يمكن القول ان الأستشراق الألماني قد ساهم في توجيه البحث العلمي نحو عدد من الوظائف الملائمة له وفي مقدمتها الدراسات المقارنة والتخصصات النادرة التي ترتبط بالشرق، كما في اللغات السامية ولهجاتها المختلفة، وايضا في تقديم المعلومات الضرورية عن العالمين العربي والإسلامي والقيام بالدراسات الستراتيجية وتدريب الخبرات وتوزيع التخصصات في العلوم الطبيعية والأنسانية وغيرها، وتعميق الأتصال الحضاري عن طريق التفاهم والحوار وأمكانية بناء جسر حضاري للأنفتاح على روحانية الشرق وافاقه.
وعلى الرغم من الجوانب الأيجابية والمشرقة لموضوع الأستشراق والتي قدمت اضافات علمية قيمة له، فأنه سيبقى في جوهره قائما على  التمييز بين التفوق العلمي التقني للغرب والتأخر الأقتصادي والأجتماعي للشرق، وهو ما اسهم في عدم تصحيح الصورة المتبادلة بين الشرق والغرب والصورة المشوهة التي انطبعت في اذهان الغرب.

دوافع وأهداف الأستشراق بصورة عامة
كثيرا ما تلتقي الدوافع والأهداف في مسعى ممتد فالدوافع الحقيقية هي التي تحدد الهدف الذي يسعى اليه الساعون في مضامين شتى، وقد تلخصت دوافع الأستشراق بما يلي(9):
1-الدافع الديني الذي يعد من اهم الدوافع لا بل السبب الرئيسي لنشاته، وقد صاحبه طوال مراحل تاريخه ولم يستطع ان يتخلص منه، وكان يسير معه منذ البدآية في ثلاث اتجاهات متوازية تعمل جنبا الى جنب وتتمثل هذه الأتجاهات بما يلي:
-    محاربة الإسلام والبحث عن نقاط الضعف فيه وابرازها والزعم بأنه دين مأخوذ من النصرانية واليهودية، والأنتقاص من قيمته والحط من قدره.
-    حمآية النصارى من خطره بحجب حقائقه عنهم، واطلاعهم على مافيه من نقائض مزعومة، وتحذيرهم من خطر الأستسلام لهذا الدين.
-    التبشير وتنصير المسلمين.
 ويمكن القول ان الهدف الديني الذي لم يعد ظاهرا الأن في الكثير من الكتابات الأستشراقية قد اختفى تماما، الا اننا في الوقت نفسه نوضح انه ليس حكما عاما على جميع المستشرقين، فهناك فريقا من المستشرقين حاول جاهدا الألتزام بالحياد والموضوعية وانكر على الكثير من زملائه نزواتهم التي انحرفت بهم عن النزاهة العلمية. (10)
2-الدافع العلمي الذي ساهم في اقبال بعض المستشرقين الغربيين للأهتمام بدراسة العلوم العربية والإسلامية يدفعهم في ذلك المعرفة الخالصة لللشرق، ولاسيما التاريخ العربي الإسلامي للأطلاع على ثقافة هذه الأمة وحضارتها وقد اتخذوا من الأستشراق علما قائما بذاته وعانوا بسببه ما عانوا من متاعب، والبعض من الباحثين يفرق في اعمال المستشرقين بين جانبين:
الأول: جانب الأنجازات العلمية في الحقول العلمية البحتة من مخطوطات ووثائق ومعاجم وفهارس وتحقيق نصوص وغيرها.
الثاني: الجانب الآيدلوجي في طروحاتهم ومنهجهم البحثي عند تناول القضايا المتعلقة بالعقيدة أو القرآن الكريم والسنة النبوية ونظرتهم الى الدين منظومة الإسلام عموما، فهذه يمكن بسهولة تبيان جوانبها السلبية والتعسفية الواضحة والغامضة، فضلا عن ان المستشرق ينطلق من أرضية ثقافته الخاصة بأسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم ومن منطلقات الفكر الأوربي نفسه في مراحل تفوقه الى القرن العشرين، وهي مرحلة البرجوازية فالأمبريالية وهكذا يبدو التقييم يعتمد على الزاوية التي ينطلق منها المقيم لأعمال الأستشراق والمستشرقين(11).
 وهذه الناحية الإيجابية لايمكن نكرانها من خلال الجهود والأعمال القيمة التي قام بها المستشرقون حيث استخرجوها وبحثوها وتابعوها متابعة علمية منهجية قويمة، وهي جهود تستحق الأشادة بها علميا ومن هذه الجهود كراسي اللغات الشرقية والمخطوطات بشتى اللغات ودراسة التراث والتأليف فيه والمجموعات(12).
