الحياةُ الاجتماعية في العَصْر الجاهليّ
الحياة الاجتماعية

القبيلة وَحْدة الحياة في المجتمع الجاهلي :
يمكن عَزْوُ الأسباب التي دعت إلى تكوين القبيلة، وإلى أن تكون الوحدة الاجتماعية في ذلك العصر إلى اضطراب الحياة ، وعدم استقرارها ، وإلى عدم قيام حكومة تحفظ للناس أرواحهم([1])، وإلى قسوة الحياة في تلك الصحراء المترامية الأطراف. فقد كان النظام القبلي في شبه الجزيرة العربية ضرورة اجتماعية، فرضتها ظروف البيئة بما فيها من جفاف، وجدب، وشظف عيش، وصراع دائم حول موارد الكلأ والماء ، من أجل حفظ الحياة والبقاء. فلا مقام للفرد مستقلاً، ولا غنى للقبيلة عن أي فرد من أفرادها، إنّهم جميعاً متضامنون، متكافلون، يذوب الواحد في الجماعة، وتتوحد الجماعة في الفرد. وكانت القبيلة أشبه بدولة مصغرة([2])، هي دولة الأعرابي ، وموئله في تلك الصحراء.

تشكيل القبيلة :
كان على أبناء القبيلة أن يخضعوا لواحد منهم، يرشحونه للرياسة عليهم، تكون مهمته الأصلية الإبقاء على وحدتهم، ويُعرفُ بـِ " سيد"([3]) أو " رئيس"([4])، أو " شيخ" ([5])، أو " أمير" ([6]) . وكان الرئيس يتميز من باقي أفراد القبيلة بعمامة ذات لون أصفر([7])، وكانت خيمته حمراء، لتعرف بسهولة، كما يشعل حولها ناراً، أو توضع في أعلى مكان ليراها من يريدها، أو تربط بجوارها الكلاب مخافة أن يأتيه ضيف فلا يعرف مكانه([8]).
وله منطقة خاصة ترعى فيها إبلُهُ تُسمى "الحمى" ([9]) . وله أنصبة خاصة في توزيع الغنائم والأسلاب، ذكرها أحد الشعراء مخاطباً بِسطامَ بنَ قيسٍ، زعيم بني شيْبان([10]) :
لك المرباعُ منها والصفايا   وحُكْمُك والنشيطةُ والفضولُ

وكان للقبيلة بجانب الرئيس مجلسٌ يُسمّى مجلسَ القبيلة، يعاون الرئيسَ في إدارة شؤونها، ويُختار أعضاؤه من الرّجال الذين عرفوا برجاحة العقل، وإلى هذا المجلس تعود مناقشة جميع القضايا التي تهم القبيلة ([11])، وليست صلاحياته مطلقة ،بل أن أوامره تستمد قوتها من مداولات المجلس([12])، ويتحاشى هذا الرئيس أن يقيم نفوذه على القهر، وكل نزعة إلى الحكم الاستبدادي تلاقي  مصير كُلَيْبٍ الذي صرعه بنو بكر .

شروط السيادة :
ويجب أن يتحلى رئيس القبيلة بصفات تؤهّله لقيادة القبيلة في سلمها وحربها، ومن هذه الصفات ([13]): الحلْمُ ، والشجاعةُ ، والمقدرةُ الحربيةُ ، والكرمُ، ورجاحة العقل،والتواضعُ، والصبرُ… وقد سُئل قيسُ بنُ عاصم ([14]): كيف وصلت إلى حكم قبيلتك؟ فأجاب: بإذاعة المعروف، وإغاثة الملهوف، وفضّ المنازعات، ثم أضاف قائـلاً: ويبـلغ الرجل المكان المرموق بالذكاء، والعفة، والأدب، والمعرفة.
وقد حدّد عامر بن الطُّفَيْل بعض شروط السيادة ، فقال: ([15])
   أنـي وإنْ كنتُ ابنَ سيّد عامر   وفي السرّ منها والصّريح  المهذّبِ

    فما  سوّدتني عامرٌ عن وراثةٍ           أبـى اللهُ أن أسمـو بـأم ولا أبِ
   ولكنّنـي أحمي حماهـا وأتقي          أذاهـا وأرمي  من رماها بمنكبِ

