أقســام التكليــف :
هذه الأقسام من دقائق ما أورده الحنفية في هذا الباب وهو أيضاً موضوع مهم جدا له علاقته (بمسألة التأصيل والتقعيد) التي ينبني عليها تفريع فقهي انفرد به (الحنفية) أيضاً عن من سواهم من أصحاب المذاهب وقد يلتقي معهم بعض أصحاب المذاهب في بعض الأحكام لكن من جهة التأصيل يعتبر هذا المنهج عند (الحنفية) أضبط في موضوع ضبط مسائل التكليف ونحن ذكرنا أن (الحنفية) يعبرون عن موضوع أحكام التكليف بموضوع (الأهلية ) .
فيما يتعلق بأقسام التكليف إنما أوردها (علماء الحنفية) فعلماء الحنفية (يعبرون عن التكليف بالأهلية) قسموا التكليف أو (الأهلية) إلى قسمين :
· القسم الأول : أهلية الأداء أو يعبرون عنه بلفظ (وجوب الأداء)
· القسم الثاني : أهلية الوجوب ويعبرون عنه بقولهم (الوجوب في الذمة)
فإذن عندنا قسمان :(أهلية الأداء) و (أهلية الوجوب) كقسمين متقابلين
أو نقول (الوجوب في الأداء) و(الوجوب في الذمة) كقسمين أيضاً متقابلين
الحنفية عرفوا(أهلية الأداء) أو(الوجوب في الأداء) : (عرفوه بأنه /المطالبة بالفعل إيجادا وعدما) .
ويقولون الحنفية أن النوع هذا من التكليف يستلزم وجود العقل والفهم بالخطاب لماذا ؟ لأنه لا يتصور
طلب أداء فعل ما من شخص غير عاقل أو غير فاهم بما يخاطب به .
أيضا عرفوا (أهلية الوجوب) أو (الوجوب في الذمة) : (بأنه اشتغال الذمة بالواجب) والمقصود بالواجب
(يشمل المأمور به أو المنهي عنه ) .
فلو عبرنا بقولنا (اشتغال الذمة بالمطلوب) . يكفي هذا لأنه يشير إلى (المطلوب تركاً والمطلوب فعلاً) و الحنفية يقولون أن هذا القسم لا يستلزم العقل ولا الفهم .
(بخلاف القسم الأول) لماذا ؟
لأن الذمة صالحة لتعلق الوجوب بها في الصغير والمجنون والأداء يكون عندئذ على وليه أو عليه عندما يصلح أهلاً لوجوب الأداء .
(الزركشي) في (البحر المحيط) فرق على لسان (الحنفية) بين القسمين السابقين حيث قال : قالوا أي (الحنفية) الأول والمقصود به (أهلية الأداء) متلقى من الخطاب _ يعني من ألفاظ الشارع _ وخطاباته بالأمر والنهي والثاني أي (أهلية الوجوب) متلقى من الأسباب ، وفرعوا (الحنفية) على ذلك فرعوا على هذا التفريق :
مسألة مستغرق الوقت بالنوم أي من يستغرق الوقت بالنوم سواء (وقت الصلاة أو وقت الصيام)
مستغرق الوقت بالنوم قالوا مثلا في الصلاة يقضي الصلاة مع ارتفاع قلم التكليف عن النائم لماذا ؟
لوجود السبب وهو (الوقت) لأنه مر عليه الوقت وهو وقت التكليف ، قالوا وهو يكفي لتعلق الوجوب في الذمة .
وكذلك قالوا يجب القضاء على المجنون إذا أفاق أثناء الشهر (شهر رمضان) لماذا ؟
لوجود السبب في حقه وهو أنه قد شهد جزءا من الشهر .
قال (الزركشي) وعند (الشافعية) لا يجب عليهم (النائم والمجنون)
القضاء لعدم الخطاب في تلك الحالة ،
وهذا يذكره (الزركشي) نقلاً على لسان (الحنفية) أنهم يقولون بذلك ، ثم إن (الزركشي) أنكر ثبوت هذا عن(الشافعية) ، وقال عندنا أي (الشافعية) لا وجوب إلا بالخطاب لا بالأسباب .
