تصور جوليا كريستيفا :
"ليس الغريب، الذي هو اسم مستعار للحقد و للآخر..ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها ...و لا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب . إنه القوة الخفية لهويتنا، و الفضاء الذي ينسف بيتنا، و الزمان الذي يتبدد فيه وفاقنا و تعاطفنا. ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب بوصفه دالا يجعل "النحن " إشكاليا و ربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشا لدي الوعي باختلافي، و ينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء، متمردون على الروابط و الجماعات..."
Julia Kristeva : Etrangers à nous-mêmes, Fayard, 1988, p 7
ترى جوليا كريستيفا (وهي باحثة فرنسية من أصل بلغاري، 1941 - ) بان الغريب ليس هو ذلك الذي يوجد خارج الذات، بل إن الغريب يسكن الذات بشكل غريب، فالفضاء الذي نعيش فيه و الزمان الذي يبدد لحظات التعاطف بيننا، و كل لحظات التوتر و التفكك و الموت هي شيء غريب يسكننا، و عندما تعي بأن الغريب يوجد فينا نكف عن بغضه و كراهيته. إن الغريب لا يجعلنا فقط نتساءل عمن يكون هذا الذي يتطفل على الجماعة و يهدد وحدتها و توازنها، بل يجعلنا نتساءل أكثر حول ذواتنا " من نحن ؟" إنه يجعل الأنا إشكاليا، و ربما أن الأنا كوعي أو كمعرفة الذات لنفسها يصبح مستحيلا لأنه يصبح هو نفسه مجهولا ونكرة.
إن الغرابة تتحول حسب جوليا كريستيفا من ظاهرة خارجية ترتبط بالغريب، ذلك الإنسان القادم من مجتمع ومن ثقافة مختلفين،و الذي لا يتمتع بحقوق المواطنة في المجتمع الجديد، لتصبح ظاهرة تسكن الأنا الذي يدرك اختلافه عن هذا الآخر، فينغلق عنه و يقصيه. إن وضعية الانغلاق هذه و إقصاء الغير الغريب هي شيء غريب فعلا، إنها تعبر عن قلق الأنا و انزعاجه من الغير، الشيء الذي يعني أن الغرابة كسلوك شاذ توجد في الذات قبل أن توجد في الغير. إن الإنسان يحس بالغرابة تغلف وجوده في كل آن لأنه يحس باختلافه عن الآخرين، و بان هذا الاختلاف يحمل إمكانيات كبيرة للتمرد على القواعد الاجتماعية و الثقافية، الشيء الذي يجعله محط اتهامات و يشعره بالغرابة.
الخلاصة إذن أن الغرابة ليست صفة ذلك الغريب البعيد القادم من ثقافة أخرى، بل الغرابة تسكن الذات نفسها بحيث تظهر في لحظات التوتر و الصراع و التفكك و تكمن في لحظات الهدوء و الانسجام.
خلاصة المحور :
تتراوح العلاقة مع الغير بين مستويات ثلاث : مستوى الغيرية و الإيثار، تضع فيه الذات الغير فوق مستواها، فتضحي من أجله و تؤثره على نفسها، مستوى الصداقة، كتبادل بين أنا و غير متساويين و أحدهما ند للآخر، و مستوى الغرابة، حيث تعلو الذات على الغير، فتقصيه و تبغضه، لكن إذا كان الغير يسكن الذات، و يتوسط بينها وبين نفسها، فالحكمة تقتضي أن تقوم العلاقة بينهما على أساس من الحوار و التكامل و الاحترام في ظل الاختلاف.
تركيب للمفهوم و رهاناته :
إن التفكير في مفهوم الغير، يفتح المجال أمام إعادة النظر في مفهوم الشخص كذات مستقلة بنفسها، فالأنا لا يتعرف على هويته ولا يدرك حريته إلا من خلال الغير(سارتر)، بل إن الغير يسكن الأنا(كريستيفا) و يؤشكله،و قد يهدده في حميميته و كينونته (هايدجر) و هو من يمنحه قيمته الأخلاقية (غوسدورف) و به يكتسب إنسانيته، و ينسى أنانيته و تمركزه حول ذاته (أ.كونت)، بل إن العالم لن يكون موجودا وجودا موضوعيا، و لن يكون بالإمكان قيام أي نوع من المعرفة به في غياب الغير (هوسرل).
وفي عصرنا الراهن، تطرح علاقة الذات بالغير مفارقات جمة ..ففي الوقت الذي اختزلت فيه المسافات نتيجة لتطور وسائل الاتصال و التواصل، و اكتشفت المجاهيل بتقدم العلوم و التقنيات، وأصبح العالم قرية صغيرة، و تنامى لدى أفراد النوع البشري الوعي بأهمية التضامن و التشارك كسبيل لحفظ النوع من الانقراض أمام العوامل المهددة المتزايدة يوما عن يوم، فإن العلاقة مع الغير لا تزال مطبوعة في الغالب بالتوتر و الصراع و عدم الاعتراف، ولا زال الإنسان يقتل الإنسان من أجل "حفنة من الدولارات".
هل يتعلق الأمر إذن بطبيعة إنسانية ثابتة، تخترق كل الأزمنة و الحقب، أم هي مجرد حالة عابرة سيتكفل الزمن القادم بالقضاء عليها، وهل سيأتي يوم يعيش فيه الإنسان حالة سلام و ازدهار و تقدم و يقضي على كل عوامل الصراع و التخلف و الركود.. لن يكون بإمكاننا الجواب إلا إذا استقرأنا بعدا آخر من أبعاد الإنسان هو البعد التاريخي أو الوجود في الزمن.