ولا شكّ أن انتقال السيادة بطريق الوراثة كان من المبادئ المعترف بها في المجتمع القبلي ، ومصداقُ ذلك قولُ بشامةَ بنِ الغدير:
وجدتُ أبي فيهم وجدّي كليْهما              يُطاعُ ويُؤتى أمرُه وهو محتبي

فلـم أتعمـلْ للسيـادة ِ فيهم             ولكـنْ أتتني طائعاً غير متعبِ
واجبات سيد القبيلة :
وكانت على سيد القبيلة واجبات كثيرة ، تتمثل في قيادته لها في الحروب، واستقبال وفود القبائل ، وعقد الصلح، وعقد المحالفات، ونجدة المستغيث، وحفظ الجوار، وتحمل اكبر قسط من جرائر القبيلة ودياتها.
وقد ذكر معاوية بن مالك هذه الواجبات ، حين قال ([16]):
نعطي العشيرةَ حقّها وحقيقها              فيها ونغفر ذنبها ونسودُ

وإذا تحملُنـا العشيرةُ ثقْلهـا              قُمْنـا به واذا تعودُ نعودُ


وصور لقيطُ بنُ يعمرَ الاياديُّ أهمّ هذه الواجبات ، فقال ([17]):
وقلّدوا أمركـم لله درّكـمُ     رحبَ الذّراعِ بأمرِ الحرب مضطلعا


طبقات القبيلة :
 والناظر في تكوين القبيلة الاجتماعي يستطيع أن يميز ثلاث طبقات اجتماعية ([18])، هي : الصرحاء ، والعبيد ، والموالي.
أما الصُّرحاء فهم أبناؤها، ذوو الدم النقي الذي لا تشوبه شائبة، الذين ينتمون جميعاً إلى أب واحد ، والذين تتمثل فيهم العصبية القبلية بأقوى معانيها ، ومنهم تتكون الطبقة الأرستقراطية في القبيلة، ومنهم رياستها،وبيوتات الشرف فيها. 
وأما طبقة العبيد فقد كانت تتألف من عنصرين : عنصر عربي، وهم أولئك الأسرى الذين كانوا يقعون في أيدي القبيلة في حروبها مع القبائل الأخرى، وعنصر غير عربي ، وهم أولئك الرقيق الذين كانوا يُجلبون من البلاد المجاورة للجزيرة العربية.
وأما الطبقة الثالثة في المجتمع القبلي ، وهي طبقة الموالي ، فقد كانت تتألف من العتقاء، ومن العرب الأحرار، الذين لجأوا إلى القبيلة من قبائل أخرى، وعاشوا في حمايتها.
العصبية القبلية :
ويعرفها فيليب حتيّ بأنها " روح العشيرة " ومن شروطها على الفرد الوفاءُ الذي لا حدّ له لإخوانه من أبناء العشيرة بشكل يقابل ما نعهده من النزعة الوطنية المتطرفة في النظام السياسي الحديث "([19]).
وعرّفها د. شوقي ضيف بأنها" الرباط الذي يوثق الصّلة بين أفراد القبيلة"([20]). وتقتضي العصبية القبلية أن يكون أفراد القبيلة جميعاً متضامنين فيما يجنيه أحدهم، أو كما يقول المثل العربي " في الجريرة تشترك العشيرة"([21])، وكان شعارهم الفرد في سبيل القبيلة، والقبيلة في سبيل الفرد، وقد عبر عن هذه العلاقة قريط بن أنيف، شاعر الحماسة ، فقال:([22])
لا يسألـون أخـاهم حين يندبهم   في النائبات على ما قال بُرهانا

وقال ودّاكُ بنُ ثُميْل المازني:([23])
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهُمُ   لأيـّةِ حـَرْبٍ أم بـأيّ مكانِ     


