أنواع الشخصية:
الشخصيات إما حقيقية أو متخيلة.
أولاًً: الشخصيات الحقيقية(الخالقة أو المبدعة)
       تتمثل الشخصيات الحقيقية في الأشخاص الحقيقيين الذين يساهمون في إبداع العمل الأدبي ،إذ لا بد لكل عمل أدبي من مبدعٍ يبدعه ويقدمه لجمهور القراء، والمبدع الحقيقي ـ وهو المؤلف الذي يكتب العمل ـ يوجه  اهتمامه إلى قارئ متخيل وإلى قارئ حقيقي في الوقت نفسه، والقارئ الحقيقي له دورٌ جوهريٌ في تأويل النص الأدبي ، ولذا فإن الكاتب لا يهمـــل القارئ ، ولكنه يطالبه أن يساهم مساهمة واعية وخلاقة، فالقارئ مطالب بأن يساهم في عملية الخلق الأدبي عن طريق اختراع هذا العمل الذي يقرؤه .(46)
1ـ الكاتب:
       يتصل العمل الفني اتصالاً وثيقاً بشخصية مبدعه، وذلك خلافاً للعلم، فالنظرة العلمية تنفصل بسهولة عن ذات مبدعها، فالذاتي في العلم هو الأخطاء، أما في الأدب فإن العمل الفني يصبح وسيطاً بين الكاتب والقارئ ، وهو أشبه بجسرٍ يلتقيان فوقه،(47) والأديب العربي كأي أديب يتأثر بثلاثة عوامل هي: الجنس والبيئة والزمان ( هيبوليت تين )، وبتأثير هذه العوامل ينتج أعماله الأدبية.(48)
       وقد ينشغل الأديب بمشاكله الذاتية وحياته الخاصة في عمله الروائي، وقد تتضخم شخصية الأديب بطريقةٍ لا تسمح له برؤية أحدٍ إلا ذاته، ويغدو الفنان منقطع الصلة بمحيطه الاجتماعي.(49) والكاتب الروائي يختار ما يريده من الحياة، فيطرح جانباً كل ما هو عرضي، ويعيد خلق الأشياء فيكسبها أشكالاً جديدةً لم تكن معروفة من قبل، حيث تتطور الأشياء وفق قانونها الخاص، وتعبر عن نفسها دون عائق، فالكاتب يطلق الأشياء ويتمها.(50)
مهمة الكاتب:
       إن مهمة الكاتب الحقيقية هي " أن يواصل كتابة الحقيقة كما يراها."(51) والكاتب الذي يحترم نفسه يضحي بكل شيء لدعم المدافعين عن الحق، فإذا ما تخلى عن ذلك وبدأ يكتب ما يطلب منه أن يكتبه، فإنه يكون قد تخلى عن نفسه وعن نزاهته، وليس المقصود بالدفاع  عن الحق ومناصرة المظلومين أن تصبح كتاباته مجرد بياناتٍ سياسيةٍ، فمثل هذه الكتابات مكانها في الصحف والبرامج الجماهيرية، والكاتب في أي بلدٍ من البلدان يجب أن تتوفر له الحرية الكافية حتى يتمكن من كتابة ما يريده بطريقته الخاصة من حيث الشكل واللغة، وحسب رؤيته الخاصة للحقيقة.(52) فإذا ما انحاز الأديب إلى جانب القوى التي تجسد أشواق الإنسان وأحلامه، فإن أدبه يصبح أدباً إنسانياً، إذ ليس من المنطقي أن ينحاز إنســـــــان مفرط الحساسية إلى جانب قوى الاضطهاد والظلم في مجتمعه، لأن مكانه الطبيعي إلى جانب قوى التغيير التي تبحث عن مستقبلٍ أفضل.(53)
       والمؤلف ليس حكما بالنسبة لشخصياته، وإنما هو مجرد شاهدٍ نزيه يجب أن يكون محايداً وموضوعياً بحيث يترك الشخصية تتصرف بكامل حريتها، وتتطور حسب الظروف الموضوعية المحيطة بها، فهو لا يثبت وجوده في لا شيء، بل إنه يترك الحرية كاملة للأحداث و الشخصيات، وهو لا يبدي رأيه بصورةٍ مباشرة ، ولا يعني ذلك أنه غير مبالٍ بعمله الفني، والمؤلف وإن اختفى وراء عمله، فهو يعلن عن حضوره بشكلٍ أو بآخر،(54) وذلك من خلال استخدامه لأساليب سردية معينة، فاستعمال ضمير المتكلم من خلا ل شخصية ما يبرز الإحساس الذي ينقله القاص درامياً، " إن هذا الضمير يكتسب التجديد والتفرد بواسطة هاتين العينين اللتين يراه القارئ من خلالهما."(55) هذا الضمير يحدد مجال العمل الروائي، وطبيعة الأسلوب الذي يتبعه الكاتب، فلا يمكننا الحديث عن مضمون الرواية مستقلاً عن الشكل، فالشكل والمضمون صنوان لا يفترقان، كالروح والجسد، إذا انفصل أحدهما عن الآخر، توقفت الحياة عن الاستمرار وفني الجسد." في الشكل يكمن المعنى العميق" للعمل أعني المضمون. فبالنسبة للكاتب ليس هناك وسيلتان لكتابة كتابٍ واحدٍ. "(56) إن أول شيءٍ يلفت انتباه القارئ هو الشكل، هذا الشكل هو الذي يقدم للقارئ العالم الخاص بالكتاب، فهو مدخل القارئ إلى الكتاب يشده إلى التعرف على محتوياته، وكثيراً ما يلعب الشكل دوراً منفراً يبعد القراء عن الكتاب.
          إن الموقف العملي للكاتب يحدد طريقة اختياره لموضوعه الفني، ويؤثر على أسلوب التصوير لديه، " فإذا كان محتوى المعكوس في العالم لا يتأثر بشخصية العاكس،فإن الانعكاس الفني يشتمل دائماً على الذات العاكسة بمصالحها وطموحاتها ."(57) والفنان يحاول أثناء عملية الإبداع اختزان تجاربه وهضمها ثم إعادة صياغتها صياغةً فنيةً، ولكي يصبح الواقع صورةً فنية يجب أن يمر عبر الفنان بالممارسة(أي بالفعل)، ورغم كون العامل الذاتي مقدمة للتصوير  الفني، فإن العنصر الذاتي لا يوجد وجوداً سابقاً للتجربة، " فكل ما هو ذاتي هو ثانوي في نهاية المطاف، أي مشروطٌ بالموضوع ."(58)
