي
القول الخامس
هو التفريق بين الكافر الأصلي والكافر المرتد قالوا الكافر المرتد مكلف بفروع الشريعة أما الكافر الأصلي فهو غير مكلف بفروع الشريعة وعللوا لهذا بأن الكافر المرتد ملتزم ٌ بأحكام الإسلام في الأصل بخلاف الكافر الأصلي فأنه غير ملتزم بأحكام الإسلام من الأصل وهذا القول لا يعرف له قائل والزركشي رد على هذا القول وقال لا معنى لهذا التفصيل لأن مأخذا النفي فيهما- يعني نفي التكليف للكافر الأصلي فيه- سواء وهو جهله بالله تعالى لأن الكافر الأصلي والكافر المرتد كلاهما جاهل بالله تعالى
القول السادس :
أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة جميعها ماعدا الجهاد وعللوا استثناء الجهاد بأن الجهاد يمتنع عقلا ً أن يجاهد الكافر نفسه وهذا القول صرح به أمام الحرمين في كتابه نهاية المطلب في الفقه والحقيقة انه لا فائدة من هذا الاستثناء لأنه لا يتصور شرعا من الكافر أن يجاهد نفسه ولو حصل منه الجهاد بعد الإيمان يخرج عن موضوع المسألة التي نتكلم عنها
القول السابع :
التوقف في المسألة يقولون لا نقول بتكليفهم بفروع الشريعة ولا نقول بعدم تكليفهم لتساوي الأدلة في هذا المقام وعدم وضوح الترجيح في هذا المقام وهذا القول حكاه أبو إسحاق الأسفراييني عن أبي الحسن الأشعري وهو أيضاً مروي ٌ عن الأشاعرة في هذا المقام
القول الثامن :
هو التفريق بين الكافر الحربي والكافر غير الحربي
فالكافر الحربي غير مكلف بفروع الشريعة وأما الكافر غير الحربي فهو مكلف بفروع الشريعة وهذا القول خرجه الزركشي من فروع الشافعية في الفقه فهم يقولون في القصاص والسرقة والشرب للخمر لا يجب حدها على الكافر الحربي لعدم التزامه بأحكام الإسلام بخلاف الكافر الذمي فإنه يجب عليه القصاص ويجب عليه حد السرقة وحد شرب الخمر لأنه ملتزم بأحكام الإسلام فخرج الزركشي من ذلك أن هذا يحتمل أن يكون قولا ً للشافعية في هذا المقام بأنه يقولون بتكليف الكافر غير الحربي والغير حربي لا يقولون بتكليفه
والذي يترجح في هذا المقام هو القول الأول القائل بتكليف الكفار بفروع الشريعة مطلقا ً دون أن نفرق بين المأمورات والمنهيات أو بين الأوامر والنواهي إلا أن الأداء لا يصح من الكفار في هذه الحالة لأن صحة الأداء متوقفة ٌ على الإيمان والإسلام ولهذا نستطيع أن نقول إن اشتراط الإسلام في التكليف محمول على اشتراطه في نوع من التكليف وهو الأداء دون الوجوب فيكون الكافر حينئذ ٍ مكلف بفروع الشريعة ومكلفا ً بشرطها وهو الإيمان ومعاقب على تركها إن كانت أوامر وعلى فعلها إن كانت نواهي كما أنه معاقب على ترك الإيمان فهذا هو معنى القول الذي رجحناه في هذا المقام
معنى تكليف الكفار بفروع الشريعة أنهم مطالبون بها في الدنيا كما أنهم مطالبون بالإيمان ومعاقبون عليها في الآخرة إما على تركها إن كانت أوامر وإما على فعلها إن كانت نواهي كما أنهم معاقبون على ترك الإيمان
ولا يعني قولنا أنهم مكلفون بفروع الشريعة لا يعني ذلك أنهم لو فعلوها في الدنيا صحت منهم مع الكفر لأن صحة العبادة وفعلها مشروط بشرط تحقق الإيمان والإسلام لذلك نقول بناء على هذا لا يكون الإسلام شرطا في التكليف بل يكون الكافر مكلفا ً ولو لم يحقق فيه شرط الإسلام ومن يقول باشتراط الإسلام في هذه الحالة فيحمل على اشتراطه في نوع من أنواع الأهلية في الأداء أما الوجوب في الذمة فالإسلام ليس شرطا ً فيه فبهذا ربما يزول الخلاف الذي دائما يتكرر معنا في كل مسألة من مسائل التكاليف الشرعية فنقول : من يقول بأن الإسلام شرط في التكليف نحمله على انه شرط ٌ في الأداء بمعنى مادام أن الإسلام ليس متوافرا في الكافر فمعنى هذا أنه غير مكلف في جانب أهلية الأداء ومن يقول بأن الإسلام ليس شرطا ً والكافر مكلف
