مرونة القانون الإداري وتطوره السريع:
 يتميز القانون الإداري بتطوره ومرونته، حيث أن قواعده وأحكامه جاءت وليدة ظروف واقعية متغيره، وذلك أن القانون الإداري شديد الحساسية لما يجري في المجتمع من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية ، ولما كانت هذه التطورات مستمرة، كان من اللازم أن تظل أحكام ومبادئ القانون الإداري قابلة للتطور السريع، لكي تكون متجاوبة مع الظروف المتغيرة.

وإن هذه المرونة، وهذه القابلية للتطور السريع قد يؤثران في القيمة المعنوية لقواعد القانون الإداري، وتؤثر في ثقة الناس بها واحترامهم لها.
ذلك أن القانون من الخصائص التي يتميز بها الثبات والاستقرار والعمومية، وأن تحقيق العدل والمساواة بين الناس لا يكون كاملاً إلا إذا كان القانون واحداً وعاماً من ناحية، وقواعده واضحة ومعروفة من ناحية أخرى.
ولا شك في أن مرونة القانون الإداري وتطوره السريع قد تؤثران على هذه القيم. فالمرونة تتنافي مع الوضوح والثبات. والتطور السريع يحول دون إمكان الإلمام الدائم بقواعد القانون الإداري، ولا شك في أن قدم القاعدة القانونية يكسبها مزيداً من الاحترام والهيبة لدى الجمهور.. كما أنه لا سبيل إلى تحقيق العدل ما لم يكن القانون عاماً وواضحاً ومعروفاً لدى الكافة، وقد قيل بحق أن قواعد القانون الإداري تكاد تكون سرية، نظراً لأن الجانب الأكبر من هذه القواعد مصدرة أحكام القضاء، وهذه لا يمكن معرفتها وفهمها إلا للقلة من القانونيين المختصين في هذا الفرع من فروع القانون. ومن ثم تظل كثير من هذه القواعد مجهولة للغير القليلون من الأفراد.

وإن التطور ليس خاصية ذاتية للقانون الإداري، حيث أن القانون بصفة عامة متطور بطبيعته لأن تنظيم العلاقات الاجتماعية، وهي بطبيعتها متطورة ومتغيرة، يحتم أن تكون القواعد المنظمة لها متطورة، وإن كان القانون الإداري أكثر تطوراً واستجابة إلى المتغيرات التي تحدث في شتى نواحي الحياة.

وما هذه الخاصية ، أي سرعة الاستجابة إلى المتغيرات الاجتماعية للقانون الإداري سوى انعكاس للتطور الذي يصيب النشاط الإداري في المجتمع.

ولقد ساعد العديد من العوامل على تطور نشاط الإدارة وأتساع مجالاته.
(1)   فالأزمات التي يمر بها المجتمع، كالحروب مثلاً، أدت إلى تطور ملموس في نشاط الإدارة، من حيث أتساع سلطاتها، وتقليص لحقوق الأفراد، وممارستها لبعض الأنشطة التي لم تكن تقوم بها في الظروف العادية .
حيث تؤدي الحرب على سبيل المثال، إلى النقص في المواد الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة مما يدفع الدولة إلى التدخل لتنظيم توزيع هذه المواد، وتحديد استهلاكها، كما يدفعها ذلك أيضاً إلى اتخاذ إجراءات غير عادية في سبيل الحصول على هذه المواد، كأسلوب الاستيلاء عليها جبراً عن إرادة أصحابها، وأيضاً توقيع الجزاءات القاسية على كل من يتلاعب في أسعارها، أو من يحاول إخفاءها رغبة في بيعها بسعر أفضل. 

ويلاحظ أن الظروف غير العادية ليست حكراً على حالة الحرب، فهناك الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تهدد كيان الدولة، وتعتبر من أشكال الظروف غير العادية وهي تبرر، حفاظاً على استمرارية الدولة وبقائها، اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على أمن الدولة وسلامتها. فثمة قاعدة توجب ذلك حتى ولو أسند إلى الحكومة، بصفة استثنائية ، من السلطة ما يمكنها من السيطرة على الموقف المتدهور، ولو كان في استخدامها لمثل هذه الامتيازات ما يتناقض مع تطبيق القانون في الأحوال العادية.