"ليس الغريب، الذي هو اسم مستعار للحقد و للآخر..ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها ...و لا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب . إنه القوة الخفية لهويتنا، و الفضاء الذي ينسف بيتنا، و الزمان الذي يتبدد فيه وفاقنا و تعاطفنا. ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب بوصفه دالا يجعل "النحن " إشكاليا و ربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشا لدي الوعي باختلافي، و ينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء، متمردون على الروابط و الجماعات..."
Julia Kristeva : Etrangers à nous-mêmes, Fayard, 1988, p 7
ترى جوليا كريستيفا (وهي باحثة فرنسية من أصل بلغاري، 1941 - ) بان الغريب ليس هو ذلك الذي يوجد خارج الذات، بل إن الغريب يسكن الذات بشكل غريب، فالفضاء الذي نعيش فيه و الزمان الذي يبدد لحظات التعاطف بيننا، و كل لحظات التوتر و التفكك و الموت هي شيء غريب يسكننا، و عندما تعي بأن الغريب يوجد فينا نكف عن بغضه و كراهيته. إن الغريب لا يجعلنا فقط نتساءل عمن يكون هذا الذي يتطفل على الجماعة و يهدد وحدتها و توازنها، بل يجعلنا نتساءل أكثر حول ذواتنا " من نحن ؟" إنه يجعل الأنا إشكاليا، و ربما أن الأنا كوعي أو كمعرفة الذات لنفسها يصبح مستحيلا لأنه يصبح هو نفسه مجهولا ونكرة.
إن الغرابة تتحول حسب جوليا كريستيفا من ظاهرة خارجية ترتبط بالغريب، ذلك الإنسان القادم من مجتمع ومن ثقافة مختلفين،و الذي لا يتمتع بحقوق المواطنة في المجتمع الجديد، لتصبح ظاهرة تسكن الأنا الذي يدرك اختلافه عن هذا الآخر، فينغلق عنه و يقصيه. إن وضعية الانغلاق هذه و إقصاء الغير الغريب هي شيء غريب فعلا، إنها تعبر عن قلق الأنا و انزعاجه من الغير، الشيء الذي يعني أن الغرابة كسلوك شاذ توجد في الذات قبل أن توجد في الغير. إن الإنسان يحس بالغرابة تغلف وجوده في كل آن لأنه يحس باختلافه عن الآخرين، و بان هذا الاختلاف يحمل إمكانيات كبيرة للتمرد على القواعد الاجتماعية و الثقافية، الشيء الذي يجعله محط اتهامات و يشعره بالغرابة.
الخلاصة إذن أن الغرابة ليست صفة ذلك الغريب البعيد القادم من ثقافة أخرى، بل الغرابة تسكن الذات نفسها بحيث تظهر في لحظات التوتر و الصراع و التفكك و تكمن في لحظات الهدوء و الانسجام.
خلاصة المحور :
تتراوح العلاقة مع الغير بين مستويات ثلاث : مستوى الغيرية و الإيثار، تضع فيه الذات الغير فوق مستواها، فتضحي من أجله و تؤثره على نفسها، مستوى الصداقة، كتبادل بين أنا و غير متساويين و أحدهما ند للآخر، و مستوى الغرابة، حيث تعلو الذات على الغير، فتقصيه و تبغضه، لكن إذا كان الغير يسكن الذات، و يتوسط بينها وبين نفسها، فالحكمة تقتضي أن تقوم العلاقة بينهما على أساس من الحوار و التكامل و الاحترام في ظل الاختلاف.
تركيب للمفهوم و رهاناته :
إن التفكير في مفهوم الغير، يفتح المجال أمام إعادة النظر في مفهوم الشخص كذات مستقلة بنفسها، فالأنا لا يتعرف على هويته ولا يدرك حريته إلا من خلال الغير(سارتر)، بل إن الغير يسكن الأنا(كريستيفا) و يؤشكله،و قد يهدده في حميميته و كينونته (هايدجر) و هو من يمنحه قيمته الأخلاقية (غوسدورف) و به يكتسب إنسانيته، و ينسى أنانيته و تمركزه حول ذاته (أ.كونت)، بل إن العالم لن يكون موجودا وجودا موضوعيا، و لن يكون بالإمكان قيام أي نوع من المعرفة به في غياب الغير (هوسرل).
وفي عصرنا الراهن، تطرح علاقة الذات بالغير مفارقات جمة ..ففي الوقت الذي اختزلت فيه المسافات نتيجة لتطور وسائل الاتصال و التواصل، و اكتشفت المجاهيل بتقدم العلوم و التقنيات، وأصبح العالم قرية صغيرة، و تنامى لدى أفراد النوع البشري الوعي بأهمية التضامن و التشارك كسبيل لحفظ النوع من الانقراض أمام العوامل المهددة المتزايدة يوما عن يوم، فإن العلاقة مع الغير لا تزال مطبوعة في الغالب بالتوتر و الصراع و عدم الاعتراف، ولا زال الإنسان يقتل الإنسان من أجل "حفنة من الدولارات".
هل يتعلق الأمر إذن بطبيعة إنسانية ثابتة، تخترق كل الأزمنة و الحقب، أم هي مجرد حالة عابرة سيتكفل الزمن القادم بالقضاء عليها، وهل سيأتي يوم يعيش فيه الإنسان حالة سلام و ازدهار و تقدم و يقضي على كل عوامل الصراع و التخلف و الركود.. لن يكون بإمكاننا الجواب إلا إذا استقرأنا بعدا آخر من أبعاد الإنسان هو البعد التاريخي أو الوجود في الزمن.
إرسال تعليق