الخلع :
وكان شائعاً أن تخلع القبائل بعض أفرادها، وذلك إذا وجدتْ أنهم غير جديرين بالانتساب إليها …. ولا تسلك هذا السلوك إلا إذا اضطرت إليه اضطراراً، ورأت إنها لم تعد قادرة على تحمل المسؤولية تجاه الفرد الخليع، وخاصة إذا كانت جرائرة كبيرة، وتخشى أن تخوض بسببها معارك مع قبائل أخرى، لا طاقة لها بها.
وكانت صورة الخلع تتم بأن تعلن القبيلة ذلك على رؤوس الأشهاد، وتنادي بخلعه في المواسم، وقد يكتبون كتاباً يحفظونه عندهم، أو يعلقونه في مكان عام، ليقف عليه الناس. أمّا ما يقال عند الخلع فقد ورد انهم كانوا يقولون:" إنا خلعنا فلاناً فلا نأخذ أحداً بجناية تجنى عليه ، ولا نؤاخذ بجناياته التي يجنيها".([24])
وقد عرض د. يوسف خليف للأسباب التي كانت تدفع القبائل العربية ، عصرئذ، لخلع بعض ابنائها ، وهي: ([25])
1-             أن يقتل أحد أفراد القبيلة فرداً منها، وهنا تجد القبيلة نفسها في موقف حرج، فالقاتل والمقتول من أبنائها، ولكل منهما حق الحماية والنصرة، وكان سادة القبيلة يقومون بدور الوسيط بين الفريقين، حتى لا يؤدي الأمر إلى انقسام القبيلة على نفسها، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء أمر المقتول، ويسألونهم العفو، وقبول الدية، فان أصروا على الثأر فكانت المشكلة تحل على أحد وجهين : أما أن يقتل القائل بأيدي قومه، وأما أن تخلعه قبيلته.
2-             وقد يحدث أن تتعدد جرائر أحد أفراد القبيلة ، حتى تجد نفسها عاجزة عن نصرته  فتضطر إلى التخلص من هذا الفرد، مفضلة أن تضحي بفرد واحد على أن تضحي بجماعة من أفرادها، مُلْقيةً عليه تبعات جرائمه، يتحملها هو وحده.
3-             وقد يحدث أن يسوء سلوك أحد أفراد القبيلة من الناحية الخلقية ، حتى يصبح وجوده بها وصمة في جنبيها، فترى أنها أمام عضو فاسد لا يرجى إصلاحه، فتتبرأ من نسبته إليها، حرصاً على سمعتها، وتخلعه.

الإجارة :
وقد يسعى الخليع أحياناً للالتجاء إلى قبيلة أخرى طلباً لحماتها ، أو العيش في جوارها ، وكان بعض العرب يجيرون هؤلاء الخلعاءَ، ويفخر بإجارته لهم، لان ذلك دليل على شرفه ونبله ، فضلاً عن شجاعته وقوته، لما تتطلبه تلك الإجارة من حصانة وحماية تجاه أقوام ، قد يكونون ذوي قوة وعدد ، يطالبون بالخليع لجرائره فيهم ،وجناياته عليهم، وبلغ ببعض الأشراف الأمر أن يجعل منزلاً خاصاً ، ينزل به أولئك الخلعاءُ ، فيضحون في جواره وحمايته، كما كان شأن الزبير بن عبد المطلب ، الذي كان له بمكة مكانٌ خاصٌّ ينزل فيه الخلعاء.([26])
وقد ظهر من الخلعاء شعراءُ عبّروا عن صدق مشاعرهم وعظيم امتنانهم تجاه مَنْ أجاروهم، بعد طَرْد قبائلهم لهم. وكان من ابرز هؤلاء قيسُ بن الحُدّادية الذي تبرأ منه قومُهُ بنو خزاعة، وأشهروا خلعه بسوق عكاظ ، فلجأ إلى جوار بني عدي بن عمرو، فآووه، وأحسنوا إليه ، وقال يمدحهم ،واصفاً مروءتهم ، وشجاعتهم ، ومقامهم لديه ، مقام الأهل والأقرباء ([27]):
جزى الله خيراً عن خليع مطرد           رجالاً حموْه آل عمرو بن خالد
فليس كمن  يغزو الصديقَ بنوكِهِ          وهمته في الغزو كسب المزاود
وقد حدبـت عمرو علي بعزها           وأبنائهـا فـي كل أروع ماجد
مصاليتُ يوم الرّوع كسبُهُمُ العلا          عظام مقيل الهام شعر السواعد
أولئك إخواني  وجل عشيرتـي           وثروتهم والنصر غير المحارد