       والممارسات الحياتية للكاتب لها دور متميزٌ في إبداعه، فهي تربط بين التأمل المباشر والخبرة الناجمة عن الممارسة في العملية التاريخية، كما تساعد على الدمج بين الشخصي والاجتماعي، الفردي والعام في النشاط الفني، كما تلعب دوراً في التوحيد بين الانعكاس والفعل، وبين العنصر الروحي والعنصر المادي في العملية الفنية.(59)
       والكاتب الاشتراكي يعالج نشاطه الفني من موقع المسؤولية تجاه تطور المجتمع، والحاجة إلى تطور مثل هذا المجتمع، فالفنان يرغب في التأثير في الحياة الواقعية وألا يقتصر تأثيره على الفن فقط. والكاتب الملتزم هو الكاتب الذي يتبلور موقفه الاجتماعي ويتجلى في فنه، بحيث تكون القضية التي يدافع عنها قد صارت هي ذاته وليست خارجة عنه، إن مصطلح الالتزام يوحي بشيءٍ خارجٍ عن طبيعة الإبداع الفني، لأن الأديب الأصيل لا يلتزم بقضية ما دون أن يكون له موقف عقائدي واضحٍ تجاه هذه القضية.(60)
       وأياً كان الأمر فالكاتب لا يستطيع التغاضي عن القيم الشخصية والرغبات والمشكلات الفردية، ولكي يكتب الكاتب كتابة حية عليه أن يدرس كيف يعيش الناس، وماذا تعني الحياة بالنسبة لهم، وعليه كذلك أن يدرس طبيعة العلاقات الفردية، بين الرجل والرجل ،والمرأة والمرأة، والرجل والمرأة، وعلاقة الفرد بأسرته ومجتمعه وبلده.
       والكاتب الذي يقتصر على تصوير شخصياته من الخارج دون تعمقٍ أو استبطان، ودون إتاحة الفرصة للشخصية كي تعلن عن نفسها إنما يرتكب خطأً فادحاً، كما أن الاحتفاظ بشخصياتٍ عديمة الجدوى هو عيبٌ فني، فالكاتب يجب أن يعتني بتوضيح شخصياته وأن يتقن فهمها، وأن يجعلها نابضةً بالحياة، يساعد على ذلك إلمامه بشيءٍ من علم النفس وغيره من العلوم .(61)
       والكاتب مسئول تجاه نفسه وتجاه فنه وتجاه قرائه، ومسئولية الأديب أمام قرائه هي أهم مسئولياته في عصرنا الحاضر.(62 ) لأن المجتمع " يحتاج إلى فكرة تسبقه وتتفوق عليه، وتتحول أملاً وشوقاً محركاً وهدفاً محتجباً، وتكون أكبر من الماضي والحاضر، ومن المجتمع نفسه .. لا بد من جسرٍ فكريٍ يمتد إلى المستقبل امتداداً لا يحده شيء، ومادة هذا الجسر هم الكتاب  بأفكارهم وأخلاقهم وتمردهم على كل ما وجد من الأكاذيب والحقائق أيضاً.. فالحقيقة الموجودة ليست هدف الكاتب، وإنما هدفه الحركة والتغيير، لا الحقيقة."(63) فالحقيقة ليســت شيئاً مطلقا وإنما شيءٌ نسبي فما أراه حقيقةً واضحةً قد لا يراه غيري كذلك.
       يرى حنا مينا أن " أول ما يكتبه الإنسان ، أو ما يجب أن يكتبه، هو عن حياته الخاصة، عن تجربته."(64) ويستطرد:"ولم أشذ عن هذه القاعدة، لقد خلقت في أقاصيصي الأولى من نفسي بطلاً،والعجيب أن هذا البطل الفقير البائس، النحيل كغصن الزيزفون، كان عنجهياً في القصص فهو يريد أن يناطح ويصارع ويتحدى ويغير الدنيا." ويرى حنا مينا أن الخطورة تكمن في أن يسقط الكاتب أفكاره ورغباته الشخصية على أبطاله، لأن ذلك في نظره خيانة مزدوجة للإبداع، لأن الكاتب بذلك يفتقر إلى الحس التاريخي، ويفتقد عنصر الصدق الفني في عمله الأدبي، بينما يقول غارسيا ماركيز إنّ ما يهمه هو أن يروي حكاية، وأنه يرفض أن يخلق أبطاله ويدعهم يتطورون ليموتوا في النهاية، إنه يخلق أبطاله ويتركهم يتطورون ليعيشوا، ومع ذلك يظهر لهم فجأة ذلك الموت القبيح الذي يفسد كل شيء، فالكل عنده يموت غاضباً مستاءً أشد الاستياء.
       أما إلياس خوري فيعتقد أن الكاتب، عندما ينتهي من كتابة كتاب ما، يكتشف أنه لم يبدأ، وأن أهمية كتابه ـ إذا كانت له أهمية ـ تكمن في أنه كتاب ناقص يعلن عن عجز الكاتب عن الاكتمال، وهو يذهب إلى حد القول إن الكتابة الجديدة تكتمل ـ إذا اكتملت ـ في القارئ وليس في الكاتب، فالقارئ في نظره هو مؤلفها الثاني. (65)
       وقد ذهب محمد دكروب  إلى القول بأن المهم في العمل الأدبي لكاتب ما " هو ما يكشفه أدبه فعلاً من حركة الواقع وتعقيداته، ومدى صرخة الاحتجاج الفنية الصادقة في هذا الأدب ضد واقع الاضطهاد والظلم والاستلاب والعلاقات غير الإنسانية، لا نوعية الشخصيات أو الموقف الظاهر للأديب نفسه. "(66 )
الكاتب والشخصيات:
