مراحل تشريع الجهاد
مر الجهاد الإسلامي بمراحل قبل أن يصل إلى حكمه النهائي الآنف الذكر، وهي:
المرحلة الأولى:
مرحلة الكف عن المشركين, والإعراض عنهم, والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الله، وقد دلت على ذلك كثير من الآيات المكية، منها قوله تعالى: ]قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ .......[ [الجاثية: 14]، وقال تعالى: ]فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا[ [الطارق: 17]، وقال تعالى: ]لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ[ [الغاشية: 22]، وقال تقدست أسماؤه: ]وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[ [الزخرف: 88 - 89]، وغير ذلك من الآيات المكية.
  وبينت ذلك بعض الآيات المدنية، قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ[ [النساء: 77]، وقال رسول الله r لأصحابه في مكة: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا .....»([2]) ولما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلوا على أهل منى فيقتلوهم قال: «إني لم أومر بهذا»([3]).
ولعل من حكم الكف ـ والله أعلم ـ ما يأتي:
1-    تربية الصحابة على الصبر على الظلم الذي يواجهونه من قومهم، فيتعودون على ضبط أعصابهم عند استثارتها، لأنهم تربوا في بيئة لا ترضى بذلك ولا تصبر عليه، وذلك ليتم الاعتدال في طبائعهم، وليكون في ذلك تربية على الانقياد والطاعة للقيادة التي لا يعرفها العرب.  
2-    وقد يكون لأن الدعوة السلمية أكثر أثرا في قبيلة ذات عنجهية وثارات إذ قد يدفعها قتالها إلى زيادة العناد، فتتولد من ذلك ثارات لا تنطفئ أبدا، وتكون مرتبطة بالدعوة إلى الإسلام، فتتحول فكرة الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.
3-    ولو أمروا بذلك وهم ليسوا سلطة منتظمة لوقعت مقتلة في كل بيت فيه مؤمن، ثم يقال: هذا هو الإسلام يأمر بقتل الأهل والذرية، فتكون سلاحا إعلاميا ضد المسلمين.
4-    ولعلم الله السابق بأن كثيرا من هؤلاء المعاندين سيكونون من جند الله بل من خُلَّصهم وقادتهم، وعمر بن الخطاب خير شاهد على ذلك.
5-    ولقلة عدد المسلمين وانحصارهم في مكة، فلو أمروا بالقتال لكان سببا إلى فناء المؤمنين، ولابد قبل الخوض في معركة مع الباطل من تأسيس القاعدة العريضة التي لا تتأثر بفناء ثلة منهم في معركة حاسمة مع الطغاة.
6-    وربما كان ذلك أيضا لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم، وقد وقع ما يدل لهذا، فابن الدغنة ثار لأبي بكر لما رآه خارج مكة يريد مفارقتها، وكذلك خبر نقض الصحيفة الجائرة، والصبر في مثل هذه المواطن يكسب الدعوة والدعاة تعاطفا شعبيا، ولو أنهم لجئوا إلى القوة لخسروا هذا التعاطف، بل قد يزداد الأمر شدة من كل الناس.
7-    ولأن الصبر في مثل هذه المواطن يدعو إلى تفكر المجتمع في حال هؤلاء المؤمنين وإلى تساؤل مفاده: ما الذي يدعوهم إلى كل هذا التحمل؟ إن الذين يدعوهم إليه حق يحملونه في قلوبهم، ويقين بصدق ما هم عليه لا يمكنهم التراجع عنه، فيكون ذلك سببا في إيمانهم.
8-    ولم تكن هناك ضرورة ملحة للقتال؛ لأن النبي r بعث في أمة تعيش على النظام القبلي، فالقبيلة لا ترضى أن يخلص إلى رجل منها وإن كان على غير دينها من قبيل النخوة، وقد كان رسول الله r محميا من بني هاشم، وكان يقوم بدعوته ولم تقدر قريش على قتله خوفا من بني هاشم.
هذه بعض الحكم المستفادة من تلك المرحلة أطنب في ذكر بعضها سيد قطب في كتابه الظلال ([4]).
المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض في المدينة:
قال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ......[ الآية [الحج: 38 - 40].
المرحلة الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط:
قال تعالى: ]فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[ [النساء: 90 - 91].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم، بل قال: ]فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ .......[ الآيات. وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله، وإن كانت الهدنة عقدا جائزا غير لازم) ([5]).
وقال أيضا: (فمن المعلوم من سيرة النبي r الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة: أنه r لما قدم المدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة, بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس والخزرج، فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه، وكان الناس إذا قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون، ومنهم الباقي على دينه وهو متروك لا يُحارِب ولا يُحارَب. وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب، حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي r على حلفهم) ([6]).
المرحلة الرابعة: قتال جميع الكفار من كل الأديان ابتداء وإن لم يبدؤوا بقتال حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية على الخلاف المعروف فيمن تؤخذ منه:
وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة، ومن بعد انقضاء العهود المؤقتة، وتوفي رسول الله r والعمل على هذه المرحلة، وعليها استقر حكم الجهاد، قال تعالى: ]فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [التوبة: 5]، وقال: ]قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ [التوبة: 29].
قال ابن القيم -رحمه الله-: (فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آل حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة) ([7]).

([1]) ينظر للأهمية كتاب: أهمية الجهاد للعلياني ص 136.
([2]) رواه النسائي والحاكم، وقال: على شرط البخاري.
([3]) أخرجه أحمد والطيالسي.
([4]) الظلال (2/713 – 715).
([5]) الجواب الصحيح (1/73).
([6]) الصارم المسلول ص99.
([7]) زاد المعاد (3/160).

Post a Comment

Previous Post Next Post