من خلال دراسة إشكالية الدولة الحديثة والهوية بصورة عامة، والدولة العراقية، والهوية القومية الكردية بصورة خاصة
1.إن الدولة كيان سياسي وقانوني وذو سلطة سيادية معترف بها في رقعة جغرافية محددة وعلى مجموعة بشرية معينة، وهي ظاهرة حديثة برزت إلى الوجود بعد أن تجاوزت المجتمعات  الغربية العصور الوسيطة، ودخلت العصور الحديثة بكل ماتبعتها من التحولات والتغييرات في كافة المجالات الحياتية، فإنَّ ما تصفه الدراسات التاريخية، والاجتماعية، والسياسية من أشكال النظم السياسية بأنه دولة، أما أن يكون من الأشكال التقليدية القديمة للنظم السياسية، وعندها لايكون وصفه كدولة وصفاً صحيحاً، إذ لا تعدد حدود الاستعارة المجازية التي لا تتطابق فيها الصفة (الدولة) مع الموصوف (النظام السياسي التقليدي)؛ أو أن يكون الشكل الحديث للنظم السياسية والمقترن ظهوره بالحداثة الاوربية، إذ نتج منها وأنتجها في آنٍ واحد، وعندها يكون وصف هذا الشكل بأنه (دولة State) صحيحاً تماماً لأنه الشكل الوحيد من أشكال النظم السياسية الذي تتطابق فيه صفة الدولة مع موصوفها مع بقائه شكلاً واحداً فقط من أشكال السلطة السياسية في المجتمع، ولكنها بالتأكيد ليس شكلها الوحيد، ومع أن الدولة الحديثة بشكلها وبنيتها الحالية حديثة النشأة، ولكنها تكونت في المجتمعات القديمة بشكلها الجنيني، وتحت مسميات أخرى، وإِن كانت الاختلافات بين الدولة الحديثة، وأشكالها القديمة كثيرة وكبيرة، إلاّ أنّها في بعض جوانبها تعد امتداداً لها، ومن ثمَّ لا يمكن عدّ (الدولة) ظاهرة حديثة بالمطلق. وهكذا فإنَّ ظهور الدولة الحديثة كان نتيجة لتبلور وحدات سياسية دائمة وثابتة ومستقرة في إطار حدود جغرافية، وتطور مؤسسات دائمة، وغير شخصية، والاقتناع الجماعي بضرورة وجود سلطة عليا، وعلى نزعة الولاء لهذه السلطة.
 2. إن بناء الدولة عملية تتعلق بتأسيس، وإنشاء، وتقوية بنية المؤسسات، وقدرات الدولة، بمعنى آخر: أن بناء الدولة يتم بصورة أساسية على المستوى المؤسساتي، ولكن هذا لا يكفي لأنَّه يحتاج إلى الاعتماد على الفاعل السياسي الذي يتوقف عليه تكوين ووجود هذه الدولة، ومن هنا نرى: بأن هذه العملية ترافقها عملية أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي وهي بناء الأمة، وهي عملية تهدف إلى خلق وإنشاء هوية جماعية لكي يستطيع جميع أفراد هذا المجتمع  التماهي  والتماثل مع بعضهم في الدولة.


3. إن  الإندماجية والتجانس المطلقين بوصفهما قاعدة لتكوين الكلية الاجتماعية الموحدة الحية ليسا في الواقع إلاّ من أوهام الأيديولوجية المركزة للدولة-الأمة في مفهومها للهوية، وأن الدول القومية الحديثة ليست إلاّ تجمعاً غير متجانس لعناصر متباينة، ونظم انثروبولوجية مختلفة بعضها عن البعض الآخر، بل أن الإنموذج للدولة-الأمة إذا ما تم الحفر في طريقة اختراعه لم يكن سوى (اسمنت بيروقراطي) لـ(فسيفساء مركبة للهوية)، ونظراً إلى أن أغلب الدول التي نشأت في أوربا كانت أيضاً فسيفساء، فإنّها قد نزعت لإتباع الإنموذج نفسه.
4. إن علاقة الدولة الحديثة بالهوية يتجلى عن طريق إشكالية الهوية الوطنية، والهوية القومية كأنماط وأشكال حديثة للهوية الجماعية في المجتمعات الحديثة، إذ مرت هذه العلاقة الإشكالية بصعوبات كثيرة ومختلفة كانت على مرحلتين رئيستين هما: مرحلة نشأة الدولة الحديثة، وبلورة هويتها الوطنية، وكل ماصاحبها من صعوبات وتحديات، والمرحلة المعاصرة، ومايواجهها من تحديات تهدد هويتها الوطنية، وصراعها من أجل البقاء بتشكيلاتها السابقة، وبالرغم من أن الكثير من دول العالم لم تستطع أساساً تجاوز تحدياتها القديمة التي تعود إلى مرحلة النشأة، فقد أضافت الظروف الدولية والعالمية المعاصرة الراهنة إليها تحديات جديدة أثقلت كاهلها أكثر، وهددت وجودها كدولة.