فنقول : مقصود بذلك أنه مكلف في جانب أهلية الوجوب أو الوجوب في الذمة فتبقى هذه الأمور في ذمته حتى يسلم فإذا أسلم لازمه فعلها لكن تسقط عنه عقابها في الآخرة
ويشهد في ترجيح هذا القول الذي قلنا أنه مكلف بفروع الشريعة ولا يعني أنها تصح منه إذا فعلها بل لا تصح منه إلا بتقدم شرط الإسلام يشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق الرجل الذي أراد أن يقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على الشرك قال له النبي صلى الله عليه وسلم أسلم ثم قاتل ولو صح منه القتال مع الكفر لما منع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الذين قالوا أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة مطلقا ً واستدلوا على هذا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ادعهم إلى شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد أوجب عليهم خمس صلوات فأن هم أطاعوا على ذلك فأعلمهم أن الله أوجب عليهم الزكاة فيما معنى الحديث
وقد استدل به من قال أنه لابد من تقدم الإسلام حتى تجب الصلاة والزكاة فنقول هذا الحديث تمامه ينقض وجه الاستدلال الذي ذكروه فإن في وسطه وآخره بعد قوله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد أوجب عليهم خمس صلوات قال فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ولم يقل أحد بأن التكليف بالزكاة موقوف على الاستجابة للصلاة فلابد من أن يخرج هذا الترتيب غير مقصود في هذا الحديث فيخرج هذا الترتيب عن ظاهره وأشار إليه أبن أمير الحاج من علماء الحنفية فنقول بهذا إن الترتيب في هذا الحديث إنما هو ترتيب الأهم فالأهم في الدعوة ولا ينافي هذا تكليفهم بجميعها
والحقيقة إذا أتينا إلى ثمرة الخلاف في تكليف الكفار بفروع الشريعة هناك
من يقول مع قولنا بوجود خلاف في المسألة إلا أن الخلاف هنا في الحقيقة خلاف لفظي فيحمل أقوال مختلفة كل منهما على غير ما يحمل عليه القول الأخر فنحمل قول المنكرين بتكليف الكفار بفروع الشريعة على أنهم لا يجبرون على أدائها في الدنيا و لا يعاقبون عليها في الدنيا وإن كانوا يعاقبون عليها في الآخرة ونحمل قول من قال بأنهم مكلفون بها على أنهم معاقبون عليها في الآخرة وإن لم يطالبوا بها في الدنيا وبهذا يحصل الاتفاق بين القولين
والحقيقة أن العلماء متفقون على أن الكفار لا يجبرون على أداء العبادات في الدنيا ولا يعاقبون عليها فيها وإنما يعاقبون على جحودها وتركها في الآخرة وهذا باتفاق وهذا التأويل لكلام المختلفين في هذه المسألة أجاب عليه الشيخ بخيت المطيعي رحمه الله وأكد ضرورة ذلك وقال هذا أقرب إلى الصواب بل هو عين الصواب لأنه لا خلاف بمخاطبة الكفار بخطاب الوضع كما بينا ذلك ومن باب ربط الأسباب بمسبباتها على انه هناك من قال أن الخلاف في هذه المسألة خلاف معنوي وله ثمرة في الفروع الفقهية فقالوا أثرها في الآخرة هو كثرة عقاب الكفار في الآخرة فإنهم يعذبون على ترك الصلاة والزكاة والحج وعلى الزنا والسرقة وغيرها من الفروع كما أنهم يعاقبون زيادة على ترك الإيمان وأيضا على الشرك والكفر وأما الخلاف في الدنيا فقالوا وردت بعض المسائل التي يمكن أن ينبني عليها الخلاف في المسألة منها
شرط الإسلام
س---- هل يشترط في المكلف أن يكون مسلما ؟ أم لا يشترط فيه ذلك ؟
