منهج الاستقراء والقياس عند ابن الهيثم
اعتمد   ابن الهيتم على الاستقراء بمثابة منهج يقيني يهدف إلى البحث عن حقيقة الأشياء المتعلقة بالإبصار بصفة خاصة، وبمجالات العلوم الأخرى، والنصوص التي وضعها ابن الهيتم والمتعلقة بطريقته في البحث تبين وبوضوح لجوؤه إلى الاستقراء، وذلك بتتبع خواص الجزئيات: ” ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصَرات‟[1]، وتمييز خواصها من بين الأسس الأولى لمنهج الاستقراء. إن تمييزه خواص الجزئيات هو محاولة الربط بينها من خلال الكشف عن العلاقة الموجودة بين هذه الجزئيات، وتحويل تلك العلاقات بعد الملاحظة إلى قوانين عامة تخضع لها كل ظاهرة التي هي من النوع نفسه، يقول الدكتور بناصر البعزاتي: ”الاهتمام بالاستقراء نابع من الحرص على إيجاد اللحمة العقلية التي نتائج الملاحظات والتجارب تنتظم فيما بينها لتشكل القوانين والنظريات العلمية  ‟[2]. إن المنهج التجريبي يعتمد على هذا النوع من الاستقراء الذي ينتقل فيه الذهن من المعرفة الجزئية إلى المعرفة الكلية، وهو دراسة لحالات جزئية مختلفة، ثم القيام بتحليلها وقياسها، ثم تحويلها إلى بيانات رياضية من أجل الوصول إلى القانون العام الذي ينطبق على جميع الحالات المتشابهة. وهذا المنهج أكد عليه برتراند راسل (Bertrand Russel) من خلال بداية العلم بدراسة الحقائق الجزئية وهذا ما أشار إليه ابن الهيتم من خلال تمييز الجزئيات، ثم يضيف: ” ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس‟[3].إذ يؤكد على مفهوم الاستقراء بمثابة الوسيلة والمبدأ كوسيلة ومبدأ في منهجية بحثه العلمي.
    إن تأكيد  ابن الهيتم على منهج الاستقراء جاء رفضا لمنهج القياس خاصة في مجال إدراك أغلاط البصر، حيث يكشف لنا أن أكثر أغلاط البصر في المعاني الجزئية وصور المبصَرات إنما يكون غلطا في القياس، أي الغلط في المنهجية التي اتبعت في دراسة الظواهر الجزئية، حيث يقول: ” إن الغلط في القياس يكون في المقدمات، حيث يكون على ثلاثة أوجه: أحدها أن يأخذ التمييز مقدمة كاذبة ويظنها صادقة، والثاني أن يأخذ مقدمة جزئية ويظنها كلية، والوجه الثالث هو اكتساب المقدمات‟[4]. وهنا الغلط المرتبط بالإدراك الحسي في حالة وجود ظاهرة لا يشتبه من كيفية الإحساس، إذ يكون في المبصَر معان ظاهرة ومعان خفية، إذ يمكن أن تظهر عند استقصاء التأمل، وإذا لم يتأمل تأملا محققا فإن ذلك يكون إما عن طريق السهو وضعف التمييز، وإما لأنه لا يتمكن في الحال من تأمله. إن السهو وضعف التمييز مرتبط بالإدراك الحسي ونتيجة للغلط في القياس والغلط في اكتساب المقدمات عن طريق الإدراك الحسي، ويتابع "ابن الهيتم" من خلال تأكيده على أهمية الاستقراء الذي هو المنهج القويم الذي يجنب العقل الوقوع في الغلط، لأن من نتيجة التأمل المحقق وإدراك المعاني المحققة كانت نتيجة المعاني المدركة عن طريق التأمل المحقق غير النتيجة التي تظهرها المعاني الظاهرة فقط، يقول ابن الهيتم:” وإذا لم يستقرئ البصر جميع المعاني التي في المبصر، والتي يمكن أن يدركها البصر، واعتمد المعاني الظاهرة التي في المبصَر، وحكم بنتائجها وقطع بنتائجها فهو غالط فيما يدركه من نتائج تلك المعاني‟[5] .
    إن هذا الرأي فيه يقين على استعمال الاستقراء للوصول إلى نتائج يقينية وإلى الغاية التي يقع عندها اليقين، فالتحقق من نتائج المعاني الجزئية _ في نظر " ابن الهيتم"_ لا يكون إلا بعنصر الاستقراء وتمييز خواصها، وإن الغلط والنتائج غير اليقينية في تتبع المعاني الجزئية، إنما يكون غلطا في مجرد الحس أو المعرفة أو في القياس، في حين أن الاستقراء هو الوسيلة التي تؤدي بالباحث إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، يقول "ابن الهيتم":  ” وجميع الأغلاط في المعاني الجزئية إنما يكون غلطا في مجرد الحس، أو غلط في القياس، أو غلطا في مجموع هذه الثلاثة، وغلط في نوعين منهما اجتماعهما... وجميع الأغلاط في الأنواع  الثلاثة التي ذكرناها ليس يكون إلا من أجل غلط البصر في المعاني الجزئية التي في صور المبصَرات‟[6]. وهنا تأكيد  على أن هذه الأغلاط حسب ابن الهيتم مرتبطة بالمعاني الجزئية التي تدرك بالاستقراء.
لقد كان ابن الهيتم بمنهجه العلمي يرتكز بقوة على الأرضية الصلبة للحقائق العلمية بعيدا عن النزوات والأهواء وعن عملية التلوين الذاتي لحقائق الحياة، فلا نستطيع ان نخضع حقائق الوجود والقوانين العلمية لأي مستوى من مستويات الانفعال الشخصي إن الحقيقة أكبر من عملية الاحتيال عليها، فابن الهيتم لم يكن ولعه أو شغفه في الفلسفة النظرية أو في المعادلات الخيالية بل كان يمتحن الظاهرة ويفحصها من كل جوانبها ووضعها على المحك العلمي للعقل والتجربة ثم يقوم بعملية الاستنباط والاستقراء وتدوين النتائج.

[1] - بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، النظرية التجربة، ص 195.
[2] - نفس المرجع والصفحة.
[3] - ابن الهيتم، المناظر - المقالة الأولى، الفصل الأول- ص 4.
[4] - ابن الهيتم، المناظر - المقالة الثالثة، الفصل السابع – ص 248.
[5]- ابن الهيتم، المناظر - المقالة الثالثة، الفصل السابع- ص 248.
[6] - ابن الهيتم، المناظر – المقالة الثالثة، الفصل السابع – ص 331.

Post a Comment

أحدث أقدم