       يتناول الكاتب أي شخصية من الشخصيات التي يخلقها من عدة زوايا، فقد يصف بعدها الجسمي من حيث الطول أو القصر والجمال أو القبح، كما يصف بعدها الاجتماعي من حيث الغنى والفقر، أو الحياة في القرية أو المدينة، أو كون الشخصية من الطبقة العاملة أو الرأســــــمالية، وكذلك يتناول البعد النفسي للشخصية من حيث القلق والتوتر أو الاســـــتقرار والاطمئنان، والبعد الفكري من حيث المحافظة أو التحرر، أو الانتماء إلى الفكر الديني أو الاشتراكي أو العلمي، ولا يحق للكاتب أن يعرض شخصياته عن طريق سرد هذه الصفات أو التعليق عليها، لأنه بذلك يتدخل في شؤون شخصياته بطريقةٍ مباشرة، ومن الأفضل له أن يصور الشخصيات وهي تعمل، وعليه ألا يقتصر على إبراز سلوكها وتقديم وجهة نظرها وفضح تصرفاتها فقط، وإنما يجب أن يوضح ذلك من خلال منطق الأحداث وظروف البيئة، بحيث يترك شخصياته تنمو بطريقةٍ طبيعيةٍ مقنعةٍ، والكاتب يقوم بعمله بذكاء وحذر، حتى لا يتورط في الكشف عن رؤيته الخاصة للأحداث، وبذلك يصف نفسه بدلاً من أن يصف شخصياته فتصبح الرواية خواطر ذاتية تسخر الشخصيات للتعبير عنها،(67) "وقد يختار المؤلف شخصياته بحيث تدع له مجالاً لاستعراض معلوماته في موضوعٍ معين، حبيبٍ إلى نفسه."(68) وبذلك يقع في المحظور.
        والكاتب يقسم شخصياته إلى شريرةٍ وخيرة ،سواء منها الشخصيات الرئيسية أو الثانوية، لأن الشخصية الرئيسية بحاجةٍ إلى أعوان، فالشخصية الرئيسية الخيرة تحتاج إلى أعوان خيرين، والشخصية الشريرة تحتاج إلى أعوان شريرين، ولما كانت القيم لا توجد في الحياة بصورةٍ مطلقة، فإن على الكاتب أن يدرك نسبية كل من الخير والشر، وأن كل إنسان يعيش في معركة مستمرة بين مجموعة من القيم والميول، وطبيعة الظروف المحيطة به سواء كانت ظروفاً اجتماعية أو فردية.(69)
يقول حنا مينة:" آثرت الصدق التاريخي، والصدق الفني على رغباتي الذاتية، على أفكاري الأيديولوجية، ولم أفرض نفسي على أبطالي، لكن لم أدعهم يعيشون في تخبط من لا يفهم حتى دوره الحياتي ،أبطالي أمناء لأدوارهم الحياتية، وفي هذه الأمانة يتحركون بحرية، بعد أن كان دوري هو انتقاؤهم، انتقاء نطفتهم، وتطويرها في البناء الدرامي."(70 )
       من كلام حنا مينا ندرك أن موقف الكاتب من شخصياته يجب أن يكون حيادياً، ولكن في الوقت نفسه عليه أن يأخذ بيد شخصياته حتى تعبر عن نفسها من خلال الفعل والحوار، إن حياد الكاتب يعني تخليه عن التدخل بالشرح أو التعليق أو الحكم على الأحداث، لأن ذلك يسلب من الشخصية إرادتها الحرة الفاعلة، وتصبح مجرد بوقٍ ينطق بفكر الكاتب فيكون صوته أعلى من صوت الشــــــخصية .(71)" فالروائي ليس محايداً بالمعنى المطلق، لكنه يعتبر"هكذا " أن الآخرين ليسوا متهمين إلى أن تثبت براءتهم. ومن هنا يفسح لكل شخصيةٍ إلى أن تقول وأن  تفعل ضمن شروطٍ إنسانيةٍ معقولة، أما الحكم النهائي فإنه نتيجة فعل الشخصية ذاتها، ونتيجة الأحداث وردود الفعل عليها."(72 )
العلاقة بين الكاتب والشخصية:
       قد يحدث تطابق بين الروائي والشخصية في رواية تيار الوعي ، خصوصاً عندما يلجأ الراوي إلي استخدام ضمير المتكلم، فيكون المؤلف راوياً يروي الأحداث وفي الوقت نفسه  يعيش التجربة، وتدور الأحداث من حوله، لذا فإن الوعي في رواية التيار قد يكون وعي الراوي أو وعي المحكي عنه في حالة اللجوء إلى استخدام ضمير المتكلم، أما عندما يستخدم الراوي ضمير الغائب فالوعي هو وعي الشخصية.(73) "ولا شك أن استعمال ضمير المتكلم هو مصدر راحة للكاتب الروائي في مجال التأليف، فهو أسلوب يتكون على هواه، أو هذا ما قد يشعر به الكاتب ، لأن البطل يمنح القصة وحدةً غير قابلةٍ للانفصال بمجرد سردها، وربما لا تبدو سيرته معلقة منطقياً أو فنياً، إلا أن أي جزءٍ هو على الأقل متحد بكل الأجزاء بواسطة التوافق في أنها ترجع إلى شخصٍ واحدٍ."(74) أي أنه يحدث تطابق تام بين الكاتب وبين الشخصية التي تقوم بعملية السرد والمشاركة في صنع الحدث والانفعال به، وفي السيرة الذاتية يلجأ الكاتب إلى استخدام ضمير المتكلم، ولا يتوقع أحد من الكاتب أن يوجه أفكاره في خطةٍ مصممة، بل يدعها تنساب طليقة، وقد أصبح غياب الشكل علامةً على الشكل الصحيح في أدب السيرة الذاتية، فرواية السيرة الذاتية ترفض القواعد المقررة، فهي متمردة وغير منطقية، لكنها تتسم بالدقة والأمانة.
       والروائي يستطيع أن يرينا علاقة اللاشعور بالمناجاة، فهو يسيطر على  الحياة الخفية كلها، وهو في عرضه لسلوك الشخصية لا يحاول أن يقص علينا كل ما هو تافه من أمور الحياة من مأكل وملبس ومشرب أو حديث ساذج وتصرفات بسيطةٍ، فهو ينتقي ويختار من الواقع كل ما له مغزى، فيصور نوازع الفرد، واتجاهاته، ومثله العليا، وصِلاته الاجتماعية، وصراعه في سبيل تأكيد ذاته، و" الفنان هو الذي يبصرنا بالحقيقة الخافية،والباعث المكنون، فيرينا من أنفسنا ما يسر، ويصارحنا من أمرنا ما نكتم فإن لم يفعل ذلك فهو أقرب إلى أن يكون صاحب عظات طنانة تهتز لها المنابر والمنصات."(75) 