3-     الدافع الأستعماري والذي كان له الدور الكبير في تحديد طبيعة النظرة الأوربية الى الشرق وخصوصا بعد منتصف القرن التاسع عشر وقد استفاد الأستعمار من التراث الأستشراقي هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فقد كان للسيطرة الغربية على الشرق دورها في تعزيز مواقف الأستشراق وفي مضمونه وقد تمكن الأستعمار ان يجند طائفة من المستشرقين لخدمة اغراضه وتحقيق اهدافه في بلاد المسلمين وهكذا نشأت رابطة رسمية وثيقة بين الأستعمار والأستشراق انساق اليها عددا من المستشرقين من الذين ارتضوا ان يكون عملهم وسيلة لأذلال المسلمين واضعاف شأن الإسلام وقيمته، وفي ذلك يقول المستشرق الألماني"استيفان فيلد"(13) (... والأقبح من ذلك انه توجد جماعة يسمون انفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين، وهذا واقع مؤلم لابد من ان يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة).
نشأة الأستشراق الالماني
البدآيات والتكوين:
تعود بدآيات الأستشراق الألماني الى القرن الثاني عشر حين تمت ترجمة القرآن الكريم لأول مرة الى اللغة اللاتينية بتوجيه من بطرس المبجل "ريس ديركلوني"، وفي القرن التالي قام "رايموند لول" المولود بجزيرة مايورقة الأسبانية بتنفيذ قرارات كنسية بأنشاء مدارس لتعليم اللغة العربية، وقد عد البعض هذه الجهود وماشابهها بانها ليست استشراقا لأن مقاصدها لم تكن معرفية بل تبشيرية، وقد حاول كنسيون متنورين مابين القرنين الثاني عشر والرابع عشر تجاوز المرحلة الأسطورية في مكافحة الإسلام عن طريق الترجمة البدائية والمشوهة وهي كانت أدوات افعل من الكفاح العسكري والسياسي والثقافي بين الدينين والثقافتين(14).
ويمكن النظر الى هذا الأستشراق على انه عامل مهم ومؤثر في منحى التأثر والتأثير في العلاقة بين العرب والألمان، اذ تأثر اولا ثم آثر تاليا ولا يزال يتأثر ويؤثر رغم ما قد يقال انه قد اصبح شيئا من الماضي بفعل قلة الترجمات عن الألمانية، والتوجه الى الأستشراق الفرنسي في مجال الدراسات الجديدة عن كلاسيكيات الإسلام(15).
وهنالك وجهة نظر اخرى تذكر ان البدآيات الحقيقية لتأثر الألمان ثقافيا بالعرب يرجع الى الترجمة المباشرة لمعاني القرآن الكريم الى اللغة الألمانية والتي تمت سنة 1694 عندما اصدر قسيس من مدينة هامبورغ يدعى"هينكلمان" الطبعة الأولى فأيقظ بعمله هذا اهتمام الغرب بالإسلام والعرب وما قبل ذلك من اتصال بين الشرق والغرب، لاسيما في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، وكان طابع الأتصال هذا قد سيطرت عليه الحروب الصليبية والتي انطلقت من المانيا نفسها، وكان يخضع لرقابة شديدة من الكنيسة ولم تظهر ابحاث الأستشراق الحرة الا من خلال التغيرات الفكرية التي رافقت القرنين الخامس عشر والسادس عشر(16).
وفي هذا الصدد يمكن القول انه بوصول مخطوطات "بوستل"(17) الى أمير منطقة بفالز، تكون بدآيات الدراسات العربية في المانيا قد بلغت اولى محطاتها، وفي سنة 1569 م قدم "مانويل تريميلوس" وهو يهودي اعتنق الكاثوليكية وارتد عنها الى البروتستانتية بحثا في قواعد اللغة الكلدانية والسوريانية، كما قدم في السنة نفسها الترجمة السوريانية للعهد الجديد(الأنجيل) في صورة مطابقة للمخطوطات التي احضرها "بوستل" من الشرق والى جانبها الترجمة اللاتينية(18).