(2)   من العوامل التي أدت إلى أتساع النشاط الإداري شيوع الأفكار المطالبة باتخاذ الدولة موقفاً إيجابياً من النشاط الاجتماعي يتعدى موقفها السلبي المتمثل في الضبط الإداري.

فقد كانت وظيفة الإدارة العامة في الماضي، وذلك عملاً بمبدأ النظام الفردي الحر، محصورة في نطاق ضيق ومحدود، إذ أنها كانت متمثلة في صيانة الأمن وصد الغزو الخارجي، وإقامة العدل بين الناس.
وبلغة القانون يمكن القول ، نشاط الإدارة العامة كان يأخذ في الماضي صورة الضبط الإداري الذي يتحدد هدفه في حفظ النظام العام (أمن عام – صحة عامة – سكينة عامة) ، وصيانة الآداب العامة.

ومع الأخذ بالكثير من الأفكار التداخلية والاشتراكية ، أمتد نشاط الإدارة العامة ، واتسع نطاقه ليشبع حاجات متنوعة اقتصادية واجتماعية وثقافية وصحية، وهي حاجات تنمو وتتجدد كلما تقدمت الجماعة البشرية في طريق الحضارة المدنية.

فالأفكار الاشتراكية تدعو الدولة إلى التدخل إيجاباً عكس الأفكار الرأسمالية التي تدخل سلباً في الحياة الاجتماعية بشتى جوانبها، لتنظيمها والإشراف عليها بدرجات تتفاوت من حالة إلى أخرى.

وقيام الدولة بالنشاط الاقتصادي، كلياً أو جزئياً ، من شأنه أتساع مجالات النشاط الإداري، وبالتالي إلى أتساع نطاق تطبيق القانون الإداري ، حيث أنه من غير المتصور أن تقبل الدولة بالمساومة التامة والمطلقة كقاعدة تحكم نشاطها وعلاقاتها مع الأفراد ، حتى ولو كان هذا النشاط من طبيعة اقتصاد صرفة.

وأدى ذلك أيضاً إلى تضخم الجهاز الإداري وتعقده، بحيث أصبح يتكون من إدارات ضخمة يعلو بعضها فوق بعض، مما يفرض وضع القواعد القانونية التي تحدد العلاقة فيما بينها بهدف التنسيق بين أنشطتها، منعاً للتضارب والتعارض بين هذه الأنشطة،كل هذه القواعد تشكل جانباً من القانون الإداري.

إضافة إلى ذلك، أدى الأخذ بالأفكار الاشتراكية إلى أتساع دائرة الحقوق الحريات العامة التي لم تعد مقصورة، والحالة هذه، على الحقوق والحريات السياسية، حيث ظهرت إلى جانب ذلك حقوق وحريات عامة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، وتنظيم هذه الحقوق المستحدثة يشكل جانباً من القانون الإداري.

(3)   ومن أسباب تطور النشاط الإداري، أيضاً، تأتي المخترعات العلمية والتكنولوجية لتحتل مكاناً هاماً في هذا المضمار، فظهور هذه المخترعات يحتم أتساع نشاط الإدارة لتنظيمها، ومنع إساءة استخدامها من قبل الأفراد.
ولذلك ظهرت مرافق عامة جديدة، منها مرافق الاتصالات السلكية واللاسلكية، وهناك من الاختراعات ما يتحتم احتكاره من قبل السلطة العامة، نظراً لأهميته لأمن الدولة، أو لأن استغلاله يحتاج إلى إمكانيات يعجز الأفراد عن تقديمها.

كما أن من شأن استخدام السلطة العامة للمخترعات الحديثة ما قد يشكل تهديداً للحريات العامة وحقوق الأفراد، مما يحتم وضع الضوابط، وتحديد أوجه استخدام هذه المخترعات بما لا يتعارض مع هذه الحقوق وتلك الحريات.

Previous Post Next Post