استنبط الفقهاء تعريف الوقف من الخصوصيات التي أكدّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم وكما أدى إليه فهمهم ، فجاءت منتظمة كالتالي :
مذهب الحنفية :
يُعَرف الحنفية الوقف تعريفين متفقين من جهة ، ومختلفين من جهة أخرى :
التعريف الأول يتفق مع اتجاه إمام المذهب رحمه الله هو :
" حبس العين على ملك الواقف ، والتصدق بمنفعتها ، أو صرف منفعتها إلى من أحب "([1]) .
يفيد هذا التعريف أن الإمام أبا حنفية رحمه الله تعالى يرى أنه " لايزول ملك الواقف عن الوقف إلا أن يحكم به الحاكم ، أويعلقه بموته ، فيقول إذا مت فقد وقفت داري على كذا "([2]) ، ولتوضيح موقف الإمام أبي حنيفة بصورة أدق ذكر العلامة ابن الهمام تعريفاً أكثر بياناً لموقف الإمام رحمه الله فقال : " وهو في الشرع عند أبي حنيفة : حبس العين على ملك الواقف ، والتصدق بالمنفعة بمنزلة العارية "([3])
التعريف الثاني يتفق مع اتجاه الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني رحمهما الله :
" حبس عين على حكم الله تعالى … على وجه تعود منفعته إلى العباد "([4]) .
الملك في الوقف يزول بمجرد القول من غيرقضاء عند أبي يوسف ، وعند محمد لا يزول حتى يجعل للوقف ولياً ويسلمه إليه …([5])
تفيد عبارة ( التصدق بمنفعة العين ، أو صرف منفعتها إلى من أحب ) الواردة في التعريف التوسع في أغراض الوقف ليصح ما كان منه مجاملة وتودداً ، تماماً في صحته وسلامته ، مثل الوقف الذي قصد منه التقرب إلى الله عز وجل تصدقاً على الفقراء ، أو وقفاً على مرفق من المرافق التي ينتفع بها عامة المسلمين، وقد ورد التصريح بهذا في العبارة التالية :
" وإنما قلنا : ( أو صرف منفعتها … ؛ لأن الوقف يصح لمن يحب من الأغنياء بلا قصد القربة ، وهو وإن كان لابد في آخره من القربة بشرط التأبيد ، وهو بذلك كالفقراء، ومصالح المساجد ، لكنه يكون وقفاً قبل انقراض الأغنياء بلا قصد … "([6])
هذا المعنى والمقصد يقرره الحنفية صراحة فيما يعنونونه بـ( سبب الوقف ) فيقولون :
" وسببه إرادة محبوب النفس في الدنيا بين الأحياء ، وفي الآخرة بالتقرب إلى رب الأرباب عز وجل "([7]) .
تعريف المالكية :
يؤثر المالكية إطلاق كلمة ( الحبس ) على كلمة الوقف، أحياناً في عرض أحكام الوقف ، واستعمال كلمة ( الْحُبُس ) على الأوقاف في الغرب الإسلامي أكثر شيوعاً من كلمة ( الأوقاف ) ، وفي المغرب العربي بالدار البيضاء يوجد حي معروف يقال له ( الأحباس ) وهي منطقة أثرية معروفة بمبانيها العتيقة تكثر فيها الأوقاف .
ورد للمالكية تعريفات عديدة للوقف :
يقول العلامة أبو عبد الله محمد الأنصاري المشهور بالرصاع :
" الفقهاء بعضهم يعبر بالحبس ، وبعضهم يعبر بالوقف ، والوقف عندهم أقوى في التحبيس ، وهما في اللغة لفظان مترادافان ، يقال : وقفته وأوقفته ، ويقال: حبسته ، والحبس يطلق على ما وقف ، ويطلق على المصدر ، وهو الإعطاء .
وشرعاً :إعطاء منفعة شيء مدة وجوده ، لازماً بقاؤه في ملك معطيه ، ولو تقديراً "([8])
"وهو اسماً : ما أعطيت منفعته مدة وجوده ، لازماً بقاؤه في ملك معطيه ، ولو تقديراُ "([9]).
يلتقي المالكية مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في بقاء ملك العين للواقف ، لذا أجاز المالكية الوقف المؤقت ؛ فإن العين لاتزال باقية في ملك الواقف المعطي ولو تقديراً .
تعريف الشافعية :
الوقف "لغة : الحبس ، ويرادفه التسبيل ، والتحبيس ، وأوقف لغة رديئة، وأحبس أفصح من حبس على ما نقل ، لكن حبّس هي الواردة في الأخبار .
وشرعا :ً حبس مال يمكن الانتفاع به ، مع بقاء عينه ، بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح "([10]) زاد العلامة شمس الدين الرملي قيداً للمصرف المباح بأن يكون " موجود "([11]).