وخلال القرن السابع عشر كان الأهتمام بالعربية في المانيا اقل بكثير عما كان عليه في هولندا وايطاليا وفرنسا وانكلترا، واقتصر الأهتمام به على رجال اللاهوت في الغالب رغم ندرة ما توافر لديهم من مصادر وكان يتوجب على الراغبين بالخوض في هذا المجال شد الرحال الى الخارج كما فعل "يوخان إليشمان" الذي اقام في هولندا بوصفه طبيبا وقد عثر في مكتبة لايدن على مخطوط لابن مسكويه بترجمة عربية وهو عبارة عن صورة مجازية لحياة الانسان وضعها "سيبس" تلميذ سقراط، وقد كان نصها الأصلي اليوناني يشكل مادة محببة من مواد المطالعة المدرسية وكذلك الوصايا الذهبية الشعرية التي يزعم انها لفيثاغورس، وأيضا رجل اللاهوت "يوهان هانيريش هوتنجر" (1620-1667) من مدينة زيورخ السويسرية والذي درس في جامعة هايدلبرج ارتحل هو الأخر إلى مدينة لايدن الهولندية وبذل جهدا كبيرا من اجل تعلم الفهرسة العربية وتاريخ الأدب وقد تضمن كشافه فصلا طويلا عن المكتبة العربية (19).
وشهد القرن الثامن عشر في المانيا ظهور تيارين ثقافيين ومستقلين ومتواصلين في الوقت نفسه هما؛ تيار الرومانسية، وتيار التاريخانية الأكاديمية(20)، وهو تحول كبير في تاريخ الأستشراق الألماني على وجه الخصوص ظهور الرومانسية التي ولدت الميل المفعم الى كل ماهو غريب وعجيب، فظهرت العاصفة والجموح للتوصل الى معنى الأبداع والروعة والخيال السحري في هذا الفضاء الفكري الجديد ظهرت كتابات "هيردر" الفلسفية (1776-1841) عن الآداب الشرقية واسهامات العرب المسلمين في الفلسفة والعلوم التجريبية والثقافية اذ ذكر ((كان العرب اساتذة اوروبا))(21)، وكذلك كتب الشاعر الألماني الكبير "غوته" في العام 1774 قصيدته الرائعة (نشيد محمد) وكذلك الديوان العربي الشرقي الذي قال فيه: (من يعرف نفسه والاخر يعرف هنا ايضا ان الشرق والغرب لايمكن ان يفترقا))، ولاشك ان رؤية غوته للعلاقة بين الشرق والغرب تتناقض كليا مع رؤية الكاتب الأنكليزي "غبلنكز" المعادية في مقولته المعروفة ((الشرق والغرب لايمكن ان يلتقيا))(22) .
وعلى مشارف القرن التاسع عشر تبلورت المعالم الأولى للأستشراق الألماني بمعناه العلمي، اذ قام المستشرق الهولندي"توماس اربينوس" بنشر كتاب عن النحو العربي باللغة اللاتينية، ظل معتمدا حوالي قرنين حتى قيام الألماني "ميخائيليس" عام 1791 بترجمته الى اللغة الألمانية والفيلوجيا كما صار معروفا منذ حوالي قرن هي الركن الأول للتاريخانية الالمانية التي بلغت ذروة ازدهارها لدى المؤرخين الكبار امثال رانكه ومومسن اواسط القرن التاسع عشر، فاذا كانت الرومانطيقية قد اخرجت النظرة الى الشرق الإسلامي من دائرة الجدالات اللاهوتية فأن التاريخانية التي اعتبرت معرفة فقه اللغات السامية وغير السامية الأساس الموضوعي للمعرفة التاريخية لأمة من الأمم، هي السقف المباشر لعلم التاريخ الأوروبي الحديث، وللأستشراق الذي ناضل طويلا لكي يكون جزءا من ذلك التقليد التاريخي الإنساني(23)، ولكي لا نبقى في نطاق التأملات النظرية نبدأ هنا بإعطاء صورة عن الوقائع والمساعي المبكرة لتكوين هذا المجال الذي عرف في ما بعد بالأستشراق والطريف في هذا السياق ان الجذر الفيولوجي لعمل الشرق هذا ما بزغت غصونه في ألمانيا مهد التاريخية، بل في فرنسا على يد رجل واحد سعى اليه كل المستشرقين الألمان الأوائل في الربع الأول من القرن التاسع عشر وهو "سلفستر دي ساسى" (1758-1838) الذي تولى إدارة مدرسة اللغات الشرقية الحية في فرنسا والتي تأسست لمنافسة المؤسسات الجامعية البريطانية العريقة في عمليات الصراع على الشرق من خلال إنتاج خبراء بلغاته وشعوبه وتاريخه وجغرافيته، ولم يعتمد "دي ساسى" على كتاب النحو العربي للهولندي "اربيونوس" بل وضع مؤلفا جديدا بنفسه وبالفرنسية وليس اللاتينية بعنوان النحو العربي، ثم كتب كتابا مدرسيا بعنوان منتخبات من ادب العرب تضمن نصوصا ادبية وتاريخية استخرجها من مخطوطات المكتبة الوطنية بباريس وبقي كتاباه هذان معتمدان لحوالي نصف قرن حتى حلت محلها الكتب التي الفها تلامذته الألمان، وقصد باريس ودي ساسى لدراسة فقه اللغة والأدب العربي عنده كلا من فرايتاغ (1788-1861)، وفلايشر (1801-1888)، وغوستاف فيلغل (1802-1870)، فوضع فرايتاغ المعجم العربي اللاتيني الذي لاما زال مستخدما حتى اليوم، في حين قام "فليغل" بنشر طبعة من القرآن الكريم واخرى من صحيح البخارى، وكتاب الفهرست لأبن النديم وكتاب كشف الظنون لحاجي خليفه(24).
