الخطاب الواقعيّ*
في "خفايا الزّمان" لبوراوي عجينة
تطوّرت النّظرة إلى علاقة الأدب بالواقع. وأصبح اليوم من العسير التّسليم بأنّ الأدب يحاكي الواقع[1] أو يعكسه[2]. وقد نسفت النّتائج المحرزة خاصّة في ميدان البحث اللّسانيّ الأساس الذي قام عليه مفهوما المحاكاة والانعكاس. ونعني به القول إنّ اللّغة قادرة على نسخ الواقع والتّعبير عنه وعاجزة في الآن ذاته عن خلقه[3]. فاللّغة، في الدّراسات اللّسانيّة، لا تنسخ العالم ولا تحاكيه وإنّما هي تحاكي نفسها وبعض عناصر الطّبيعة كالأصوات مثلا[4]. وإذا كان القول بالمحاكاة والانعكاس يُهمل دور اللّغة الأساسيّ في الأدب فإنّ الفصل بين الواقع والأدب فصلا حادّا قد لا يخلو من مبالغة. فالواقع في الأدب يستحيل كما يقول "كلود دوشاي" (Claude Duchet) نصّا وتصبح مظاهره من أشخاص ومدن ومؤسّسات ووقائع ومشاهد طبيعيّة علامات وإشارات وتظلّ، مع ذلك، مُخبِرة عن نفسها وعن الواقع الذي إليه تُشير[5]. وبذلك يصبح الحديث عن مشاكلة الأدب الواقعَ ممكنا وعن إيهامه به جائزا ويصبح التّساؤل عن الكيفيّة التي بها يوهم الأدب أنّه ينسخ الواقع مشروعا.
ولقد تنافست مذاهب أدبيّة كثيرة حول أحقّية تمثيل الواقع. ولكنّ اسمه لم يقترن إلاّ بتيّار فنّيّ[6] ما فتئ يتطوّر منذ ظهوره إلى اليوم هو التّيّار الواقعيّ. وليست التّسمية سوى مجاز وليست "الواقعيّة"، وهو ما يدركه أنصارها كتّابا[7] ونقّادا[8]، سوى خطاب أدبيّ حول الواقع له خصائص بها يُعرف ويتميّز قد تتوفّر جميعها في نصّ وقد لا يتوفّر سوى بعضها في غيره.
وقد اخترنا "خفايا الزّمان"، خامس مجموعات بوراوي عجينة القصصيّة[9]، للتّعرّف إلى الأساليب الفنّيّة المستخدمة فيها لإدراج "الواقع" في النّصّ التّخييليّ ولاستكشاف طرائق تمثيله أو تصويره. ويعود اختيارنا هذه المجموعة إلى ما لاحظناه في جلّ أقاصيصها من طغيان الخطاب الواقعيّ الذي ضبطت مقوّماته الدّراسات النّظريّة والتّطبيقيّة التي أمكننا الاطّلاع عليها. وقد حتّمت علينا الزّاوية التي نظرنا منها إلى المجموعة استبعاد أقصوصتين[10] بدتا لنا رمزيّتين وبدا لنا الواقع فيهما مجرّد مطيّة، وإقصاء خمسة نصوص لا تنتمي في رأينا إلى جنس الأقصوصة رغم اندراجها في باب السّرد. فمنها ما هو إلى المقامة[11] ينتمي ومنها ما هو إلى القصّة المثليّة ينتسب[12] ومنها ما هو بالحكاية الخرافيّة ألصق[13]. أمّا آخرها[14] فإلى الخطاب على الخطاب[15] أقرب إذ هو نصّ على نصوص الكاتب قديمها والجديد. وفيه يروي المؤلّف الكائن التّاريخيّ تجربته في الكتابة والنّشر ويعبّر عن آراء في فنّ القصّ وأخرى في أقاصيصه. وقد وفّرت لنا سائر النّصوص مادّة سمحت لنا بالوقوف على أهمّ الأساليب التي توسّل بها الكاتب إلى تمثيل "الواقع".
إنّ الطّموح إلى محاكاة الواقع وتمثيله تمثيلا "أمينا" يستدعي استخدام جملة من الأساليب المخصوصة. وهي أساليب مشتركة بين الكتّاب الواقعيّين رغم أنّ أشكال حضورها في نصوصهم ونسبه تختلف باختلاف الكتّاب والنّصوص. وقد أتاح لنا استقراؤنا الأقاصيصَ الواقعيّةَ في "خفايا الزّمان" استخلاص مجموعة من الخصائص رتّبناها حسب درجة حضورها في النّصوص.