5 . إنّ (العولمة) ظاهرة معقدة وهى على صعيد الهوية ذات شقين، تخصيص ماهو كوني، وكوننة ماهو خاص، و يعني هذا  أن البحث عن الأسس (الجذور، والأصول الخاصة)، وعن الهويات المتعلقة بالتراث والوطن، يجري في إطار الأفكار المنتشرة عالمياً، ليكون البحث عن الخصوصية هو في حد ذاته أحد المظاهر البارزة للعولمة، وقد تكون الأشكال المتنوعة والعديدة من الأصولية طرقاً ومحاولات للعثور على مكان داخل العالم ككل، و تقع هذه كلها ضمن مسألة الحق في الهوية، أو النضال من أجل المكان، والاعتراف (حسب تعبير فوكوياما) التى باتت منتشرة في الوقت الحالي، وهذا مظهر من مظاهر العولمة، التى انتجت و تنتج تنوعاً وتعدداً ثقافيين إلى جانب إنتاجها لعناصر وخصائص عالمية متشابهة واحدة عالمياً. وبذلك يكون للعولمة تأثيرً مزدوج على الدولة- الوطنية و الهوية القومية والثقافية، إذ أنّها تؤدي إلى خلق عناصر عالمية وشاملة للهوية الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته تنتج عوامل وأسباب صعود الهويات والخصوصيات، بإضعافها لسيادة الدولة، وخرقها الحدود الثقافية، والسياسية، والاقتصادية للمجتمعات، مما يثير ردود أفعال الهويات والثقافات المحلية والصغيرة، في الوقت الذي نرى في ظل العولمة توجهاً من قبل بعض الدول والجماعات البشرية نحو الإندماج، والإنسجام، وتشكيل تكتلات دولية إقليمية مافوق القومية والدولة الوطنية، تشهد أيضاً تفككاً لبعض الدول الأخرى إلى أجزاء على أُسس اثنية، وطائفية، ومذهبية.

6. إن حدود الدول العربية  الحالية قد تبلورت  كنتاج للتفاعل المباشر أو غير المباشر مع الخبرة الاستعمارية، والهيمنة الغربية خلال القرنين الأخيرين،  ولا بد من تصحيح المقولة الشائعة: بأن الخطة الاستعمارية مزقت أو جزأت الوطن العربي ٳلى هذا العدد الكبير من الكيانات القطرية ، لان الخطة الاستعمارية أعادت ترتيب المنطقة و تشكيلها بما يناسب مع أغراضها ومصالحها هي تحديداً فضلاً عن مصالح هذه المنطقة ، بماتطلب في بعض الحالات توحيد وضم كيانات قائمة الى بعضها البعض ، وبذلك لم يكن الأمر مجرد تفتيت وتجزئة أو طرح وقسمة فقط ، ولكنه انطوى أيضاً على عمليات جمع وتجميع . وقد دخلت هذه الدول المسرح الدولي، وهي مثقلة بأعباء كان من أبرزها: مشكلة الإندماج الوطني لعدد من التكوينات الاجتماعية، والسياسية، وبخاصة الاثنية والطائفية في الجسم السياسي لهذه الدول، وترتب على ذلك في بعض الحالات صراعات وتوترات داخلية فرضت شرعية الدولة الوليدة أو أمنها الداخلي و الأقليمي. وكان لذلك تداعيات أخرى متشابكة  منها : استنزاف الموارد ، والتعثر في جهود التنمية الاقتصادية، وفتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي ، وبتعبير آخر دخلت معظم الدول القطرية العربية الجديدة الساحة، وهي مثقلة بإرثين هائلين، الأول/ هو ٳرث المجتمع التقليدي الذي تكون قبل الاختراق الغربي  و ظل مستمراً بعده ، أما الأرث الآخر/ فهو ما طرأ على تكوينات مجتمع الدولة القطرية العربية  من تغييرات مستحدثة ( بنيوية، ومؤسسية، و قيمية، و سلوكية ) وفدت مع التجربة الاستعمارية، ولم تختفِ مع رحيل الاحتلال الأجنبي المباشر.