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتبطت نشاطات المستشرقين بالتطورات الأقتصادية والسياسية الجديدة عندما بدأت الرأسمالية تنمو نموا حثيثا وتحول نظام المنافسة الحرة الى نظام الأحتكار وتقسيم مناطق العالم الى مناطق نفوذ مباشرة وغير مباشرة، واستلزم هذا التوجه السيطرة على مصادر الطاقة والمواقع الستراتيجية مثلما استلزم الأمر التأثير في الثقافة عن طريق تطويعها وتوجيهها لأرتباطها بالتاريخ والدين والحضارة من اجل التحكم في بعض اتجاهاتها المستقبلية عن طريق مؤسسات البحث العلمي والتربوي وغيرها(25).
ومنذ مطلع القرن العشرين حدث تحول مهم في سياسية الدول الأستعمارية بعد امتداد النفوذ الأنكليزي والفرنسي والصراع على تقسيم الدولة العثمانية، فبدأت المانيا في محاولتها لمد نفوذها الى الشرق عن طريق انشاء سكة حديد برلين بغداد وتوسيع نشاطها التجاري في العالم العربي وذلك بتأسيس شركة هامبورغ للملاحة في منطقة الخليج العربي عام 1905 وبناء قاعدة تموين لها في جزيرة ابو موسى، وقد اثار هذا النشاط حفيظة انكلترا التي بدأت تقف ضد توسيع نفوذ المانيا وايقاف منافستها لها الأمر الذي دفع الأخيرة الى حصر نشاطها في العالم العربي في نطاق معرفي واستشراقي واكاديمي ضيق الأفق، ومع سقوط الدولة العثمانية وتأسيس الجامعة الإسلامية(26) وبزوغ الحركات الدينية والقومية ظهر عددا من المستشرقين الالمان المنفتحين على معالجة المشاكل المعاصرة في الشرق الأوسط، فمزجوا بين الأستشراق والدبلوماسية وكان من ابرزهم؛ماكس فون اوبنهايم، وكارل هافيرش وغيرهم(27).
اصيب الأستشراق الألماني بأنتكاسة كبيرة عند مجيء النازية الى الحكم فترك اغلب المستشرقين البلاد وذهب القسم الأكبر منهم الى الجامعات الأميركية، مما اعطى الدراسات العربية والإسلامية فيها دفعا قويا، وجاءت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ليشهد الأستشراق الألماني ركودا اخر وبعد انتهاء الحرب اخذ يستعيد نشاطه من جديد وهنا حدث شي جديد الا وهو تقسيم المانيا الى قسمين غربية وشرقية، فأصبح الأستشراق الألماني يركز على الدراسات السياسية والأقتصادية والأجتماعية والعقائدية وعلى مواضيع حديثة اخرى لم يكن قد عرفها سابقا وخلال ستينيات القرن الماضي تزايد عدد المستشرقين الذين ادركوا ضرورة الأنفتاح على موضوعات جديدة وبخاصة في جامعتي برلين وهامبورغ ولقد وصف"أوجين فيرث" حالة الأستشراق الالماني بقوله: ((يقتصر محراب المعبد على فيلوجيا اللغات السامية، وهي الوحيدة التي تحظى من المستشرقين بالبحث الجاد بينما ينشغل التاريخ والدين والقانون الإسلامي بالحجرات الخارجية للمكان المقدس وعلى عتبة ابواب المعبد يقف الأقتصاد والتاريخ الأجتماعي والجغرافي والحضارة المادية للشرق الأوسط الإسلامي))(28).