* نشر هذا المقال في مجلّة "قصص" العدد 110 ، أكتوبر - ديسمبر 1999 ثم غي كتابنا "بحوث في السّرد العربيّ"، مكتبة علاء الدّين، صفاقس (تونس)، جانفي 2005.
[1] يعدّ أرسطو أوّل القائلين بأنّ "كلّ الأدب محاكاة". انظر:
Philippe Hamon, Un discours contraint, in Littérature et réalité, op. cit., p120.
[2] القائلون بمفهوم الانعكاس كثر "فنحن نجده في ذلك الاتّجاه المتقادم الذي يعدّ أصحابه الأدب مرآة لحياة مؤلّفه النّفسيّة [...] ونحن نجده في هذا الاتّجاه الذي يذهب أصحابه في فهم الأدب الفهم الاجتماعيّ فيعدّون الأثر مرآة تنعكس عليها الحياة الاجتماعيّة بما فيها من رقيّ وانحطاط ومن تناحر طبقيّ وصراع مذهبيّ عقائديّ". انظر: حسين الواد، في مناهج الدّراسات الأدبيّة، سلسلة قراءات، سراس للنّشر، الطّبعة التّونسيّة،1985 ص 30-31.
[3] Un discours contraint, op. cit. p132. Philippe Hamon,
[4] نفسه، ص 124-125.
[5] انظر مقدّمة المؤلّف الجماعيّ:
Le Réel et le Texte, Librairie Armand Colin,1974,P9.
[6] يقول جاكبسون: "ما هي الواقعيّة بالنّسبة إلى منظّر الفنّ ؟ إنّها تياّر فنّيّ وضع لنفسه هدفا نسخَ الواقع بأكثر ما يمكن من الأمانة والطّموحَ إلى أقصى ما يمكن من الاحتمـاليّة Vraisemblance". انظر مقاله "عن الواقع في الفنّ" الصّادر في "نظريّة المنهج الشّكليّ: نصوص الشكلانيّين الرّوس"، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشّركة المغربيّة للنّاشرين المتّحدين ( الرّباط)، مؤسّسة الأبحاث العربيّة (بيروت)، الطبعة الأولى، 1982، ص90.
[7] يقول غي دو موبسان (Guy de Maupassant): "يجدر أن نسمّي الواقعيّين الموهوبين إيهاميّين". ورد هذا الشّاهد لدى:
Jean-Michel Adam et André Petitjean , Le texte descriptif , op. cit., p.37.
[8] من النّقّاد العرب من تأثّر بالمنهج التّاريخيّ فقال بمفهوم الانعكاس. ونذكر على سبيل المثال محمد مندور الذي يقول ناقدا أسلوب أحمد حسن الزّيّات: "إنّ من الرّوائيّين الخياليّين من يحتال بعدّة طرق حتّى يعطيك ما يُسمّونه بالفرنسيّة وهـــم الحقــيقة (L' illusion du réel) فما بال الزيات إذا يأبى إلاّ أن يفسد بالصّنعة نغمات الواقع ؟" انظر:
د. محمد مندور، في الميزان الجديد، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، الفجالة، الطبعة الثالثة، مصر (د.ت) ص23.
[9] - ممنوع التّصوير، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر ، الطّبعة الأولى، سوسة (تونس) 1982. وأعادت المؤسّسة نفسها طبعها سنة 1985.
- وجوه في المدينة، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة، 1985. وأعادت المؤسّسة نفسها طبعها سنة 1992.
- أمواج الغضب، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة، فيفري 1992.
- ثمار الجسد، مؤسّسة سعيدان للطّبع والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة،1994.
[10] "حروف وأرقام" و "مواجهة".
[11] أ- "حكاية حبّة فول". ب- "حكاية شحمة". (يصرّح الكاتب في تصدير كلّ منهما بأنّه يكتب مقامة).
[12] "حيلة مغتصب".
[13] "الطّوق والعنق".
[14] "السّندباد الكاتب"
[15] الخطاب على الخطاب ) (Métadiscoursهو "الملفوظات الواقعة على هامش النّصّ. وهي ملفوظات تتحدّث عن نصّ أهمّ وتشكّل ملفوظات على ملفوظ تنتمي إليه انتماء عضويّا". انظر:
Pierre Van Den Heuvel, Parole-Mot-Silence op. cit., p110.