ج----- أن قلنا أنه يشترط في المكلف أن يكون مسلما فمعنى ذلك أن غير المسلم غير مكلف وإن قلنا إن الإسلام ليس شرطا ً في التكليف فمعنى هذا أن غير المسلم مكلف بالتكاليف الشرعية وهنا سنحتاج إلى تحرير محل الخلاف بين العلماء وتحرير المراد بتكليف الكافر عند من يقول به
لأن هناك من قال بتكليف الكافر فنحتاج إلى تحرير مراد من يقول بهذا القول فأما شرط الإسلام وهل يعد شرطا في التكليف فهذا محل خلاف ولكن قبل أن نذكر الخلاف ننبه إلى مواطن اتفاق اتفق العلماء فيها في هذا المقام
أولا ً : أتفق العلماء على أن الكفار مكلفون بأصول الشرائع والمقصود بها أصول الاعتقاد كالأيمان بالله تعالى والإيمان برسله وتصديقهم ونحو ذلك فهذه متفق عليها بدليل قوله تعالى " إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية "
فتركهم لهذه الأصول يوجب تخليدهم في النار بدلالة هذه الآية
ثانيا ً : لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلفون بالعقوبات كالحدود والقصاص ونحو ذلك وبعض العلماء يعبر عن هذا بعبارة أعم من هذا فيقول : أجمع العلماء على أن الكفار مخاطبون بخطاب الوضع أي ليس بخطاب التكليف مثل اعتبار جناياتهم سببا ً في وجوب العقوبات عليهم ولذلك تقام الحدود عند تقرر أسبابها منهم كما يعتبر وقوع عقودهم على الأوضاع الشرعية سببا ً لترتيب أثارها عليها مثل : البيع والنكاح منهم ونحو ذلك كما أن الإتلاف يعد سببا ً لوجوب الضمان عليه وذكروا لتكليف الكفار في المعاملات سببا ً وهو أن المعاملات قصد بها الحياة الدنيا والكفار أنسب لتكليفهم بالمعاملات من أهل الإسلام لأنهم أثروا الحياة الدنيا على الآخرة وذكروا السبب في القول بتكليفهم بالعقوبات كالحدود والقصاص ونحو ذلك قالوا أن العقوبات قصد بها الزجر عن ارتكاب أسبابها والكفار أحق بالزجر وأولى به من المؤمنين هذه أمور تقريبا ً ثلاثة لا خلاف بين العلماء في تكليف الكفار بها
الأمر الرابع اختلف العلماء في تكليف الكفار في ماعدا ما سبق يعني في ماعدا( أصول الشرائع) وبما عدا المعاملات وبما عدا العقوبات فهل هم مكلفون مثلا ً بالصلاة والزكاة والصوم والحج وموضوع الطلاق والظهار مثلا والكفارات والأيمان لو الحلف صدر من كافر ونحو ذلك فهل هم مكلفون بهذا أم غير مكلفين ويعبر العلماء عن هذا
القسم الرابع بقولهم( فروع الشريعة )
س----- هل الكفار مكلفون بفروع الشريعة ويجعل هذا مقابل لما ذكرنا في القسم الأول وهو أصول الشريعة متفق على أنهم مكلفون بها ويقولون إن الخلاف إذن بفروع الشريعة هل هم مكلفون بها فيذكر خلافا في هذا
ج----- هناك من نقل اتفاق على أن الكفار مكلفون بالنواهي دون الأوامر بمعنى أنهم مطالبون بالانكفاف عن المنهيات دون المأمورات فهم غير مأمورين بفعلها لعدم صحتها منهم في حال الكفر
وهذا القول ذكره الزركشي في( البحر المحيط) وأستحسنه ولكن هذا الاتفاق يقدح فيه أنه سيأتي من يخالف في هذا من خلال الأقوال التي سنذكرها الآن ويقول : لا بل هم مكلفون أيضاً ً بالأوامر بما أنهم مكلفون بالنواهي وعلى كل حال هذه النقطة ذكر فيها بعض العلماء اتفاق وهو ليس على وجهه الصحيح
خلاف العلماء في تكليف الكفار على عدة أقوال وسنختصر المسألة على أهم هذه الأقوال
القول الأول :
أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة مطلقا الأوامر والنواهي بشرط تقدم الإسلام بمعنى أنه مكلفون بهذه الفروع بشرط أن يقدم عليها الإيمان وجعلوا هذا نظير مسألة تكليف المسلم بالصلاة بشرط الطهارة وقالوا المسلم مكلف بالصلاة بشرط أن يقدم عليها الطهارة فنظير هذا أن الكافر مكلف بالواجبات الشرعية من صلاة وصوم وزكاة إلى أخره بشرط أن يقدم عليها الإيمان \
ومعنى هذا أن الكافر مطالب بفعل هذه الأمور وهي الصلاة والصوم والحج كما أنه مطالب بالإيمان ومعاقب على تركها إن كانت أوامر أو على فعلها إن كانت نواهي كما أنه معاقب على ترك الإيمان هذا معنى هذا القول وذهب عليه جمهور الأصوليين فهو عليه أكثر الشافعية وهو ظاهر مذهب الإمام مالك وأيضا نقل عن الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه ونقل عن بعض الحنفية كالكرخي والخصاف منهم وقال الدبوسي أنه مذهب عامة مشايخ العراق من الحنفية ومن أدلة هذا القول قوله تعالى " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين " ووجه الدلالة من هذا أنها دلت صراحة على أن الكفار مؤاخذون على ترك الصلاة وعلى ترك أطعام المسكين وأن تركهم لذلك موجب لتخليدهم في النار ولولا تكليفهم بهذه الأمور لما عوقبوا عليها وأيضا ً من أدلتهم في هذا المقام أن الله تعالى ذم قوم شعيب على الكفر ونقص المكيال وذم قوم لوط على الكفر وإتيان الذكور وذم قوم عاد على الكفر وشدة البطش فقال مثلا في قوم هود " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " دل هذا الذم على أن هؤلاء الكفار مكلفون بهذه الأمور مكلفون مثلا ً بترك نقص المكيال كما أنهم مكلفون بترك الكفر مكلفون بترك إتيان الذكور كما أنهم مكلفون بترك الكفر ومكلفون بترك شدة البطش كما أنهم مكلفون بترك الكفر فدل هذا على أن الكفار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالأصول واستدلوا أيضاً ً بأدلة أخرى منها قوله تعالى " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فقالوا إن هذا أيضاً صريح ٌ بأن الكفار معذبون عذابا ً زائدا ً على عذاب الكفر ومادام أنهم معذبون عذابا زائدا ً فمعنى هذا أنهم مكلفون بتلك الأمور منها الصد عن سبيل الله ونحو ذلك كما ورد بدلالة هذه الآية وأيضا ً قوله تعالى " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " في شأن نكاح المشركات المسلمات للكفار وحتى الزركشي يقول عن هذه الآية و الآية السابقة وليس فيه أصلح منهما وأيضا ً من الأدلة على تكليف الكفار بفروع الشريعة قوله تعالى " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ثم قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة "
هذا صريح بأن الكفار مكلفون بعبادة الله تعالى ومكلفون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هذه طبعا ًجملة أدله منها أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين الذين زنيا ولولا تكليفهم بهذا لما رجمهم وهذا طبعا ً في باب العقوبات وهو خارج عن محل النزاع
استدلوا أيضاً بدليل القياس فقالوا إن المؤمن يثاب عند الله تعالى ويستحق الثواب عند الله تعالى على امتثاله الأوامر واجتنابه النواهي زيادة ٍ على ثواب إيمانه قالوا فكذلك الكافر من باب أولى ينبغي أن يستحق العقاب على ارتكاب النواهي والعقاب على ترك الأوامر زيادة ً على عقاب ترك الإيمان من باب أولى وهذا استدلال كما قلنا بالقياس
استدلوا أيضاً بدليل في هذا المقام قالوا أن الكفر لا يصلح مخففا ً وإذا قلنا بعدم تكليف الكفار بفروع الشريعة كان كفرهم سببا ً في التخفيف عنهم وهذا دليل لأصحاب هذا القول
وهذه أدله متضافرة على القول أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة مثل تكليفهم أيضاً بأصول الشريعة من الإيمان ونحو ذلك
