وظيفة الهوية ودورها
       هناك آراء مختلفة حول وظيفة الهوية ودورها في حياة الأفراد والجماعة الإنسانية، وفي هذا الصدد يشير (عز الدين المناصرة) إلى تيارين، تيار يقدس الهوية، وتيار يدنس الهوية ويعتبرها وهماً، فكلاهما يرتكزان  إلى حدّي التطرف من الثبات إلى التفكك، حيث يرفض تيار التقديس حركية الهوية وقابليتها للامتصاص والتحول، أما تيار تدنيس الهوية فيلجأ إلى تجاهل أهمية ودور الهوية باغتيال الأصل والأصلاني في الهوية([1]). وهذان التياران يمثلان اتجاهين مختلفين في النظر إلى أهمية الهوية ودورها وتحديد وظيفتها، في الحياة السياسية للجماعات للبشرية، فهناك من يقدس الهوية، ويعطيها تأثيراً ودوراً فعالاً ومؤثراً في العلاقات بين الجماعات، وهناك من يعتبر الهوية وهماً واختراعاً أيديولوجياً لتغطية المصالح في الصراعات بين الجماعات، وهناك آراء تتراوح بين هذا وذاك.و يربط (برهان غليون) بين النهضة وأهمية التعرف على الذات، أي تحديد الهوية، ويقول بان موضوع النهضة يخفي في الواقع موضوعاً آخراً لا يقل عنه أهمية، وهو موضوع الذاتية، فالجماعة كالفرد لا تستطيع أن تبادر إلى عمل أو تقوم بإنجاز مشروع، مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها، وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، أي تعرف أيضاً ما هي وما تريد أن تكون عليه وقبل أن تريد تحقيق شيء، يجب أن أدرك من أنا، وقبل أن أغير وأطور وأنهض لابد لي من أن أكون ذاتاً، أي إرادة([2]).
       ويقول (صموئيل هنتنغتون) بأن المصالح الوطنية تُشتق عن الهوية الوطنية، وعلينا أن نعرف من نحن قبل أن نتمكن من معرفة ماهي مصلحتنا([3])، وبذلك فإنه يربط بين معرفة الذات وتحديد الهوية وبين تحديد المصالح، ويشير (هنتنغتون) إلى أنه إذا جرى تعريف الهوية الأمريكية بمجموعة مبادئ معينة، فيفترض عندئذ أن يكون السلوك على أساس هذه المبادئ، وبذلك تولد تعاريف معينة للهوية الوطنية من مصالح وطنية وأولويات سياسة مختلفة، والصراع على ما يجب أن نفعل في الخارج متجذر في الصراعات على حقيقة مانحن في الوطن([4]). ويقول باحث آخر أن للهوية دوراً وتأثيراً كبيرين في ترسيخ الوحدة الوطنية بالرغم من وجود اختلاف كبير حول تحديد ماهية الهوية وأبعادها الفكرية والثقافية والسياسية، والواقع أنه يمكن استعمال المفهوم على أنه شعار سياسي ذو بعد استراتيجي لهذا الطرف السياسي أو ذاك، أو أن يصاغ على وفق الرؤيا الأيديولوجية لهذه الجهة أو تلك([5]). ويشير باحث آخر إلى دور الهوية في توحيد المجتمع وتحديد من ينتسبون إليه وتمييزهم عمن سواهم([6]).ويقول (برهان غليون) بأن الهوية ليس لها قيمة في ذاتها أو فيما تخلفه من شعور بالخصوصية، وإنما تنبع قيمتها من الإطار الذي تخلقه من الفرص الحقيقية للتقدم وتوسيع هامش المبادرة التاريخية للشعوب والجماعات التي تنطوي تحت شعارها([7]).