7. إن الخلاف والاختلاف على تحديد الرقعة الجغرافية للدولة الحديثة سبب و نتيجة فى آن واحد لٳشكالية الهوية في هذه الدولة أو حتى ٳشكالية هوية الدولة بذاتها ، لأنّ استمرار الجدل و الأختلاف حول تحديد الاقليم الجغرافي لأية دولة، ومحاولة العودة الى الماضي لأثبات الرأي هو بحد ذاته دلالة على عدم الإتفاق على هوية هذه الدولة أوعدم قبولها و رفض الانتماء إليها من قبل البعض، ويمكن لكل طرف من  الأطراف أن تأتي بالدلائل والمسوغات التاريخية لاثبات موقفه، لأن التاريخ لم يكن يوماً من الأيام مستقراً و لاثابتاً على وتيرة واحدة، فلكل الأطراف دلائل ووقائع يمكن أن تثبت صحة رأيه ، لأن الأقاليم الجغرافية دائماً كانت في حالة التحول والتغير وهذا هو الحال بالنسبة للغالبية العظمى من الدول في العالم، وأن اغلبية الدول الحديثة لم تكن في الماضي بالشكل الذي هى عليه الآن من حيث رقعتها وحدودها، وٳنّما حدث الاستقرار والثبات للحدود الدولية ( نسبياً ) في العصر الحديث مع نشوء الدول الحديثة، والقواعد القانونية الدولية التي تنظم العلاقات بين تلك الدول بصورة عامة، وبصورة أخص بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تشكل دول عدة نتيجة استقلالها عن الاستعمار الغربي، ولكن في الوقت ذاته هذا الثبات ليست ثباتاً دائماً ومطلقاً وأزلياً ، إذ لا تزال هنالك تحولات وتغيرات في تكوين وتركيب الكيانات السياسية، وجغرافيتها ( إقليمها )، والتي تتجلى فى ظاهرتي (التفكك والتوحد) في الوقت ذاته ( يوغسلافيا / التفكك و الاتحاد الأوروبي / المتوحد ). واذاً، فإنّ الوقائع والدلائل التاريخية لا تُحدد صورة وشكلا مطلقين وثابتين لأي كيان سياسي في الوقت الراهن ، وٳنّما ٳرادة ورغبة مكونات هذا الكيان ( الشعوب ) هى التي تحدد شكل، وحدود، وهوية أي كيان سياسي، فضلاً عن قوة الدولة المتمثلة في نجاحها فى تلبية وإشباع رغبات سكانها وجذبهم ، فالدولة القوية والناجحة من النواحي السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والمتمتعة بالشرعية  هى التى تستطيع أن تخلق هوية وانتماء موحدين لمواطنيها حتى ولو كانوا من أصول، وأعراق، وأديان مختلفة ، و كان إقليمها مكوناً من اتحاد من مجموعة أقاليم جغرافية مختلفة ومتباينة تاريخياً، والمثال هو الولايات (المتحدة الأمريكية) .

8. إن العراق ليست هى الدولة الوحيدة في العالم التي تعاني التقسيم والتمايز في القيم، و الأنتماء والتنوع في التكوين الاجتماعي والعرقي والصراع فيما بينها ، ولكن الاختلاف هو في أسلوب  وطريقة ٳدارة هذه الصراعات، وهذه التنوعات والمسالك التي يسلكها  والذي يؤثر سلباً أم ٳيجاباً في وجود هذه الدولة ومجتمعها ، حيث إن اسلوب ٳدارة الصراع الاجتماعي، وأسلوب التعامل مع التنوع والتعدد يحدد ،  ما ٳذا كانت هذه الظاهرة ستتحول الى حالة ايجابية، وٳغناء ثقافي، وحيوية اجتماعية وديناميكية للتغير والتطور، أو الى حالة سلبية، وٳعاقة للتطور والازدهار، والى الدمار، والانهيار، والجمود ، وهنا تؤدي الدولة المؤسساتية والمتمايزة عن سلطة الحاكم فيها دورها الفاعل في هذا الأمر.

