تأسيس الربط وتعميرها والإشراف على التعليم والتوجيه فيها لنشر الاسلام
العامل الاساسي التي اعتمدها الفقهاء والولاة والدعاة في نشر الإسلام ودعم جهود الفاتحين في المناطق المغربية، فتمثل في إنشاء سلسلة من الربط الجهادية في أطراف البلاد، والربط مفردها رباط، ككتب وكتاب "والرباط واحد الرباطات المبنية"[1]. قال في اللسان "والرباط والمرابطة: ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا"[2].
وقد توسع في استعمال اللفظ ليدل على عمل المرابط ومكان المرابطة، وجرى إطلاقه على القلاع والحصون التي تشاد على أطراف البلاد وعلى خطوط المواصلات لحراسة الثغور والشواطئ، وتأمين حاجة المنطقة إلى الدفاع والإنذار بالعدو عند الحاجة. وقد كان تأسيس بعض هذه الربط في بعض المناطق الشاطئية تمهيدا لتحويلها إلى حواضر مهمة ومراكز للحكم، على غرار ما تم بمصر بالنسبة لمدينة الفسطاط، وما تم بالقيروان نفسها التي تحولت فيما بعد إلى قاعدة إدارية، إذ يذكر أن عقبة بن نافع لما هم ببنائها قال لأصحابه: "نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط"[3] والذي يهمنا هنا أن هذه الربط الجهادية كانت تقوم في الأحوال الأمنية بمهمة التعليم وتحفيظ القرآن وانتساخ المصاحف ونحو ذلك مما يعكف عليه نزلاؤها احتسابا وطلبا للأجر والمثوبة.
وعرفت المرابطة في الثغور البحرية في صدر الإسلام بشكل واسع، وكانت الربط تمتد على طول سواحل الشام ومصر وافريقية المسامتة لبلاد الروم في الشرق والغرب، وتحتفظ بعض المصادر التاريخية بشذرات من أخبار هذه الربط لهذا العهد تشهد أن عمارها كانوا في الغالب من القراء والعلماء حتى كانت المرابطة فيها عنوان زهد القارئ والعالم في متع الدنيا وعيش الرغد في الحواضر.
وهذا أحد كبار رواد هذه الربط في زمنه وعميد القراء والزهاد في عهده أبو محمد عبد الله بن المبارك (ت 181) يخاطب من أحد هذه الربط بالشام رائد شعر الزهد في عصره ببغداد الشاعر أبا العتاهية شاعر الخلافة العباسية، ناعيا عليه المفارقة العجيبة بين ما يعيش فيه وبين ما يدعو إليه، فيقول:
أيها القارئ الذي لبس الصوف
الزم الثغر والتعــــبد فـــيه
ان بغـــداد للملـــوك مــحـــل
وأضحـــى يعد في الزهـــــاد
ليـــس بغداد منزل العــــباد
ومنــــــاخ للقــــارئ الصـــياد[4]
وله مثل ذلك أيضا وهو يخاطب زميله في الرباط في بلد طرسوس من سواحل الشام أبا علي الفضيل بن عياض (ت 187) حين خرج الفضيل حاجا تاركا المرابطة في هذا الثغر، فطابت له المجاروة بالبلد الحرام فكتب إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنـــا لعلمت أنك في العبادة تلعـــب
من كان يخضب جيده بدموعـه فنـحورنا بدمائنا تنخضــب[5] إلى آخر القطعة. وسوف يمر بنا ـ بعون الله ـ من خلال استعراضنا لتراجم طائفة من قراء الصدر الأول مقدار ما أسهم به طائفة من القراء الذين كانوا يقيمون في هذه الربط الجهادية في إثراء حركة الإقراء فيها، واستغلال وجودهم وتفرغهم بها في تخريج الطلاب وشداة القراء، ابتداء مما نقرؤه في أخبار الفتوحات، ومرورا بالعهود التالية التي اقتضت من الأمراء والولاة إقامة حاميات عسكرية في الثغور كان القراء والمعلمون في طليعة من يبادر إلى المرابطة فيها متطوعين ومحتسبين.