القول الثاني في هذه المسألة:
أن الكفار غير مكلفين أو غير مخاطبين بفروع الشريعة من الأوامر والنواهي وهذا قول جمهور الحنفية قال عنه صدر الشريعة الحنفي : هو قول مشايخ ديارنا وأراد بذلك مشايخ ما وراء النهر ونسبه التفازاني إلى أبو زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي وقال هو المختار عند المتأخرين يعني من الحنفية وأبو زيد الدبوسي والسرخسي صرحا
بان هذا القول ليس منقولاً عن الحنفية المتقدمين في هذه المسألة نصا ً وإنما أخذ من فروع الحنفية من فتاوى علماء الحنفية وذكروا عن الإمام محمد بن الحسن أن من نذر الصوم ثم أرتد ثم أسلم فإنه لا يلزمه قضاء ذلك النذر لأن الشرك أبطل كل عبادة فاستنبطوا من هذا القول أن محمد بن الحسن يرى أن الكفار غير مكلفين بفروع الشريعة ومن هذا مسألة عدم تكليفهم بالنذر هنا وهذا يدلنا على ما سبق و قررناه في أول حلقات هذا المنهج قلنا في منهج الحنفية وما تميز به المنهج أنهم يبنون قواعدهم الأصولية من خلال النظر في فتاوى علمائهم وأئمتهم فهم أخذوا من هذه الفتوى لمحمد بن الحسن وغيرها من الفتاوى
أخذوا منها أن الكفار غير مكلفين وغير مخاطبين بفروع الشريعة
والسرخسي من علماء الحنفية يقول : لا خلاف في أن الكفار مخاطبون بالأيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة وأما في العبادات فبالنسبة للآخرة كذلك يعني مكلفين أما بحق وجوب الأداء بالدنيا فهي موضع خلاف ويشير بهذا إلى الخلاف الواقع بين الجمهور والحنفية في هذا المقام
الحنفية ومن تبعهم في هذا المقام الذين رأوا عدم تكليف الكفار بفروع الشريعة استدلوا على هذا بجمله من الأدلة منها
أولا ً : قالوا إن الأمر بالعبادة يقصد منه تحصيل الثواب والكافر ليس أهلا للثواب فلا يأمر بها وأيضا ً استدلوا بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله" أدعهم إلى شهادة لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد أفترض عليهم خمس صلوات ...إلى أخر الحديث"
قالوا هذا دليل على أن الأمر بالصلوات والزكاة وغير ذلك فيما أتى في أخر الحديث لا يكون إلا بعد طاعتهم بأن يؤدوا الشهادتين على وجههما فحينئذ ٍ يؤمرون بالصلاة وما تبعها فهذا دليل على أن الكافر لا يكلف بفروع الشريعة إلا بعد الإيمان استدلوا بدليل ثالث قالوا لو صح تكليف الكفار بفروع الشريعة لصح منهم فعلها لأنهم إذا أدوها كانوا موافقين للأمر فطبعا ًهذا دليلهم في هذا المقام وسيأتي إجابة عن أدلة الحنفية في هذا المقام بعد ذلك
القول الثالث في المسألة :
أن الكفار مكلفون بالنواهي دون الأوامر وسبق أن ذكرنا أن الزركشي نقل الاتفاق على هذا القول واستحسن هذا القول وقلنا أن فيه نظر لأن هناك من يخالف في هذا
دليلهم في هذا قالوا أن الانتهاء أو الكف عن الشيء في حالة الكفر ممكن فإنه لا يشترط في الانتهاء قصد التقرب فيجوز التكليف في المنهيات والنواهي في حق الكفار بخلاف الأوامر فأنه يشترط فيها قصد التقرب إلى الله تعالى وهذا لا يتحقق من الكافر فحينئذ ٍ لا تصح منه وإذا كانت لا تصح منه فلا نقول بتكليفه هنا هذا بما يتعلق بالقول الثالث
القول الرابع على عكس القول الثالث
أن الكفار مكلفون بالأوامر فقط دون النواهي وهذا القول ذكره الزركشي ونقله عن ابن المرحل في كتابه ( الأشباه والنظائر ) وابن المرحل هو ابن الوكيل في كتابه الأشباه والنظائر ولعله أنقلب ممن قبله يعني عكس القول السابق قال ويرده الإجماع السابق على تكليف الكفار بالنواهي