       وقد كان الروائي التقليدي يهتم بأشخاصه اهتماماً عظيماً يدفع بالقراء إلى الاهتمام بهم أيضاً، فهو يحيا عواطفهم ويتقمص شخصياتهم بدلاً من الانفصال عنهم كما يفعل الروائي الحديث، فالروائي الحديث أشبه بعالمٍ يجلس في مختبره يتفحص شخصياته ولا يضع نفسه داخلها كما كان يفعل روائيو العصر الفكتوري.(76)
       يعتقد الدكتور عبد الرحمن منيف أن إحدى المشكلات التي تواجه الروائي، هي العلاقة المفترضة، أو الكامنة بينه وبين شخصيات الرواية، وأن هذه العلاقة قد تسقط الرواية وقد ترفعها، وهو يرى أن العلاقة بين الشخصية الروائية والروائي ليست علاقة حب أو كراهية، وليست قناعاً أو عملية إسقاط من خلال الشخصية لأفكارٍ أو حالات، فالشخصية يجب أن تكون حقيقية، بمعنى أن تكون قادرةً على الفعل ضمن منطقها ومنطق الأحداث، وتقضي الضرورة بوجود مسافةٍ بين الشخصية الروائية والراوي، بحيث يكون الراوي أكثر قدرة على استنطاق الشخصية والتعامل معها.(77)
       والفنان الأصيل ـ بغض النظر عن انتمائه الطبقي،أو الأفكار التي يؤمن بها ويحاول نشرها ـ يعكس الجوانب الجوهرية من الواقع، ولا يعني ذلك حيادية تامة من جانب الكاتب، ذلك أن أفكاره تتسرب بشكل أو بآخر إلى عمله الفني، مع بقاء النزعة الإنسانية، النزعة الأكثر بقاءً في العمل الفني الأصيل.(78)
       والروائي، بخلاف المؤرخ، ينفذ إلى أعماق الشخصية ويستبطنها ويثريها بالنمو والمفاجأة، فهو خالق الشخصية، وكثيراً ما يؤلف الكاتب شخصياته بحيث تكون الشخصية الواحدة محصلة لمجموعةٍ من الصفات قد لا تتواجد في شخصٍ واحدٍ يمكن أن نجده في الحياة، بينما يقدم لنا المؤرخ الشخصية كما هي في الواقع دون تغيير. إن الصورة الروائية ليست منقولة عن الواقع نقلاً حرفياً، وإنما ترتفع عن الواقع بحيث تصبح معادلاً فنياً للشخصية الواقعية.(79)
       وقد يضطر المؤلف إلى التركيز على شخصيةٍ واحدةٍ ،هي الشخصية الرئيسية، واعتبار بقية الشخصيات ثانوية يقتصر دورها على توضيح موقف الشخصية الرئيسية التي يتجه إليها ويركز عليها الأضواء. وهناك بعض المؤلفين الذين يريدون للشخصية أن تتحول من النقيض إلى النقيض خدمة لأغراض الرواية، ولكن هـــــذا التحول يأتي دون تمهيد كــــافٍ ومقنع، لأن المؤلف يلجأ إلى الحكم على الشخصية فيقدمها لنا دفعةً واحدةً من أول الرواية.(80) فتكون الشخصية مسطحة أو بسيطة.
       أما إذا أراد الكاتب أن يقدم لنا الشخصيات النامية فإنه يتبع إحدى طريقتين:
الأولى : أن تكون الشخصية منطقيةً ومتكافئة مع نفسها، ومهمة القاص هي أن يوضح ما هو مختلط مضطرب في الإنسان، فالشخصيات تتطور في القصة، وقد تغير أفكارها ومسلكها بتقدم الأحداث، ولكنها تظل واضحة الجوانب.
الثانية: وفيها يحرص الكاتب على ألا تكون الشخصية منطقية، حيث يتجلى الإحساس بالزمن كوسيلة من وسائل الحركة والتطور، فكل شخص في القصة حر ، يتوقع المرء منه كل شيء، ويخاف كل شيء.(81 )
       أما في الرواية الجديدة فإننا نجد من يبشر بموت الشخصية وانتهاء عصر البطل والبطولة، وهم يرون أن "خالقي الشخصيات بالمعنى التقليدي للكلمة، لم يعد باستطاعتهم أن يقدموا لنا سوى أشباح قد كفوا هم أنفسهم عن الإيمان بها. إن رواية الشخصيات أصبحت الآن ملكاً للماضي، فقد كانت من الصفات التي تميز حقبة ، أعني الحقبة التي وصل فيها الفرد إلى قمة مجده."(82)
       والرواية في نظر أنصار الرواية الجديدة آيلة للسقوط  بسبب تخلي السند الكبيرـ البطل ـ عنها. إن ما يقصه المؤلف هو جوهر الرواية وسبب وجودها، وقوة الروائي تكمن في أنه يخترع بحرية، دون تقيدٍ بنموذج أو مثال، وهذا هو ما يميز الرواية الحديثة، كما يرى هؤلاء أن العقدة الروائية قد توقفت عن أن تكون درع الرواية وسلاحها الأوحد.(83)
2-القارئ:
       لا يمكن للإبداع أن يكتمل إلاّ بالقارئ، فإذا كان الكاتب هو المؤلف الأول للعمل الأدبي، فإن القارئ الحقيقي هو المؤلف الثاني لهذا العمل، ولكي يكتمل العمل الأدبي يجب أن يتحول القارئ إلى مؤلف للنص.(84) يعيد إبداعه من جديد ومن هنا جاءت فكرة تعدد القراءات للنص الأول. والقارئ الحقيقي يختلف عن القارئ المتوهم الذي يتخيله المؤلف أثناء كتابته للعمل الأدبي، فالكاتب يعرف كيف يخلق التســــلية بكل وسائل الخداع، فهو يعي رغبات الآخرين، والقارئ الحقيقي يبرز  كمعارض للقارئ المتوهم عند القاص، ومكتملاً كقارئ حقيقي يضفي على العمل الأدبي معنىً جديداً ويترك عليه بصماته بحيث يتحول إلى مبدعٍ ثانٍ للعمل الأدبي ويحاول الإسهام في الأتوبيوغرافية، كجزءٍ من بحثه عن صورة البطولة والحدث والزمن، لا كما يرسلها القاص، ولكن كما يتلقاها وعي القارئ.(85)