       ويقول (أدونيس العكرة)، في أهمية ودور الهوية أنه "لا يستطيع الإنسان في فرادته المباشرة، في شخصيته الذاتية، أن يشعر بأنه فرد بالمعنى التام، إلا متى عانى تجربة كونه جزءً من وحدة كلية أكبر منه وأعلى من حيث الرتبة وأسمى قيمة ومقاساً، إنما عملية مشاركة يشعر بها الإنسان إنه إنسان بين البشر، أنه ذاته، هذه الوحدة الكلية الشاملة التي ينضوي تحتها الإنسان كجزء مكون ويمثلها بكليتها هي الهوية([8]).وحسب رأي (أدونيس عكرة) فإن الهوية بحد ذاتها تشكل دافعاً رئيساً يدعو إلى النضال بعنف من أجل تحقيقها، كما يدعو إلى الدفاع عنها والمحافظة عليها بعنف، ولأن الهوية هي إنتماء، وقد يتمظهر هذا الإنتماء ويتعين بوطن أو بدين أو بطبقة أو بقومية أو بعقيدة، فإن من شأنها أن توفر للإنسان الاجتماعي مناخاً عقلانياً يجد فيه معنى لأفعاله وتصرفاته ومصنوعاته وأفكاره، وهذا يعني أنه من طبيعة هذه المسألة ان تكون مصدراً للقيم العقلانية والأخلاقية والسياسية. ويشكل الوجود السياسي أحد المكونات الأساسية للهوية، إن هدف الهوية الرئيس هو في أن تتعين بكيان سياسي معين، ومن الناحية الأخلاقية، تشكل الهوية مصدراً معيارياً لتصرفات الجماعة التي تنتمي إليها ولمبادئها الأخلاقية([9]). هكذا تؤدي الهوية دوراً ملحوظاً في الحياة السياسية لأنها تقضي بترسيخ التماسك والاستمرارية والاستقرار بين المواطنين، "فإن يكون المرء مواطناً فرنسياً على سبيل المثال، يدل على فكرة التشابه الأساسي مع سواه من الفرنسيين وعلى الرغم من التباين في الطبقة والوضع والتعليم وما إلى ذلك"([10]). ويبني (صموئيل هنتنغتون) أفكاره حول (صدام الحضارات) على أسس الهوية الثقافية ويقول "إن الطرح الرئيس لهذا الكتاب (صدام الحضارات) هو أن الثقافة أو الهوية الثقافية، والتي هي في أوسع معانيها الهوية الحضاراتية، هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم مابعد الحرب الباردة"([11])، ويضيف إلى ذلك أنه في العالم الجديد الهوية الثقافية هي العامل الرئيس الذي يشكل تقاربات الدولة وعداءاتها، ويصبح السؤال (من أنت؟) ذا أهمية كبيرة، كل دولة عليها أن تجد له إجابة، وتلك الإجابة هي هويتها الثقافية التي تحدد مكان الدولة في السياسة الدولية، وتحدد أصدقاءها وأعداءها([12]).