9. إن  العراق ليس دولة مكتملة ( تامة التكوين )، وٳنما هي مشروع دولة فى طور التكوين والبناء  منذ تأسيسها، ولحد الآن وعلى الرغم من تعثر هذا المشروع و مواجهته  لعقبات ومعوقات معقدة ومتعددة  ولكنه مشروع  مستمر في المُضي قدماً ونلاحظ الإشارة  إلى ٳعادة بناء أو ٳعادة تأسيس الدولة في العراق، وخاصة ما بعد ( 9/ 4 / 2003 )، في البحوث والدراسات الخاصة بالشأن السياسي العراقي.
   
10. إن غياب الهوية الوطنية العراقيةالعامة و الموحدة  و وجود هويات فرعية ما فوق أو مادون الهوية الوطنية قبل نشوء الدولة العراقية شيء طبيعي، ولا صلة مباشرة له بعدم وجود هذه الهوية الوطنية بعد مرور عقود على نشأة الدولة، ومن ثم فإنّ هذا الغياب السابق لا يبرر الوجود الراهن لإشكالية الهوية الوطنية العراقية.ومن ناحية أخرى، فإنّ وجود الإشكالية الراهنة للهوية الوطنية العراقية لا يعني: استحالة تجاوزها، وعدم وجود إحتمالية أو إمكانية لإنشاء هذه الهوية إذا توفرت الأوضاع والشروط اللازمة لذلك.

11.  إن الدول الحديثة ورثت  وضعاً كانت فيه الهوية الفرعية عنصراً مهما في ولاء الفرد،  بل ويكاد يكون طاغيا، وكان تصنيف سكان العراق خلال مرحلة تشكيل الدولة مبنياً على أساس التقسيم الفعلي الموجود على أرض الواقع بين المجتمعات المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه المجتمعات تأثرت في عملية بناء الدولة، إلاّ أنّ هذه  التقسيمات حافظت على أهميتها في مجرى العلاقات الاجتماعية والسياسية في الحقب اللاحقة.

12. إن ما تتسم به دولة العراق من التنوع، والتعدد السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والجغرافي، لايعنى بالضرورة عجزها عن خلق هوية وطنية  عامة و موحدة  عن طريق تبني التعددية الثقافية، والتي لم تلق قبولا لدى النخب السياسية التي قادت فى السابق عملية إنشاء العراق الحديث، ويعني ذلك: أن مشروع بناء الهوية الوطنية العراقية يمكن ان ينجح فى حالة مزج التقاليد المحلية للمجموعات الثقافية العراقية.

13. إن الولادة الأولى للدولة العراقية في بدايات القرن العشرين قد جاءت من رحم ينوء بالطائفية والقومية فيما بعد، ومن ثم فإن على القائمين على رعاية شئون هذه الدولة ومواطنيها أن يتجنبوا بعد ولادتها الثانية في مطلع القرن الحالي الأخطاء السابقة، وان يعملوا على جعل عملية بنائها عملية وطنية مجردة من أية نزعات طائفية أو عرقية أو دينية عنصرية، لتكون الهوية العراقية الوطنية الواحدة هي الهدف أولا وأخيراً، ولكن ليس على حساب أية مجموعة أو طائفة معينة.


إشكالية الهوية والانتماء في المجتمعات العربية المعاصرة:
منظومة من القيم والمعايير التي تعبر عن ولاء الفرد لقبيلته في عصر الدولة الحديثة.
أزمة الدولة في الوطن العربي
إشكالية الدولة في الفكر العربي المعاصر
ﺇﺸﻜﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻘﻁﺭﻴﺔ ﺍﻟﻌﺭﺒﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭﺓ




Previous Post Next Post