       وعندما يقرأ القارئ قصةً ما، يكون بحاجةٍ إلى معلومات عن خلفية الشخصيات، هذه المعلومات تقدمها له افتتاحية العمل الأدبي.(86) يقول هانز كوخ في رسالته المفتوحة إلى ايريك نويتش: "أريد أن أتمتع بالفن، ولكن هذا يعني وإلى درجةٍ غير صغيرة أنني لا أريد مجرد معرفة شيءٍ ما عن طريق القراءة، بل أسعى إلى المشاركة في إعادة التجسيد الجمالية للتنوع الفني في قرارات وعلاقات هذا الإنسان، الأمر الذي قد لا يفكر فيه الكاتب أبداً، أسعى إلى مواصلة هذه الشخصية والعودة إليها، محققاً المزيد من الاكتشافات الجديدة."(87)
       فالقارئ يغني نفسه بامتلاك اللغة التي يقدمها له الكاتب، فالتمتع بالعمل الأدبي يحمل طابعاً اجتماعياً، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال فصل اللغة في العمل الجيد عن المضمون، لأن الأسلوب ينفذ إلى  أعمق طبقات العمل الفني . إن القارئ بعد تلقيه نبضات العمل الفني يبني صورة العالم بطريقةٍ مماثلة لتلك التي يبسطها أمامه الأدب، فالعمل الفني حين يعطي كمية قليلة من النبضات تثير مجموعة كاملة من التصورات عن طريق التداعي، فتنشأ بذلك لوحة تصورات القارئ ، هذه اللوحة تختلف من قارئ إلى آخر.(88)
بين القارئ والناقد:
       إن القارئ الناقد هو مبدع في الوقت نفسه، فهو يقوم بإبداع رواية داخل الرواية التي كتبها المؤلف.(89) وقد اجمع النقاد على دور القارئ في إعادة خلق العمل الأدبي . (90) إن الصفحة التي تقرأ بتأمل تتوفر لها أكبر فرصة للبقاء، فالقارئ الناقد يقرأ بتمعن ودقة، وهو كاتب روائي يعيد صياغة العمل الأدبي،ويتحمل جزءاً من المسؤولية، لأن العمل الروائي بعد إنجازه لا يخص المؤلف وحده .(91)
فالنقد يقتفي أثر الإبداع ويكتشف القواعد والأسس التي بني عليها ليهتدي بها المبدعون .(92)
وأزمة النقد تنحصر في بعدين:
أولهما: الخضوع للمفاهيم الغربية أو العربية الكلاسيكية.
وثانيهما: الخضوع للسلطة السياسية والارتماء في أحضانها.
       ولتجاوز هذه الأزمة لا بد من ترجمة نصوص الماضي الكلاسيكي العربي، إضافةً إلى تعريب المنجزات العلمية المعاصرة لنضع المناهج والاتجاهات النقدية في سياق إشكاليتنا التاريخية الراهنة، ونصل إلى فهمٍ واضحٍ لمعنى الشرعية.(93)
       فالناقد يستخلص من الحياة ما كان مادةً فنية، ولكن نقص المصطلحات النقدية يشكل عائقاً حقيقياً أمام الناقد، والناقد المجيد هو الذي" يستطلع الميادين والأساليب الأخرى بفضولٍ وتيقظ."(94) وهو قارئ غير عادي مسلح بثقافة واسعة في ميادين مختلفة من ميادين العلم والحياة، فلابد للناقد الفذ أن يلم بمجالات مختلفة من الدراسات العلمية والنفسية والتربوية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والتاريخ والعادات والتقاليد، وإلا فإن نقده سيكون قاصراً.
       يقرأ القارئ العادي العمل الفني قراءة متعة لا قراءة درس وتمحيص، وإن خرج القارئ العادي بشيءٍ ما من العمل الأدبي، فإنه قد يخرج ببعض المقارنات التي تحاول الربط بين بعض شخصيات هذا العمل وبين بعض الشخصيات الواقعية، واستخلاص بعض العبر التي يرمي إليها الكاتب، أما القارئ الناقد فإنه أشبه بالطبيب الذي يمارس عملية تشريحٍ حقيقية، محاولاً دراسة العمل الأدبي من جميع جوانبه، والناقد الحق لا يكون صورة للآخرين، ولا يكون منهجه  اجتراراً لمناهجهم.
       والناقد الذي يقتصر على جانبٍ معين من تأويل النص، بحكم رؤيته المتعصبة سلفاً لا يستطيع أن يدرس النص أبداً،(95) وعليه فإن الناقد لا يتخذ مواقف مسبقة من النص، وإلا سقط في محظور الأحكام الجاهزة ، فالقراءة هي فعل يشبه فعل الإبداع، بل هي إبداع آخر، فكما أن المبدع أو الراوي لا يكون بالضرورة في حال الكتابة، هو ذلك الشخص المتجسد باللحم  والدم، أي المؤلف بمعناه الوجودي التاريخي ، وإنما ذلك الراوي في حال تشبه حلم اليقظة أو يقظة الحلم (غيبوبة الوعي ـ وعي الغيبوبة) وما شئت من هذه الأطوار التي تعتو ر المبدع وهو يكتب ، فكذلك القارئ الحق الذي يتوجه إليه هذا المبدع ، ليس هو ذلك القارئ الذي يقرأ الكتاب ، وإنما هو المروي عليه.(96) "إن الراوي والمروي عليه والشخصية ( أناـ أنت ـ هو) يتظاهرون فيما بينهم جميعاً بحيث لا يستوي العمل الفني إلا بتدخل هذه العناصر الثلاثة مجتمعة."(97)
       والعلاقة بين القارئ وشخصيات العمل الأدبي هي علاقة اكتشاف ، " فالمعروف والجلي بالنسبة للشخصية ، هو غريب وبحاجةٍ إلى التوضيح بالنسبة للقارئ ، وحتى تتم عملية القراءة فلا بد من عملية تعارف بين القارئ والشخصية تكون الأخيرة منطقة مجهولة تنكشف للقارئ عن طريق تعوده عليها وتعرفه على تصرفاتها ، وعندما يتعود القارئ هذه التصرفات يتعود في الوقت نفسه على الإحالات المنقطعة في مناجاة النفس . " (98)