وفي هذا الصدد تستوقفنا إشارات مشرقة في تراجم بعض القراء الذين لهم صلات وثيقة بموضوع بحثنا، منها ما جاء في ترجمة شيخ الإمام نافع عبد الرحمن بن هرمز الأعرج من أنه خرج إلى الأسكندرية مرابطا في آخر حياته، إلى أن أدركته الوفاة بها سنة 117 أو بعدها[6].
ومنها ما نقرؤه في ترجمة صاحب ورش أبي يعقوب يوسف الأزرق من أنه في أثناء قراءته عليه كان يقرأ بطريقة "التحقيق"، وكان يقرأ عليه بطريقة "الحدر"[7] إذا رابط معه بالأسكندرية"[8].
ونقرأ نحوا من ذلك في ترجمة أبي الأشعث عامر بن سعيد ـ أو سعير ـ من أنه "رابط للغزو سبعين عاما، وأنه كان مرابطا بثغر "المصيصة" من سواحل الشام، وبها كان يقصده القراء في رواية ورش ليعرضوا عليه[9].
وإنما سقنا هذه الأخبار والأمثلة لبيان مقدار الأثر الذي كان لهذه الربط في مجال القراءة وتعليم القرآن بوجه عام. وأحسب أنه لو نقلت إلينا أخبار الربط الافريقية والمغربية على وجهها وعلى نحو ما نقلت لنا أخبار غيرها من الربط المشرقية، لوقفنا منها على قريب مما كان يجري بها من حركة ونشاط في هذا المضمار، ولاسيما منها تلك الربط التي كانت معروفة على السواحل، والتي ذكر أنها بلغت ألف رباط من طنجة إلى الاسكندرية على نحو ستة آلاف كيلومتر ... وكان الناس يتطوعون فيها لمدد معينة لحراسة الثغور، أو للتعليم بالمجان، أو للمعالجة أو انتساخ المخطوطات"[10].
والمشهور في كتب التاريخ أن أقدم هذه الربط هو "رباط المنستير"، ويقع بين المهدية وسوسة بالقطر التونسي، وكانت "المنستير" من أعظم مدائن الروم قبل الإسلام"[11].
أما الرباط المعروف باسمها فقد أسسه هرثمة بن أعين والي المنطقة لهارون الرشيد سنة إحدى وثمانين ومائة[12]، ولعل شهرة هذا الرباط إنما جاءته من وقوعه على الطريق الرابطة بين المشرق العربي وبين الجهات الداخلية من المغرب والأندلس، فكان منزلا مشهورا على الطريق التي تعبرها القوافل. أما المصادر المغربية فتشير إلى رباط أقدم منه بما ينيف على قرن من الزمن، هو رباط شاكر بن عبد الله الأزدي الآنف الذكر، وهو ما يزال يحمل اسم صاحبه إلى اليوم[13].
ولا يخفى ما كان لهذا الرباط وأمثاله على المدى الطويل من أثر في الحفاظ على الإسلام وتكوين الأجيال تكوينا صحيحا سواء في المعرفة الدينية وتكوين "أطر" الدعوة، أم في التدريب على القتال والفروسية، وقد اشتهر بعض هذه الربط بالدراسات الفقهية المتخصصة، ومنها رباط قصر زياد بتونس، وكان يسمى "درا مالك" لكثرة من فيه من العلماء والعباد والصالحين من أصحاب مالك، وكان فيه من أصحاب سحنون[14] أربعة عشر رجلا[15]، وكان سحنون نفسه من رواده، وصام به مرابطا خمسة عشر رمضانا[16].
وكانت ترتبط بهذه الربط العامرة مساجد خاصة يجتمع فيها المرابطون وغيرهم في أوقات مخصوصة من كل أسبوع لسماع القرآن وحضور مجالس الذكر وإنشاد الأشعار في الزهد والرقائق والترغيب في الجهاد، وكان يطلق على كل مسجد منها اسم اليوم الذي اعتيد على الاجتماع فيه لهذا الغرض، كمسجد السبت ومسجد الخميس اللذين كانت تقرأ بهما الرقائق كل يوم خميس وسبت "يحضر تلك المجالس الصلحاء والقراء وأهل الخير"[17].