هذا فيما يتعلق بتفريق (الحنفية) في هذا ؛ الذي نقله (الزركشي) عنهم مما يؤكد أن(أهلية الوجوب) أي (الوجوب في الذمة) نوعاً من أنواع التكليف كما يقول (الحنفية) أداء الولي والوصي عمن تحت ولايته أو وصياته فلولا تعلق الوجوب في ذمته لما صح الأداء عنهما { يعني } (أن الولي لو كان تحت ولايته شخص غير مكلف فإنه يلزمه أن يؤدي عنه الواجبات المالية) .
مثل (الزكاة والديون) ونحو ذلك ، فيلزم أن يؤدي الوصي عن من تحت ولايته أو وصياته يقول(الحنفية) لو أن عندنا شئ اسمه(الوجوب في الذمة) لما وجب في ذمة الشخص غير البالغ أو غير العاقل الذي عليه ولاية .
(يعني) كيف نقول تجب الزكاة في مال المجنون أو الصبي كيف نثبت ذلك ؟
(إلا بطريق أن نثبت شيء اسمه (الوجوب بالذمة أو أهلية الوجوب)) فعند المجنون والصبي ليس عندهما (أهلية الأداء) أي (غير صالحين لأداء الواجبات بنفسيهما) لكن يمكن أن يصبح (الوجوب في الذمة) (بمعنى شيء في ذمتهما) ومن يؤدي عنهما يؤديه الولي .
فقالوا هذا دليل يمكن أن نسميه (الوجوب في الذمة أو أهلية الوجوب) وهذا قسم ثاني من أقسام التكليف أو من أقسام الأهلية ، فاستدلوا به (الحنفية) على وجود مثل هذا القسم .
لكن عندما ننظر في الفروع الفقهية الموجودة (عند الشافعية وكذلك الحنفية) يظهر لنا أن الخلاف في اعتبار تقسيم التكليف أو الأهلية إلى قسمين أو عدم تقسيمه أنما هو (خلاف لفظي) في الحقيقة ، لماذا ؟
لأن الكل متفقين على أن ذمة الصغير وغيره قابلة لهذه الواجبات مثلا (الزكاة والديون) وغيرها ؛ وهذا ما صرح به (الزنجاني) في كتابه (تخريج الفروع على الأصول) بعد ما عقـد مقارنة بين(قول الحنفية) و (قول الشافعية) في تكليف الصبي و المجنون بالواجبات أو عدم تكليفهما . قال : وهذا على الحقيقة خلاف اللفظ فإنهم أي (الحنفية) يعنون بالوجوب استحقاق هذه الأفعال في ذمم المذكورين شرعاً أي (تبقى في ذمتهم شرعا) بمعنى وجوب القضاء عند زوال العذر المانع من التكليف وهو مسلم عندنا أي (الشافعية) لأن (الزنجاني) من الشافعية ، ونحن نعني بانتفاء الوجوب انتفاء تكليف الفعل حال قيام العذر وهو مسلم عندهم أي (الحنفية) فحصل بهذا أن الخلاف لفظي .
وهذا يدعونا إلى أن ينبغي أن نحلل أقوال العلماء في هذه المسائل :
(الشافعية) يقولون : لا يجب على المجنون والصبي شيء و يقصدون به وجوب معين أي (لا يجب عليهما حال قيام العذر) و (الحنفية) لا يخالفون في هذا .
(الحنفية) يقولون : يجب على المجنون والصبي واجبات شرعية ويقصدون به وجوب معين أي (يجب عليهما القضاء في حال زوال العذر وتمكنهما من القضاء) و كذلك (الشافعية) لا يخالفون في هذا .
وكلا القولين لا يناقض الآخر ، إذن المراد بالقولين ينفي الخلاف بينهما .
(صدر الشريعة الحنفي) في كتابه (التوضيح) ذكر أن بعض العلماء لا يدركون الفرق بين نفس الوجوب أي (أهلية الوجوب) و وجوب الأداء أي (أهلية الأداء) ويقولون أن الوجوب لا ينصرف إلا إلى الفعل وهو الأداء فبالضرورة (يكون وجوب الأداء) فلا يبقى فرقاً بينهما ، ثم قال معقـباً على ذلك : ولله در من أبدع الفرق بينهما ، أي (الفرق بين أهلية الأداء وأهلية الوجوب) وما أدق نظره وما أمتن حكمته .