ثانياً: الشخصيات المخلوقة أو المتخيلة:
         المؤلف والقارئ الحقيقي بنوعيه : القارئ العادي والقارئ الناقد ، هم شخصيات حقيقية خالقة تساهم في عملية الخلق والإبداع الأدبي ، وهم شخصيات من لحمٍ ودم تعيش الواقع بكل جوانبه ، تؤثر فيه وتتأثر به، تغير وتتغير، فالكاتب يحاول إعادة تشكيل الواقع من وجهة نظره هو، كما أن القارئ يحاول كسوة العمل الفني بالرداء الذي يناسب وجهة نظره، فيخرج وقد تكونت لديه رواية جديدة من الرواية التي قرأها .
         وفي مقابل الشخصيات الحقيقية الفاعلة والخالقة نجد شخصيات مخلوقة متخيلة، لا  وجود لها إلا في ذهن المؤلف أو القارئ الناقد الذي يحاول الفصل بين شخصية المؤلف مثلاً، وبين شخصية الراوي أو الراوي ، كما أن الناقد يحاول الفصل بين القارئ الحقيقي والقارئ المتخيل الذي يطلقون عليه مصطلح المروي عليه أو المروي عليه، وهذه الشخصيات تشمل:
1ـ الراوي :
         الراوي هو تلك الشخصية التي تروي الأحداث في الرواية، وقد يقوم بالقص بوصفه شخصية داخل الرواية، أو من خارجها، فإذا ما كان شخصية من شخصيات عمله الأدبي فإنه يستعمل ضمير المتكلم في القص ، أما إذا وجد خارج العمل الأدبي فإنه يستخدم ضمير الغائب، وبدون الراوي لا توجد رواية، لأنه بدون الراوي يبقى الخطاب السردي في حالة احتمال، إنه دور مخلوق من قِبَل الكاتب، شخصية متخيلة، شأنه شأن باقي شخصيات العمل الأدبي، يستعين به المؤلف لينوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابه الأيديولوجي، وفي ممارسة لعبة الإيهام بحقيقة وواقعية ما يرويه، ولما كان كل كلام عبارة عن حوار، والحوار لا يوجد ولا يتأســـــس إلا بين طرفين، فلا بد من وجود المتكلم والمخاطب في الحوار.(99)
         والمتكلم في الرواية فرد اجتماعي ملموس، وخطابه لغة اجتماعية، وليس لهجة فردية، والروائي لا يعرف لغةً واحدةً كلغةٍ مؤكدة وحاسمة، بل إنه يتلقى لغته مصنفة ومقسمةً إلى لغات متنوعة ، والمتكلم في الرواية هو موضوع تشخيص لفظي وأدبي، وليس خطاب المتكلم مجرد خطاب منقول، بل هو مشخص بطريقةٍ فنية، والمتكلم في النهاية منتج أيديولوجيا يقدم وجهة نظر خاصة عن العالم، (100)
         والراوي  يحرص على وجود مسافةٍ ثابتةٍ في علاقته بالقارئ ، إن أي دارس في هذه الأيام يستطيع التمييز بين الراوي في رواية ما وكاتبها، والراوي والمروي عليه يعتمد كل منهما على الآخر.(101 ) فلا يمكن وجود راوٍ بدون مروي عليه، كما أنه لا يمكن أن يكون هناك متكلم دون وجود مخاطبٍ يستمع إليه، بينهما أداة توصيل هي المحكي أو الشيء موضوع السرد، وهناك نوعان من المحكيات: محكي يكون فيه الراوي غائباً عن الحكاية التي يحكيها، ومحكي يكون الراوي حاضراً فيه باعتباره شخصية في الحكاية، ويسمى النوع الأول محكياً براني الحكي، بينما يعد الثاني محكياً جواني الحكي .(102)
         أما الراوي الذي قد يكون حاضراً في المحكي، فمن الطبيعي أن يخبرك الشخص فيم يفكر، ولذا يقبل القارئ ما تعبر به الشخصية عن أفكارها ومشاعرها، متأثراً بانفعالاتها، فهو أشبه بالكورس أو المفسر.(103 ) فالراوي هو حيلة أولية ضرورية يلجأ إليها القاص، فاستخدام شخصية باعتبارها " أنا القصصية طريقة شائعة في الروايات ذات الحدث العنيف أو المستهجن."(104) ولكن الراوي في رواية التيار لا يختفي دائماً، كما أن الشخصية لا تسيطر دائماً، فهناك تبادل في الأدوار والمواقع، تسيطر الشخصية على الرواية تارةً، وتقدم الأحداث الخارجية والمواقف والصور، وتارة أخرى يسيطر الراوي فيقدم الأحداث من وجهة نظره وحدها، وقد يتداخل وعي الشخصية مع سرد الراوي،(105) و"من الظواهر التي تزيد الإحساس بسيطرة الراوي على المستوى الزمكاني، ظاهرة ترتيب الأحداث انطلاقاً من المفهوم الموضوعي، الخارجي لا المفهوم الـذاتي الداخلي، فالمبنى الحكائي في المفهوم الأول يقترب كثيراً من الحكاية نفسها بحيث يحافظ الحدث على وجوده في موقعه الترتيبي بين الأحداث الأخرى، أما في المفهوم الثاني، فالمبنى الحكائي يختلف عن التسلسل الواقعي للحكاية بحيث نجد أحداثاً متشابكة غير متسلسلة زمنياً يحكمها منطق داخلي ينبع من داخل الشخصية."(106)
         وهناك ثلاثة أنماط تتنوع بين الراوي والمؤلف هي:
النمط الأول: ويكون السرد فيه عن طريق الراوي الذي هو المؤلف الحقيقي، بمعنى أن هناك تطابقاً بين الراوي والمؤلف الحقيقي كما في السيرة الذاتية.
النمط الثاني: ويحدث فيه تقاطع بين شخصية المؤلف والراوي في عدة نقاط، حيث يتم تقاطع ما هو واقعي بما هو متخيل، وفي ذلك محاولة للإيهام بواقعية الحدث، وتمرير التعجيب للمتلقي في رداءٍ واقعي.
النمط الثالث: وفيه ينفصل الراوي عن المؤلف، ويأتي الراوي على ضربين:
1ـ الراوي الملتحم بالحكاية: ويشغل وظيفتين معاً، فهو راوٍ ومشاركٍ في الأحداث، ويتم الحكي في هذه الحالة بضمير المتكلم.
2ـ الراوي غير الملتحم بالحكاية: ويحتفظ بوظيفة الحكي دون المشاركة في أحداث الرواية، فيكون غائباً عنها بوصفه فاعلاً، ولكنه حاضر فيها باعتباره منظماً للحكي، يعرض الأحداث ويربط بين أصوات الشخوص التي يقدمها .(107)
         ويطلق شعيب حليفي على الراوي من النوع الأول مصطلح "الراوي البطل"، وعلى النمط الثاني " الراوي الشاهد "، يروي الأحداث بوصفه شاهداً يتأرجح بين البوح والتكتم، وهناك راوٍ يبقى مجهولاً تفاجئه الأحداث وهو نمط نادر الوجود.
         والراوي الحاضر في أحداث الرواية، إما أن يكون هو البطل يحكي حكايته، وتكون الأحداث هنا محللة من الداخل، وإما أن يكون شاهداً يحكي حكاية البطل، وتكون الأحداث في هذه الحالة محللة من الخارج. أما في حالة الراوي الغائب، فقد تكون الأحداث محللة من الداخل حيث المؤلف المحلل أو الكلي المعرفة يحكي الحكاية، وقد تكون الأحداث محللة من الخارج حيث يحكي المؤلف  الحكاية من الخارج، وعليه فإنه توجد عدة وضعيات سردية مثل: وضعية الراوي الكلي المعرفة، أو الراوي المشارك في العمل الروائي، أو المحكي المسرود بضمير الغائب، وبالتالي  ينقسم السرد إلى سرد كلي المعرفة بتدخل من الكاتب أو دون تدخل منه، وسرد بضمير المتكلم، فيكون الأنا (شاهداً أو بطلاً) هو الشخصية الرئيسية، والسرد الكلي المعرفة أو الانتقائي أو التعددي، والسرد الموضوعي ويتم بطريقتين: إحداهما افتراضية، وهي الطريقة الدرامية، والثانية طريقة الكاميرا التي تسجل دون اختيار أو تنظيم، والراوي إما أن يكون راصداً وملاحظاً للأحداث، أو أن يكون مشاركاً فيها أو عاكساً لها.