القول الخامس
هو التفريق بين الكافر الأصلي والكافر المرتد قالوا الكافر المرتد مكلف بفروع الشريعة أما الكافر الأصلي فهو غير مكلف بفروع الشريعة وعللوا لهذا بأن الكافر المرتد ملتزم ٌ بأحكام الإسلام في الأصل بخلاف الكافر الأصلي فأنه غير ملتزم بأحكام الإسلام من الأصل وهذا القول لا يعرف له قائل والزركشي رد على هذا القول وقال لا معنى لهذا التفصيل لأن مأخذا النفي فيهما- يعني نفي التكليف للكافر الأصلي فيه- سواء وهو جهله بالله تعالى لأن الكافر الأصلي والكافر المرتد كلاهما جاهل بالله تعالى
القول السادس :
أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة جميعها ماعدا الجهاد وعللوا استثناء الجهاد بأن الجهاد يمتنع عقلا ً أن يجاهد الكافر نفسه وهذا القول صرح به أمام الحرمين في كتابه نهاية المطلب في الفقه والحقيقة انه لا فائدة من هذا الاستثناء لأنه لا يتصور شرعا من الكافر أن يجاهد نفسه ولو حصل منه الجهاد بعد الإيمان يخرج عن موضوع المسألة التي نتكلم عنها
القول السابع :
التوقف في المسألة يقولون لا نقول بتكليفهم بفروع الشريعة ولا نقول بعدم تكليفهم لتساوي الأدلة في هذا المقام وعدم وضوح الترجيح في هذا المقام وهذا القول حكاه أبو إسحاق الأسفراييني عن أبي الحسن الأشعري وهو أيضاً مروي ٌ عن الأشاعرة في هذا المقام
القول الثامن :
هو التفريق بين الكافر الحربي والكافر غير الحربي
فالكافر الحربي غير مكلف بفروع الشريعة وأما الكافر غير الحربي فهو مكلف بفروع الشريعة وهذا القول خرجه الزركشي من فروع الشافعية في الفقه فهم يقولون في القصاص والسرقة والشرب للخمر لا يجب حدها على الكافر الحربي لعدم التزامه بأحكام الإسلام بخلاف الكافر الذمي فإنه يجب عليه القصاص ويجب عليه حد السرقة وحد شرب الخمر لأنه ملتزم بأحكام الإسلام فخرج الزركشي من ذلك أن هذا يحتمل أن يكون قولا ً للشافعية في هذا المقام بأنه يقولون بتكليف الكافر غير الحربي والغير حربي لا يقولون بتكليفه
والذي يترجح في هذا المقام هو القول الأول القائل بتكليف الكفار بفروع الشريعة مطلقا ً دون أن نفرق بين المأمورات والمنهيات أو بين الأوامر والنواهي إلا أن الأداء لا يصح من الكفار في هذه الحالة لأن صحة الأداء متوقفة ٌ على الإيمان والإسلام ولهذا نستطيع أن نقول إن اشتراط الإسلام في التكليف محمول على اشتراطه في نوع من التكليف وهو الأداء دون الوجوب فيكون الكافر حينئذ ٍ مكلف بفروع الشريعة ومكلفا ً بشرطها وهو الإيمان ومعاقب على تركها إن كانت أوامر وعلى فعلها إن كانت نواهي كما أنه معاقب على ترك الإيمان فهذا هو معنى القول الذي رجحناه في هذا المقام
معنى تكليف الكفار بفروع الشريعة أنهم مطالبون بها في الدنيا كما أنهم مطالبون بالإيمان ومعاقبون عليها في الآخرة إما على تركها إن كانت أوامر وإما على فعلها إن كانت نواهي كما أنهم معاقبون على ترك الإيمان
ولا يعني قولنا أنهم مكلفون بفروع الشريعة لا يعني ذلك أنهم لو فعلوها في الدنيا صحت منهم مع الكفر لأن صحة العبادة وفعلها مشروط بشرط تحقق الإيمان والإسلام لذلك نقول بناء على هذا لا يكون الإسلام شرطا في التكليف بل يكون الكافر مكلفا ً ولو لم يحقق فيه شرط الإسلام ومن يقول باشتراط الإسلام في هذه الحالة فيحمل على اشتراطه في نوع من أنواع الأهلية في الأداء أما الوجوب في الذمة فالإسلام ليس شرطا ً فيه فبهذا ربما يزول الخلاف الذي دائما يتكرر معنا في كل مسألة من مسائل التكاليف الشرعية فنقول : من يقول بأن الإسلام شرط في التكليف نحمله على انه شرط ٌ في الأداء بمعنى مادام أن الإسلام ليس متوافرا في الكافر فمعنى هذا أنه غير مكلف في جانب أهلية الأداء ومن يقول بأن الإسلام ليس شرطا ً والكافر مكلف