أما إذا استمر الخليع بارتكاب الجنايات في جوار القوم الذين التجأ إليهم، فانهم عندئذ يخلعونه هم أيضا ، ويرفعون عنه حمايتهم . ويعلنون ذلك على الملأ، ومصداق ذلك البراض بن رافع الكناني، كان قد خلعه قومه ونبذوه، فالتجأ إلى جوار بني سهم،" فعدا على رجل من هذيل فقتله. فجاء بنو هذيل إلى بني سهم يطلبونه بدم صاحبهم، فقال بنو سهم: قد خلعناه وتبرأنا من جرائره. فقالت هذيل : من يعرف هذا ؟ قال العاص بن وائل : أنا خلعته كما يخلع الكلب، فسكت الهذليون([28]).
أما موقف الشاعر من قبيلته بعد خلعها له ، فانه كان موقف الناقم الذي يتحين فرصة ينقضّ فيها للثأر منها، والانتقام لما لحقه من ضيم وإهانة.
وقلّ أن نجد من الشعراء الخلعاء مَنْ كان يبقى محباً لقومه ، ميالاً إليهم، على الرغم من طردهم له، كما هو الشأن لدى السليك بن السلكة، الذي كان يتجنب الإغارة على قبيلته، بل كان في بعض الأحيان ، يحذرها من إغارة الأعداء عليها([29]).
مليات بحث متعلقة بـ الحياةُ الاجتماعية في العَصْر الجاهليّ
الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي
الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي
الحياة السياسية في العصر الجاهلي
الاقتصاد في العصر الجاهلي
الحياة في العصر الجاهلي
حياة العرب قبل الاسلام من الناحية الدينية والاجتماعية
الحياة الدينية عند العرب قبل الاسلام
المعتقدات الدينية في العصر الجاهلي
الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية
مظاهر الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي
قضية الانتحال في الشعر الجاهلي
بحث عن الشعر الجاهلي مع المراجع
الصعاليك في العصر الجاهلي
بحث عن العصر الجاهلي
الشعر في العصر الجاهلي
الادب في العصر الجاهلي


[1]- أحمد الشايب : النقائض ، 37.
[2]- فيليب حتّي : تاريخ العرب مطول 1/28
[3]- انظر : اذا سيد منا خلا قام سيد " النوري: نهاية الارب  3/202
[4]-  ابن هشام : السيرة النبوية 1/117
[5]-  ابن خلدون : المقدمة ، 101
[6]-  ابن الأثير : الكامل في التاريخ 2/221. وديوان قيس بن الخطم ، ص94 ، 102 .
[7]- ابن الاثير : الكامل في التاريخ 1/121
[8]- د. عبد المنعم  ماجد:  التاريخ السياسي للدولة العربية 1/49.
[9]- الطبري : تاريخ  الطبري 3/92 .
[10]-  الاصمعيات : ق8، ص37 .
[11]- بلاشير: تاريخ الأدب العربي ، ص35.
[12]- انظر : إحسان النص: العصبية القبلية ، ص71-75
[13]- الآلوسي: بلوغ الارب، 2/187
[14]- الأغاني : 14/76

[15] - ديوانه : ص 28 .
[16]- المفضليات : مفضلية رقم 104، ص 355.
[17]- مختارات  ابن الشجري ص1
[18]- د. يوسف خليف:  الشعراء الصعاليك ص 103 وما بعدها .
[19]- فيليب حتي : تاريخ العرب  مطول 1/35
[20]- شوفي ضيف : العصر الجاهلي 57
[21]- الميداني: مجمع الامثال 2/17
[22]- ابو تمام : الحماسة ، 1/9
[23]- المصدر نفسه 1/64
[24]- انظر : لسان العرب  وتاج العروس ، مادة خلع.
[25]- د. يوسف خليف: الشعراء الصعاليك، ص 91-92
1- ابن قتيبة : الشعر والشعراء ، تحقيق اخمد محمد شاكر،1/388
[27]- ابو الفرج الاصفهاني : الاغاني ، 14/135.
[28]- ابن حبيب : المحبر ، 195
[29] - البغدادي : خزانة الأدب 3/346


Previous Post Next Post