في "خفايا الزّمان" لبوراوي عجينة
تطوّرت النّظرة إلى علاقة الأدب بالواقع. وأصبح اليوم من العسير التّسليم بأنّ الأدب يحاكي الواقع[1] أو يعكسه[2]. وقد نسفت النّتائج المحرزة خاصّة في ميدان البحث اللّسانيّ الأساس الذي قام عليه مفهوما المحاكاة والانعكاس. ونعني به القول إنّ اللّغة قادرة على نسخ الواقع والتّعبير عنه وعاجزة في الآن ذاته عن خلقه[3]. فاللّغة، في الدّراسات اللّسانيّة، لا تنسخ العالم ولا تحاكيه وإنّما هي تحاكي نفسها وبعض عناصر الطّبيعة كالأصوات مثلا[4]. وإذا كان القول بالمحاكاة والانعكاس يُهمل دور اللّغة الأساسيّ في الأدب فإنّ الفصل بين الواقع والأدب فصلا حادّا قد لا يخلو من مبالغة. فالواقع في الأدب يستحيل كما يقول "كلود دوشاي" (Claude Duchet) نصّا وتصبح مظاهره من أشخاص ومدن ومؤسّسات ووقائع ومشاهد طبيعيّة علامات وإشارات وتظلّ، مع ذلك، مُخبِرة عن نفسها وعن الواقع الذي إليه تُشير[5]. وبذلك يصبح الحديث عن مشاكلة الأدب الواقعَ ممكنا وعن إيهامه به جائزا ويصبح التّساؤل عن الكيفيّة التي بها يوهم الأدب أنّه ينسخ الواقع مشروعا.
ولقد تنافست مذاهب أدبيّة كثيرة حول أحقّية تمثيل الواقع. ولكنّ اسمه لم يقترن إلاّ بتيّار فنّيّ[6] ما فتئ يتطوّر منذ ظهوره إلى اليوم هو التّيّار الواقعيّ. وليست التّسمية سوى مجاز وليست "الواقعيّة"، وهو ما يدركه أنصارها كتّابا[7] ونقّادا[8]، سوى خطاب أدبيّ حول الواقع له خصائص بها يُعرف ويتميّز قد تتوفّر جميعها في نصّ وقد لا يتوفّر سوى بعضها في غيره.
وقد اخترنا "خفايا الزّمان"، خامس مجموعات بوراوي عجينة القصصيّة[9]، للتّعرّف إلى الأساليب الفنّيّة المستخدمة فيها لإدراج "الواقع" في النّصّ التّخييليّ ولاستكشاف طرائق تمثيله أو تصويره. ويعود اختيارنا هذه المجموعة إلى ما لاحظناه في جلّ أقاصيصها من طغيان الخطاب الواقعيّ الذي ضبطت مقوّماته الدّراسات النّظريّة والتّطبيقيّة التي أمكننا الاطّلاع عليها. وقد حتّمت علينا الزّاوية التي نظرنا منها إلى المجموعة استبعاد أقصوصتين[10] بدتا لنا رمزيّتين وبدا لنا الواقع فيهما مجرّد مطيّة، وإقصاء خمسة نصوص لا تنتمي في رأينا إلى جنس الأقصوصة رغم اندراجها في باب السّرد. فمنها ما هو إلى المقامة[11] ينتمي ومنها ما هو إلى القصّة المثليّة ينتسب[12] ومنها ما هو بالحكاية الخرافيّة ألصق[13]. أمّا آخرها[14] فإلى الخطاب على الخطاب[15] أقرب إذ هو نصّ على نصوص الكاتب قديمها والجديد. وفيه يروي المؤلّف الكائن التّاريخيّ تجربته في الكتابة والنّشر ويعبّر عن آراء في فنّ القصّ وأخرى في أقاصيصه. وقد وفّرت لنا سائر النّصوص مادّة سمحت لنا بالوقوف على أهمّ الأساليب التي توسّل بها الكاتب إلى تمثيل "الواقع".
إنّ الطّموح إلى محاكاة الواقع وتمثيله تمثيلا "أمينا" يستدعي استخدام جملة من الأساليب المخصوصة. وهي أساليب مشتركة بين الكتّاب الواقعيّين رغم أنّ أشكال حضورها في نصوصهم ونسبه تختلف باختلاف الكتّاب والنّصوص. وقد أتاح لنا استقراؤنا الأقاصيصَ الواقعيّةَ في "خفايا الزّمان" استخلاص مجموعة من الخصائص رتّبناها حسب درجة حضورها في النّصوص.