         والراوي " العالم بكل شيء" يضر في لعبة الإيهام بالواقع من منطلق أن الاحتوائية أو اللا محدودية التي يمثلها هذا النوع من الرواة لا وجود له على أرضية الواقع، أو أن الراوي الخارجي بحاجةٍ دائماً إلى إقناع القارئ بأنه ثقة عند عرضه لداخلية الشخصية، في حين أن الشخصية حين تعرض أحاسيسها بنفسها لا تحتاج إلى ذلك."(108 ) والراوي العالم بكل شيء يوجه القارئ إلى الوجهة التي يريدها الكاتب، وهو يناسب تقديم الأحداث الكبيرة والشخصيات الكثيرة، حيث يعلو صوته فوق أي صوت آخر.(109 )
         وهناك تصنيفات أخرى للراوي وعلاقته بالسرد، حيث يكون الراوي أكبر من الشخصية ويطلق (بويون ) ، و( تودوروف ) على هذه الحالة مصطلح " الرؤية من الخلف " بينما يطلق (جيرار جينيت ) عليها مصطلح التبئير، ويقابل ( جينيت ) مصطلح الرؤية من الخلف بمصطلح " محكي غير مبأر" أو " تبئير من درجة الصفر. "(110 ) ويتميز الراوي في حالة الرؤيا من الخلف بأنه يعرف كل شيء عن شخصيات عالمه وأعماقها النفسية، فينتقل عبر الزمان والمكان دون صعوبة، ويحكى هذا النوع من الروايات بضمير الغائب، ويرمز تودوروف إلى هذه الحالة بالمعادلة: راوي > الشخصية، أي أن الراوي أكثر معرفة من الشخصية، ويرى (هنري جيمس) أن هذا النوع من السرد أدى إلى التفكك وعدم التناسق.(111)
         أما عندما يتساوى أو يتطابق الراوي مع الشخصية فيطلقون عليها مصطلح " الرؤية مع" أو " المحكي ذو التبئير الداخلي " ولا توجد علاقة بين نوع التبئير(داخلي أو خارجي) وبين الضمير المستخدم في السرد، فاستعمال ضمير المتكلم الذي يرى البعض أنه يطابق فيه بين الراوي والبطل، لا يوجه على الإطلاق تبئير المحكي، يقول (تودوروف) : "المحكي بضمير المتكلم لا يبرز صورة سارده بل يجعلها أكثر إضماراً."
         وللتمييز بين التبئير الداخلي والتبئير الخارجي نقوم باستبدال ضميرٍ بضمير، مع الإبقاء على صيغته التركيبية الأصلية على ما كانت عليه، كما في المثال التالي:" رأى شخصاً مسناً في صحة جيدة " نحولها إلى ضمير المتكلم فنقول: " أرى شخصاً مسناً في صحةٍ جيدةٍ." في هــــذه الحالة نكون أمام مقطع مبأر تبئيرأً داخلياً، لأن شيئاً لم يتغير سوى الضمير، لأن صيغته شخصية ولا تتطلب أكثر من استبدال ضمير بضمير، وهذا يعني أن الراوي هنا هو من نوع الراوي المشارك ، أما إذا كان من الصعب استبدال الضمير دون المساس بالبنية الأساسية للجملة فإننا نكون أمام راوٍ مشاهد ، ويتضح ذلك في الجمل الاسمية التي يصعب استبدال الضمير فيها دون تغيير تركيب الجملة، وعليه فإن نوع الجملة هو الذي يحدد نوع الراوي وما إذا كان التبئير داخلياً أم خارجياً .
         وفي حالة الرؤيا مع ، يعرض الراوي العالم المتخيل من منظور ذاتي داخلي لشخصيةٍ روائيةٍ معينة، دون أن يكون له وجود موضوعي محايد خارج وعيها، والراوي في هذه الحالة لا يقدم أية تفسيرات للأحداث، مع أنه قد يعرف أكثر من الشخصية، إلا أنه يتركها لتصل إلى التفسير بنفسها، ويمكن تمييز نوع من المحكي يتم فيه الحكي بضمير المتكلم فتتطابق شخصية السارد مع الشخصية الروائية، ولا علاقة لذلك بنوعية الضمير المستخدم في السرد، وعليه فإن بالإمكان التحول إلى الحكي بضمير الغائب دون أن يفقد القارئ انطباعه بأن الراوي شخصية مشاركة في الرواية.(112) وينقسم التبئير الداخلي عند جيرار جينيت إلى:
1ـ محكي ذو تبئير داخلي ثابت:
          يعرض كل شيء من خلال وعي شخصيةٍ واحدةٍ، مما يؤدي إلى تضييق مجال الرؤية، وحصرها في شخصيةٍ واحدة بعينها إلى درجةٍ تصبح معها الشخصيات الأخرى مسطحة.
2ـ محكي ذو تبئير داخلي متنوع:
         حيث يتبأر السرد على شخصيةٍ لينتقل بعدها إلى شخصيةٍ أخرى قبل أن يعود إلى التركيز على الشخصية الأولى من جديد.
3ـ محكي ذو تبئير داخلي متعدد:
         كما في الروايات البوليسية وروايات المراسلة حيث يتم عرض الحدث مرات عديدة من وجهات نظر مختلفة.(113)
         أما إذا كان الراوي أقل معرفة من الشخصية، فإنه لا يمكنه أن يصف إلا ما يرى ويسمع، ولا يتجاوز ذلك إلى وصف وعي الشخصيات ويمثل لمثل هذا النوع بالمعادلة: الراوي  الشخصية، ويطلق عليه مصطلح الرؤية من الخارج، أو التبئير الخارجي، حيث يكون الراوي مجرد راصدٍ للحركة الخارجية، يقف محايداً،(114) ويكون أقل معرفة من الشـــــخصية، حيث نتابع حياة وسلوك الشخصيات خارجياً مع الراوي دون أن نتمكن من ولوج عالمها الداخلي، عالم العواطف والأفكار. وقد أضاف تودوروف نوعاً رابعاً من الرؤية هو" الرؤية المجسمة "، حيث يروى الحدث من عدة شخصيات مما يمكن القارئ من تكوين صورة متكاملة وشاملة عن الحدث .(115)
وظائف الراوي :
         للراوي وظائف أساسية وأخرى ثانوية، فمن وظائفه الأساسية: عرض الأحداث من نقطةٍ معينة، فهو محركها، ومحرك الشخصية التي تسهم في تحريك الحدث وإبرازه، أما وظائفه الثانوية فتتمثل في وظيفة السرد، فهو يروي أحداثاً، ويركب خطابات يضمنها رؤيته الفنية والأيديولوجية، ووظيفة التنسيق، حيث يلجأ الراوي إلى تنظيم الخطاب داخلياً عن طريق الربط والتذكير بالأحداث، وخلق إشراقات مثيرة للدهشة مع التنويع في الربط، وهناك أيضاً وظيفة الإبلاغ  والتواصل التي يتوخى منها الراوي إبلاغ خطابٍ ما للمتلقي ، فالرواية  محصلة أشياء متراكبة عدة ، تفصح عن أشياء غير مقولة ، أو تتحدث عما همشه العقل ونفاه المنطق، ومن الوظائف كذلك الوظيفة الانتباهية حيث يفترض الراوي قارئاً متخيلاً يوجه إليه الخطاب، وهناك وظيفة الاستشهاد التي يشير فيها الراوي  إلى المصادر التي استمد منها معلوماته، و يعمد إلى الحلم والاستيهام كمراجع مرفودة بمصادر أخرى . (116 )