علق على هذه الزيادة العلامة أبو الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملسي بأن هذا " على الراجح ، أما على مقابله فلا يشترط "([12]) .
تعريف الحنابلة :
الوقف لغة : مصدر وقف بمعنى حبس ، وأحبس ، وسبل .
وشرعاً : تحبيس مالك ،مطلق التصرف، ماله المنتفع به ، مع بقاء عينه ، بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته ، يصرف ريعه إلى جهة بر ، وتسبيل المنفعة ؛ تقرباً إلى الله "([13]).
يستخلص من هذه التعريفات المتنوعة والمتعددة الحقائق الشرعية التالية :
أولاً : تظل ملكية العين الموقوفة باقية لصاحبها الواقف في مذهب المالكية، وفي رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا لم يحكم به حاكم ، أو يعلقه بموته .
في حين أن ملكية الواقف للعين تزول ويقطع تصرفه فيها بمجرد إعلان الوقفية لفظاً ، أو كتابة في مجلس خاص ، أو مجلس القضاء عند الإمامين أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والمذهبين الشافعي ، والحنبلي .
ثانياً : ليس من الضروري أن تكون العين مملوكة للواقف عند المالكية، بل يصح أن تكون مستأجرة لفترة معينة ، ويسبل المستأجر منفعتها لتلك الفترة ، وليس الأمر كذلك لدى بقية المذاهب ، قال الرصاع في شرح حدود ابن عرفة :
" فإن قلت : إذا اكترى أرضاً عشر سنين ليصيرها حبساً في تلك المدة فكيف يصدق عليها حد الشيخ ؟
قلت : هذه الصورة ذكروها في الحبس ، وقالوا : لايشترط أن يكون المحبس مالك الرقبة ، بل هو أعم كالمنفعة ، وإلى ذلك أشار خليل بقوله : ( وإن بأجرة ) فيحتاج هنا إلى تأمل في دخولها …"([14]) ،يقول الشيخ عبد الباقي الزرقاني في شرح هذه العبارة : " ل :كدار يوقف مالَه فيها من منفعة الإجارة ، وينقضي الوقف بانقضائها ،لأنه لايشترط فيه التأبيد "([15]) ، وهو مايتضح من الفقرة التالية .
ثالثاً : تتفق المذاهب الثلاثة :الحنفي ،والشافعي ، والحنبلي أن تأبيد العين الموقوفة شرط من شروط الوقف ، يخالفهم في هذا المالكية ؛حيث إنهم لا يشترطون فيه التأبيد فالحبس عندهم مؤبد ، وغير مؤبد كما تقدم آنفاً .
([1]) الشلبي ، شهاب الدين أحمد ، حاشية على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، الطبعة الأولى، ( مصر : المطبعة الأميرية ببولاق ، عام 1313 ) ، ج 3 ، 324 .
([2]) ابن الهمام ، كمال الدين أحمد بن عبد الواحد السيواسي ،فتح القدير ، الطبعة الأولى ، (مصر : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ) ، ج 6 ، ص 203 .
([3]) فتح القدير ، ج 6 ، ص 203 .
([4]) الزيلعي ، فخر الدين عثمان ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، الطبعة الثانية ، (بيروت: دار المعرفة للططباعة والنشر ) ، ج 3 ، ص 335 .
([5]) انظر : الزيلعي ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، ج 3 ، ص 335 .
([6]) الشلبي ، حاشية على تبيين الحقائق ، ج 3 ، ص 324 .
([7]) البابرتي ، شرح العناية على الهداية ، ج 6 ، ص 200.
([8]) شرح حدود ابن عرفة ، الطبعة الأولى ، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري ، ( بيروت : دار الغرب الإسلامي ، عام 1993 ) ، ج 2 ، ص 539 .
([9]) الحطاب ، أبو عبد الله محمد بن محمد ، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، الطبعة الأولى ، ضبط الشيخ زكريا عميرات ، ( بيروت : دار الكتب العلمية ، عام 1416 / 1995 ) ج 7 ، ص 626 .
([10]) الهيتمي ، أحمد بن حجر ، تحفة المحتاج بشرح المنهاج ، ج 6 ، ص 235 .
([11]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، الطبعة الأخيرة ، ( مصر : شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، عام 1386 / 1967 ) ، ج 5 ، ص 385 .
([12]) حاشية على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، بهامش نهاية المحتاج ، ج 5 ، ص 358.
([13]) البهوتي ، منصور بن يونس ، كشاف القناع عن متن الإقناع ، ( الرياض : مكتبة النهضة الحديثة ) ، ج 4 ، ص 240.
([14]) شرح حدود ابن عرفة ، ج2 ، ص 540 .
([15]) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل ، ( بيروت : دار الفكر ، عام 1398 / 1978)، ج 7 ، ص 75 .