       وحسب هذا الرأي فإن للهوية دوراً ووظيفة فعّالة ومؤثرة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، على كافة المستويات (الفردية، الجماعية)، وهي التي تعطي معنى للوجود والفعل والسلوك، وتحدد الخير والشر وفقاً لمعايير وقيم سائدة، وهي التي تحدد المصالح والمنافع وعكسها أيضاً، فالهوية مصدر ووعاء الشرعية لأي عمل يقوم به الإنسان، انطلاقاً من تعريفه لذاته الفردية أو الجماعية في سلوكه وتعامله مع الآخرين. ولكن بالقدر الذي تعتبر الهوية أساساً وقاعدة للتشابه والتماثل بين أفراد مجموعة بشرية، فإنها أيضاً تعتبر عامل التماثل والتمايز بين جماعات مختلفة، فإذاً كانت الهوية قاعدة وأساساً للتعاون والانسجام بين أولئك الذين يتشابهون (أصحاب هوية واحدة)، فهي أيضاً عامل صراع ومنافسة بين الذين يختلفون ولا يتشابهون. ولكن تبقى نقطة جوهرية أخرى وهي أن أهمية ودور ووظيفة الهوية منوط بالفاعل الذي يعتمدها في تعريفه لذاته وفي تعامله مع الآخرين، فإذا أنا أعطيت أهمية لهذه الهوية أو تلك فسيكون لها دور وتأثير على سلوكي وفي حياتي. لذلك نرى من يعتبر أن دور وأهمية الهوية وخاصة الهويات الثقافية، القومية، الإثنية، الدينية، يقتصر على المجتمعات تقليدية أو على حد قول (فرانسيس فوكوياما) مجتمعات داخل التاريخ أي تمييزاً لها عن العالم (ما بعد تاريخي)، وحسب رأيه، فإن الأفراد والجماعات في (عالم ما بعد تاريخي) وتحت تأثير العقلانية الاقتصادية تقلل من شأن العناصر التقليدية للسياسة بتوحيد الأسواق والإنتاج، وفي المقابل، سوف يواصل (العالم المنخرط في التاريخ) انقسامه بفعل صراعات قوية مختلفة دينية، قومية، وأيديولوجية، بحسب تقدم هذه البلدان المعنية التي سوف يتواصل فيها تطبيق القواعد القومية لسياسة القوة([13])، وجوهر القضية هو الصراع من أجل الاعتراف، وتتغير الوسيلة سواء اتخذت شكل التشبث بهويات تغطي مصالح معينة أو اتخذت شكل الصراع على المصالح والمنافع الاقتصادية (المادية) بدون أية غطاء. إذاً تكمن أهمية ودور الهوية في توظيفها أو عدم توظيفها في الصراع الإنساني من أجل الاعتراف والكرامة، وكما يقول (برهان غليون) فإن الهوية، أي التصور الذي يكونه شعب ما عن ذاته، لا قيمة لها إلا بقدر ما تساهم، من خلال القيم التي تركز عليها والعلاقات التي تشجع على بنائها والإيحاءات التي تثيرها، في إعادة بناء الشخصية الفعلية المفككة أو المهددة وبالتالي ضمان تفتحها واستقرارها، وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون قيام هذا البناء على الأسس نفسها التي تساهم في إدماجه في الحركة التاريخية وتعظيم مشاركته في المغامرة التاريخية الحضارية البشرية، والهوية التي لا تقود إلى مثل هذا البناء تتحول بسرعة إلى وهم محبط، وتدفع الجمهور سريعاً نحو التخلي عنها والتوجه نحو خيارات مغايرة[14].

([1]) عز الدين مناصرة، الهويات والتعددية اللغوية، م.س.ذ، ص48.
([2]) برهان غليون، اغتيال العقل (محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية)، م س ذ ، ص32.
([3]) صموئيل هنتنغتون، من نحن، م.س.ذ، ص25.
([4]) المصدر السابق، ص26.
([5]) باقر جاسم محمد، مفهوم الهوية الوطنية (محاولة في التعريف الوظيفي) من موقع الحوار المتمدن 1544-2006/5/8 على الموقع:
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=64159
([6]) المصدر السابق.
([7]) برهان غليون، حوارات من عصر الحرب الأهلية، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت-لبنان، 1995، ص312.
([8])- أدونيس عكرة، البحث عن الهوية والعنف،في مجموعة الباحثين، ندوة(الهوية هل هي نقلة؟) مجلة الفكر العربي المعاصر (ملف الهوية)،م س ذ،، ص 91.

([9]) المصدر السابق، ص97.
([10]) غيه هرميه وآخرون، معجم علم السياسة والمؤسسات السياسية (عربي-فرنسي- إنكليزي)، م س ذ ، ص408.
([11]) صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي،م س ذ ، 1999، ص76.
([12]) المصدر السابق، ص237.
([13]) فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة: فؤاد شاهين وآخرون، ط1، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1993، ص258.
[14] برهان غليون، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة،ط2،مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت-  لبنان،1994،ص59.

Previous Post Next Post