الأخذ بالعناصر الحسية والمعنوية والموضوعية:
يقول ابن الهيتم: ”... ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، و نتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء‟[1]. فما يمكن استنتاجه من خلال هذه الفقرة أن ابن الهيتم ربط الموضوعية بضرورة إبعاد العنصر الذاتي إبان عملية البحث في معرفة حقائق الأشياء، أي بمعنى التجرد من الهوى، فيؤكد أن للطريقة الصحيحة في البحث العلمي عناصر أخرى غير الاستقراء، أي الاعتماد على المشاهدة والاعتبار، فمن خلال الملاحظة الأولية البسيطة المدعمة بالتحليل الهندسي الذي يمكن من تصور المكان على أنه سلسلة لا متناهية من النقاط المتصلة، وهو ما يسميه أرسطو  باللامتناهي، بالقوة، وهو محض خيال، ولا يعبر إلا عن وجود بالقوة.
 إن استعمال ابن الهيتم كلمتي الميل والهوى يقتضي الشرح: فالأول هو العدول إلى الشيء والاقبال عليه، فإذا مال الشخص الباحث مع أراء لم يتفحصها فإنه لن يستعمل عنصر الشك في تلك الآراء المحتمِلة للخطأ أو الصواب، وعليه فإن الشك يصير عنصرا أساسيا من عناصر الموضوعية، فما الميل إلا عدم الشك؛ والثاني        - الهوى- فهو سيلان النفس إلى ما تشتهيه من الشهوات لكل أنواعها النفسية أو الفكرية، ولارتباط الهوى بالجوانب السيكولوجية للفرد، فقد رفضه " ابن الهيتم" رفضا مطلقا، وهذا الرفض هو رفض إدراج عنصر الذاتية في استقراء الظواهر، ويؤكد لنا على أن عدم اتباع الهوى وعدم اتباع الميل مع الآراء يؤدي إلى اكتشاف حقيقة الظواهر المدروسة، وتلك الحقيقة يقع معها اليقين، ويقول في هذا المجال _وهي تتمة للفقرة السابقة- : ” ... فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي يثلج الصدر، ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين‟[2].    
ومن شروط تحقق الموضوعية في المنهج العلمي هو حضور عنصر النقد بعد ملاحظة الظواهر وبعد استقرائها، حيث أن غياب النقد لا يساعد على وضع قاعدة قانونية تحكم سير الظواهر الطبيعية، إذ يؤكد على ضرورة حضور عنصر النقد والتحفظ على النتائج لا يكون إلا بالنقد، يقول ابن الهيتم:  ” ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات ‟[3].
ورغم هذا القدر الكبير من الموضوعية التي يتميز بها منهج ابن الهيتم إلا أنه يعترف بأنها قد يعتريها بعض النقص الذي مرده طبيعة تكوين النفس البشرية، إذ في نظره، قد يقع الباحث في الخطأ أو السهو،يقول ابن الهيتم: ” ومما نحن مع جميع ذلك، برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكننا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور ‟[4].

[1] - ابن الهيتم، المناظر، المقالة الأولى، كيفية الإبصار بالجملة، ص 4.
[2] - نفس المرجع السابق.
[3] - نفس المرجع السابق.
[4] - نفس المرجع السابق.

Post a Comment

Previous Post Next Post