فنقول : مقصود بذلك أنه مكلف في جانب أهلية الوجوب أو الوجوب في الذمة فتبقى هذه الأمور في ذمته حتى يسلم فإذا أسلم لازمه فعلها لكن تسقط عنه عقابها في الآخرة
ويشهد في ترجيح هذا القول الذي قلنا أنه مكلف بفروع الشريعة ولا يعني أنها تصح منه إذا فعلها بل لا تصح منه إلا بتقدم شرط الإسلام يشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق الرجل الذي أراد أن يقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على الشرك قال له النبي صلى الله عليه وسلم أسلم ثم قاتل ولو صح منه القتال مع الكفر لما منع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الذين قالوا أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة مطلقا ً واستدلوا على هذا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ادعهم إلى شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد أوجب عليهم خمس صلوات فأن هم أطاعوا على ذلك فأعلمهم أن الله أوجب عليهم الزكاة فيما معنى الحديث
وقد استدل به من قال أنه لابد من تقدم الإسلام حتى تجب الصلاة والزكاة فنقول هذا الحديث تمامه ينقض وجه الاستدلال الذي ذكروه فإن في وسطه وآخره بعد قوله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد أوجب عليهم خمس صلوات قال فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ولم يقل أحد بأن التكليف بالزكاة موقوف على الاستجابة للصلاة فلابد من أن يخرج هذا الترتيب غير مقصود في هذا الحديث فيخرج هذا الترتيب عن ظاهره وأشار إليه أبن أمير الحاج من علماء الحنفية فنقول بهذا إن الترتيب في هذا الحديث إنما هو ترتيب الأهم فالأهم في الدعوة ولا ينافي هذا تكليفهم بجميعها
والحقيقة إذا أتينا إلى ثمرة الخلاف في تكليف الكفار بفروع الشريعة هناك
من يقول مع قولنا بوجود خلاف في المسألة إلا أن الخلاف هنا في الحقيقة خلاف لفظي فيحمل أقوال مختلفة كل منهما على غير ما يحمل عليه القول الأخر فنحمل قول المنكرين بتكليف الكفار بفروع الشريعة على أنهم لا يجبرون على أدائها في الدنيا و لا يعاقبون عليها في الدنيا وإن كانوا يعاقبون عليها في الآخرة ونحمل قول من قال بأنهم مكلفون بها على أنهم معاقبون عليها في الآخرة وإن لم يطالبوا بها في الدنيا وبهذا يحصل الاتفاق بين القولين
والحقيقة أن العلماء متفقون على أن الكفار لا يجبرون على أداء العبادات في الدنيا ولا يعاقبون عليها فيها وإنما يعاقبون على جحودها وتركها في الآخرة وهذا باتفاق وهذا التأويل لكلام المختلفين في هذه المسألة أجاب عليه الشيخ بخيت المطيعي رحمه الله وأكد ضرورة ذلك وقال هذا أقرب إلى الصواب بل هو عين الصواب لأنه لا خلاف بمخاطبة الكفار بخطاب الوضع كما بينا ذلك ومن باب ربط الأسباب بمسبباتها على انه هناك من قال أن الخلاف في هذه المسألة خلاف معنوي وله ثمرة في الفروع الفقهية فقالوا أثرها في الآخرة هو كثرة عقاب الكفار في الآخرة فإنهم يعذبون على ترك الصلاة والزكاة والحج وعلى الزنا والسرقة وغيرها من الفروع كما أنهم يعاقبون زيادة على ترك الإيمان وأيضا على الشرك والكفر وأما الخلاف في الدنيا فقالوا وردت بعض المسائل التي يمكن أن ينبني عليها الخلاف في المسألة منها