* نشر هذا المقال في مجلّة "قصص" العدد 110 ، أكتوبر - ديسمبر 1999 ثم غي كتابنا "بحوث في السّرد العربيّ"، مكتبة علاء الدّين، صفاقس (تونس)، جانفي 2005.
[1] يعدّ أرسطو أوّل القائلين بأنّ "كلّ الأدب محاكاة". انظر:
Philippe Hamon, Un discours contraint, in Littérature et réalité, op. cit., p120.
[2] القائلون بمفهوم الانعكاس كثر "فنحن نجده في ذلك الاتّجاه المتقادم الذي يعدّ أصحابه الأدب مرآة لحياة مؤلّفه النّفسيّة [...] ونحن نجده في هذا الاتّجاه الذي يذهب أصحابه في فهم الأدب الفهم الاجتماعيّ فيعدّون الأثر مرآة تنعكس عليها الحياة الاجتماعيّة بما فيها من رقيّ وانحطاط ومن تناحر طبقيّ وصراع مذهبيّ عقائديّ". انظر: حسين الواد، في مناهج الدّراسات الأدبيّة، سلسلة قراءات، سراس للنّشر، الطّبعة التّونسيّة،1985 ص 30-31.
[3] Un discours contraint, op. cit. p132. Philippe Hamon,
[4] نفسه، ص 124-125.
[5] انظر مقدّمة المؤلّف الجماعيّ:
Le Réel et le Texte, Librairie Armand Colin,1974,P9.
[6] يقول جاكبسون: "ما هي الواقعيّة بالنّسبة إلى منظّر الفنّ ؟ إنّها تياّر فنّيّ وضع لنفسه هدفا نسخَ الواقع بأكثر ما يمكن من الأمانة والطّموحَ إلى أقصى ما يمكن من الاحتمـاليّة Vraisemblance". انظر مقاله "عن الواقع في الفنّ" الصّادر في "نظريّة المنهج الشّكليّ: نصوص الشكلانيّين الرّوس"، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشّركة المغربيّة للنّاشرين المتّحدين ( الرّباط)، مؤسّسة الأبحاث العربيّة (بيروت)، الطبعة الأولى، 1982، ص90.
[7] يقول غي دو موبسان (Guy de Maupassant): "يجدر أن نسمّي الواقعيّين الموهوبين إيهاميّين". ورد هذا الشّاهد لدى:
Jean-Michel Adam et André Petitjean , Le texte descriptif , op. cit., p.37.
[8] من النّقّاد العرب من تأثّر بالمنهج التّاريخيّ فقال بمفهوم الانعكاس. ونذكر على سبيل المثال محمد مندور الذي يقول ناقدا أسلوب أحمد حسن الزّيّات: "إنّ من الرّوائيّين الخياليّين من يحتال بعدّة طرق حتّى يعطيك ما يُسمّونه بالفرنسيّة وهـــم الحقــيقة (L' illusion du réel) فما بال الزيات إذا يأبى إلاّ أن يفسد بالصّنعة نغمات الواقع ؟" انظر:
د. محمد مندور، في الميزان الجديد، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، الفجالة، الطبعة الثالثة، مصر (د.ت) ص23.
[9] - ممنوع التّصوير، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر ، الطّبعة الأولى، سوسة (تونس) 1982. وأعادت المؤسّسة نفسها طبعها سنة 1985.
- وجوه في المدينة، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة، 1985. وأعادت المؤسّسة نفسها طبعها سنة 1992.
- أمواج الغضب، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة، فيفري 1992.
- ثمار الجسد، مؤسّسة سعيدان للطّبع والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة،1994.
[10] "حروف وأرقام" و "مواجهة".
[11] أ- "حكاية حبّة فول". ب- "حكاية شحمة". (يصرّح الكاتب في تصدير كلّ منهما بأنّه يكتب مقامة).
[12] "حيلة مغتصب".
[13] "الطّوق والعنق".
[14] "السّندباد الكاتب"
[15] الخطاب على الخطاب ) (Métadiscoursهو "الملفوظات الواقعة على هامش النّصّ. وهي ملفوظات تتحدّث عن نصّ أهمّ وتشكّل ملفوظات على ملفوظ تنتمي إليه انتماء عضويّا". انظر:
Pierre Van Den Heuvel, Parole-Mot-Silence op. cit., p110.
Post a Comment