وامتدادا لهذا الدور الذي مثلته الربط الجهادية في الصدر الأول في هذا المجال ظهر في الجنوب المغربي في المائة الخامسة رباط عبد الله بن ياسين الجزولي الذي منه حركة المرابطين في طور ترعرعها ونشأتها انطلقت، ومنه اشتقت اسمها الذي أقامت على قواعده أركان أقوى دولة حكمت المغرب عسكريا وبنت صرح وحدته التاريخية من نهر السينغال جنوبا إلى طليطلة وما وراءها شمالا، ففي هذا الرباط تكون رجال هذه الحركة، ومنه اندفعوا لإنقاذ المغرب من براثن النحلة البرغواطية الضالة، واستنقاذ الأندلس من سقوط عاجل في أيدي نصارى الشمال كان وشيك الوقوع.
وقد تمحور عمله في رباطه على إقامة شعائر الدين وقراءة القرآن وتعليمه والتفقه في أحكامه، "فلم تمر مدة حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم "المرابطين" أو أسماهم الناس بذلك للزومهم الرباط المذكور"[18].
وقد احتفظت المصادر التاريخية بنص الكتاب الذي بعث به الشيخ المقرئ الداعية المتصدر بالقيروان أبو عمران الفاسي[19]، إلى تلميذه المدعو وكاك بن زلو اللمطي المقيم بوادي نفيس من الجنوب المغربي يطلب منه تزويد الأمير الصنهاجي العائد من رحلة الحج برجل يثق بدينه وورعه وكثرة علمه وسياسته، ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام[20]، "وكان وكاك في داره التي بناها بالسوس، وسماها دار المرابطين"[21]، فوقع اختياره على عبد الله بن ياسين الذي نهض بهذه المأمورية وقام بها خير قيام، قبل أن يترجم عمله إلى واقع حي في صورة دولة فتية وضع قواعدها على العلم والجهاد، وهكذا يمكننا أن نعتبر هذا الرباط أقوى مدرسة قرآنية انطلقت في افريقية والمغرب بمثل هذا الحشد الحاشد من الحفاظ، ولو أتيح لنا من الوثائق ما يكشف عن هذه الحقبة من تاريخ المنطقة لتغير الكثير من أحكام المتأخرين في هذه الحقبة من تاريخ المرابطين.
[1] - لسان العرب لابن منظور ... مادة ربط 7/303 ع 2.
[2] - المصدر نفسه 7/302 ع 2.
[3] - البيان المغرب 1/19.
[4] - نقله عياض في ترتيب المدارك 3/73 وفي "الفنية في شيوخ عياض" له 104.
[5] - القطعة بتمامها في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 1/187.
[6] - غاية النهاية 1/381.
[7] - هو بمعنى سرعة القراءة وسيأتي بيانه.
[8] - غاية النهاية 2/420 ترجمة 3934.
[9] - ترجمته في غاية النهاية 1/349-350 ترجمة 1499 وسيأتي.
[10] - الدكتور محمد عبد القادر أحمد في بحث "المخطوطات العربية بالمغرب" مجلة المورد العراقية العدد 1 مجلد 8-1399-1979.
[11] - البيان المغرب 1/24.
[12] - البيان المغرب 1/79 والاستقصاء 1/135.
[13] - يقع هذا الرباط في جنوبي مدينة مراكش على بعد خمسة وثمانين كلم منها، وقد كان تأسيسه سنة 62 هـ، وجدد بناءه المولى محمد بن عبد الله العلوي سنة 1187، ويمكن الرجوع في ذلك إلى الاستقصاء للناصري 4/115، والموسوعة المغربية معلمة الصحراء لعبد العزيز بنعبد الله ص 106.
[14] - هو عبد السلام بن سعيد التنوخي عميد فقهاء المالكية بالقيروان، وسيأتي في مكانه من البحث.
[15] - ترتيب المدارك 4/384.
[16] - المصدر نفسه 4/74.
[17] - معالم الإيمان للدباغ 1/31-32.
[18] - ذكريات مشاهير رجال المغرب: عبد الله بن ياسين لعبد الله كنون عدد 37 ص 10-11.
[19] - سيأتي التعريف به في مشايخ القراءة بالقيروان وفاس.
[20] - تاريخ ابن خلدون 6/183.
[21] - ترتيب المدارك 8/81-82.