         والراوي  الفانتاستيكي (الخيالي) يجب أن يكون جديراً بالثقة، وقادراً على معالجة الخطاب حتى يسوغ الحكاية ويقنع المتلقي بالتخييل، وكثافته المفرزة لأحداث الحكاية التي تولد فيه الحياة والاندهاش.(117)
2-المروي عليه:
         يشكل الراوي والمروي عليه وجودين يستقران داخل النص، فهما شخصيتان يجب أن نتناولهما بحذر حتى لا يختلطا مع غيرهما،" فنحن لا نخلط بين الكاتب الفعلي والراوي، وعلينا ألا نخلط بين المروي عليه والقارئ الضمني أو أي قارئ آخر."(118) فالمروي عليه هو شخص يوجه إليه الراوي خطابه،وهو خلق متخيل كالراوي تماماً،يستعين بهما الكاتب في تحقيق وضعية سردية ما.
         ولم يلتفت النقاد إلى قضية المروي عليه، مما أدى إلى اختلاط مفهومه بمفاهيم قريبــــة من مفهوم المتلقي والقارئ، ومن الملموس والواضح أنه لا توجد شــــخصية واضحة يمكن أن نشير إليها على أنها المروي عليه، فيتنوع المروي عليهم من عمل أدبي إلى آخر، فمنهم الخاضع ومنهم المتمرد، الرائع أو المثير للسخرية، الجاهل بالأحداث أو الذي يعلم بها سلفاً، وقد عالج الروائيون الاختلافات بين المروي عليه والمتلقي، وبين المروي عليه والقارئ، كل بطريقته الخاصة.(119) فلا يمكن للمروي عليه أن يتطابق مع القارئ تلقائياً، ولذلك فإن من واجب قارئ الرواية ألا يخلط بينه وبين المروي عليه، فأحدهما حقيقي والآخر متخيل، لأنه من صنع بنات أفكار الكاتب، فالكاتب ـ وهو يدرك أنه يكتب لشخص غير نفسه ـ يوجه حكايته إلى نمط من القراء الذين يمنحهم صفات معينة، وملكات ورغبات حسب رأيه في الناس، والمسئولية التي يراها.
         وقد يتشابه القارئ مع المروي عليه، ولكن ذلك التشابه يأتي على سبيل الاستثناء، والمروي عليهم يتغيرون كما يتغير الرواة، ويملكون شخصيات غنية، لكي يستوعبوا الميول والمشاعر المختلفة. وفي الأعمال الروائية قد لا يبدو أن السرد موجه إلى شخصٍ محدد، حيث لا تلعب شخصية ما دور المروي عليه، ولا يذكر أي مروي عليه، وقد يكون المروي عليه راوياً في نفس الوقت، ففي بعض الروايات قد تكتب شخصية ما خطاباً تروي فيه قصة كانت قد سمعتها من صديق لها .
         والمروي عليه قد يكون قارئاً عندما يكون السرد مكتوباً، وقد يكون مستمعاً إذا كان السرد شفوياً. والمروي عليه الذي يشارك في صنع الأحداث هو أكثر التصاقا بالشخصيات من المروي عليه الذي لم يسمع عنها، ولكن يجب المحافظة على المسافة بين المروي عليه وبين القارئ. فالمروي عليه يؤسس وساطةً ما ، بين الراوي والقارئ، ويساعد في إقامة إطار السرد، ويفيد في تشخيص الراوي، ويسهم في تطور الحبكة، ويؤكد على موضوعات بعينها، بحيث يصبح هو المتحدث باسم الجانب الأخلاقي من العمل.(120)
         ولكي نحدد المروي عليه يجب علينا أن نذكر فقرات السرد كلها التي يشير فيها الراوي إلى المروي عليه مباشرةً، مما يساعد على تكوين صورة المروي عليه وإعادة بنائها، وعلينا أن نحتفظ بكل الفقرات التي يوجه فيها الكلام بضمير المخاطب، مع ملاحظة أنه توجد فقرات تشتمل على المروي عليه وتصفه مع أنها ليست مكتوبة بصيغة ضمير المخاطب صراحة. والحقيقة أنه توجد فقرات كثيرة في السرد تصف المروي عليه بتفاصيل متفاوتة، رغم عدم احتواء هذه الفقرات على إشـارة إلى المروي عليه، ولكن قد يوجد في السرد أسئلة لا تنطلق من الشخصية، أو من الراوي، ولذلك ننسبها إلى المروي عليه .(121 )
علامات المروي عليه من الدرجة الصفر:
         يتصف المروي عليه من الدرجة الصفر بعدة صفات أو علامات يمكن تمييزه بواسطتها بسهولة، ويمكن تحديد هذه السمات فيما يلي:
1ـ المروي عليه يعرف لغة الراوي ولسانه، وبالتالي فهو يعرف المعاني والدلالات التي يرمي إليها الراوي.
2ـ المروي عليه يمتلك القدرة على الاستنتاج، لأنه يعرف النحو السردي، والقواعد التي يتم بها إحكام أي حكاية، وهو يدرك أن للسرد بعداً زمنياً، وهو يمتلك ذاكرة قوية فيما يتصل بالأحداث والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها.
3ـ المروي عليه لا يعرف أيّ شيءٍ عن الشخصيات أو الأحداث المذكورة.
4ـ المروي عليه لا يفتقر إلى السمات الإيجابية ، ولكنه يفتقر إلى السمات السلبية.
5ـ المروي عليه لا يقدر على التأويل دون مساعدة الراوي.
6ـ المروي عليه لا يعرف أي نصوص .
7ـ المروي عليه لا ينظم السرد بوصفه توظيفاً للشفرات الرئيسية للقراءة .(122)
         وبما أنه من غير الممكن أن يوجد سرد دون مروي عليه، فإن الراوي والمروي عليه يكملان بعضهما البعض، فالمروي عليه هو" هيئة تلفظية تنبعث مع السارد وتلازمه ملازمة الظل لصاحبه، لا تفارقه ما دام حديث الأنا هو في العمق خطاب للأنت."(123) ولما كان الكلام أي كلام هو خطاب فإنه يستوجب مخاطباً، وهذا يؤكد  أن كل سرد لا يحتاج إلى راوٍ فقط ، وإنما يحتاج إلى مروي عليه، فالخطاب أي خطاب يتكون من ثلاثة عناصر هي: الراوي أو المرسل، والمروي عليه أو المرسل إليه، والمتن الحكائي أو الرسالة، والذي هو مادة خام في يد الراوي يمكن أن تصاغ بطرقٍ متعددة من أشكال التعبير وفقاً لرغبات الراوي ومشيئته، بحيث تتمشى مع الإستراتيجية التي يتبناها تجاه المروي عليه.(124)

مواضيع ذات صلة 


المبدعة

شخصية البطل

الرواية الفلسطينية

مفهوم الشخصية الروائية

بناء الشخصية في الرواية

انواع الشخصيات في الرواية

اسماء روايات فلسطينية

طرق تقديم الشخصية الروائية

تحميل كتاب سيميولوجية الشخصيات الروائية

أنواع الشخصية: في الرواية

بناء الشخصية في الرواية

الشخصية الروائية عند فيليب هامون

طرق تقديم الشخصية الروائية

بناء الشخصيات في الرواية

الشخصية الروائية

مفهوم الشخصية الروائية

وصف الشخصيات في الرواية

دور الشخصيات في الرواية في واحد افقي


Previous Post Next Post