وتحقيق ذلك إنه لما كان الوقت سبباً لوجوب الصلاة كان معناه أنه لما حضر وقت شريف كان لازما أن يوجد فيه هيئة مخصوصة وضعت لعبادة لله تعالى وهي (الصلاة) فلزوم وجود تلك الهيئة عقب السبب هو نفس الوجوب ، ثم الأداء هو إيقاع تلك الهيئة فوجوب الأداء هو لزوم إيقاع تلك الهيئة مبنيُ على الأول .
(فصدر الشرعية الحنفي) يقرر وجود الفرق بين القسمين ، ويثني على من فرق (بين أهلية الوجوب وأهلية الأداء) وهذا حقيقة ثناء في محله ، لأن هذا يضبط لنا مسائل التكليف .
لأن عندنا في التكليف شخص توافرت فيه الشروط وشخص لم تتوافر فيه شروط التكليف فمن توافرت فيه شروط التكليف فهو مكلف بمعنى (يجب عليه الأداء فإن لم يتمكن من الأداء وجب عليه في الذمة) لكن من لم تتوافر فيه شروط التكليف مثل المجنون والصبي (لا يجب عليهم الأداء حالاً) لكن لو زال العذر عنهم .
ففي ذلك تفصيل :
بعض العلماء يقولون : إذا زال العذر عنهم (المجنون والصبي) مثلاً في الصلاة فإنه يجب عليه أداء الصلاة في وقتها وإذا زال عنه العذر في الصيام فيجب عليه إتمام الصيام وقضاء ، وبعضهم لا يوجب ذلك إجمالاً .
فإذا رجعنا إلى ضبط (أهلية الوجوب وأهلية الأداء) ونظرنا إلى هذين القسمين أمكننا أن نفرق بين الشخص الذي توجد فيه شروط التكليف والذي لا توجد فيه شروط التكليف وكذلك فاقد شروط التكليف مثل (المجنون والصبي) قد تجب عليه واجبات مثل (الزكاة) لو كان عليه مال العلماء يقولون يجب عليه الزكاة لو أنه اتلف شيئاً من حقوق الناس يجب عليه ضمانه من ماله فكيف نقول إنه غير مكلف ثم نوجب عليه أشياء ،
فقال العلماء : نقول إنه غير مكلف أي (أنه غير مكلف بأهلية الأداء) ونقول إنه مكلف بمعنى أنه يجب عليه شيئاً في الذمة (في ذمته) ، فإذا أفاق من جنونه أو إذا بلغ الصبي وجب عليه أداء تلك الواجبات (إذا كان عليه أموال وجب عليه أو على وليه أداء ذلك) لأنه توافرت فيه أهلية الوجوب في الذمة.
هذين القسمين يمكن أن يتضح لنا جملة من أحكام التكليف المرتبطة بمن توافرت فيه شروط التكليف وبمن لم تتوافر فيه شروط التكليف على وجه الخصوص .
فعندما نأتي إلى شخص غير متوافر فيه شروط التكليف ونقول هو مكلف بأمر من الأمور ،فيأتينا شخص يقول أنتم تقولون شروط التكليف غير متوافرة فيه فكيف تقولون إنه مكلف ؟
نقول نعم بهذا التقسيم نخرج من هذا الاعتراض نعم هو غير مكلف (بأهلية الأداء) لكنه مكلف (بأهلية الوجوب) أي (الوجوب في الذمة) فمتى زال عنه العذر القائم عنده (أي صار مكلفاَ) وجب عليه الأداء أو نوجب على وليه مباشرة الأداء إذا كان له ولي فبهذا التقسيم الذي أثنى عليه (صدر الشريعة الحنفي) ونحن أيدنا هذا الثناء ، نخرج به كثيراً من الإشكالات التي ترد علينا في موضوع التكليف وخاصة فيمن يفقد شروط التكليف