 وتعد جمعية المستشرقين الالمان من ابرز الجمعيات الأستشراقية في العالم، اسسها المستشرق "فلايشر"عام 1961 في مدينة هاله على غرار الجمعيتين الفرنسية والبريطانية وما زالت حتى يومنا هذا تواصل نشاطها في جمع شمل المستشرقين الالمان ودراسة التراث العربي الإسلامي ومعرفة كنوزه، وايضا تأسس المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت عام 1961 وهوتابع للجمعية الأستشراقية ويعد اول معهد يتم تأسيسه خارج ألمانيا وأول مدير للمعهد كان "هانس روبرت رويمر" وفيما بعد تعاقب على ادارته اخرين كان من بينهم مستشرقتين وهو يضم مكتبة ضخمة ويقوم بنشر سلسلة من الكتب تعرف بأسم نصوص ودراسات بيروتية، صدر العدد الأول منها عام 1964 وكانت دراسة عن اللهجة اللبنانية(29).
ويمكن القول انه بنهآية القرن العشرين طرأ تغير جذري على الدراسات العربية والإسلامية في المانيا آلا وهو التخصص وكثرة عدد الشبان والشابات الذين اخذوا يهتمون بهذا النوع من الدراسات، مما ااستوجب إنشاء جامعات جديدة إذ نشاهد اليوم في ألمانيا أكثر من 25 جامعة تعنى بالدراسات العربية والإسلامية وان هذه الجامعات اخذت تهتم فضلا عن المواضيع القديمة بالمواضيع الحديثة كدراسة اللهجات العربية المحكية والأدب العربي المعاصر من شعر ونثر، وبالقضايا السياسية والتيارات الفكرية والمجتمع العربي الإسلامي.



خصائص الأستشراق الألماني
يلاحظ المتتبع لحركة الأستشراق الألماني انه قد اختص بالمزايا التالية:
1-     لم يخضع لغآيات سياسية أو دينية كالأستشراق في البلدان الأوروبية الأخرى وذلك لأن المانيا لم يتح لها ان تستعمر البلاد العربية الإسلامية ولم تهتم بنشر الدين المسيحي في الشرق ولذلك لم تؤثر هذه الأهداف على دراساتهم وظلت محافظة على الأغلب على التجرد والروح العلمية حتى وان ظهر في بعض الدراسات نوعا من الأنحراف بالرأي الا ان هذا الأمر لا يمكن تعميمه على الدراسات كلها(30).
2-      لم تكن دراساتهم عن العرب والإسلام والحضارة الإسلامية تتصف بالعداء، وعلى الرغم من وجود بعض المستشرقين الذين جاءوا بأراء لا توافق العرب والمسلمين كبعض اراء "نولدكه" عن الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، واراء "فوللرز" عن القرآن وتهذيبه، لكنها كانت محدودة لان الأستشراق الألماني لم يعرف مستشرقين جعلوا دينهم عداء العرب والإسلام بل رافقت دراساتهم روح الأعجاب والتقدير ونجد هذه الروح عند"رايسكه" الذي سمى نفسه "شهيد الأدب العربي" والذي يعد واضع الأساس المتين لدراسة العربية في اوروبا، وكذلك "زيغريد هونكه" في كتابه (شمس الله تسطع على الغرب وغيرهم كثير، وتميز ايضا بطريقته العلمية ومنهجيته الرصينة التي تتميز بالعمق والأتفاق على الصيغة العلمية التقليدية قدر المستطاع، فهو استشراق معرفي فلسفي فيولوجي وفقهي (31).
لقد قدم الأستشراق الألماني للعرب والمسلمين خدمات ودراسات كثيرة منها(32):
-    نشر النصوص القديمة اذ ظهرت النصوص العربية القديمة محققة بعنآية منذ القرن الثامن عشر الميلادي، فكان "ريسكه" أول من نشر معلقة طرفة بن العبد بشرح ابن النحاس مع ترجمتها الى اللاتينية عام 1742، ثم ازدهر نشر النصوص في القرن التاسع عشر فنشرت مئات النصوص القديمة الأساسية في الشعر العربي القديم وفي اللغة والأدب والتاريخ والجغرافية، وان مجموع ما نشره الالمان وحدهم يفوق ما نشره المستشرقون الفرنسيون والأنكليز في تحقيق النصوص ومن حيث الدقة والعدد مما يعجز اي مجمع علمي عن نشره، ومن جملة ماحقق على سبيل المثال كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي والذي حققه "وستفلد"، ووفيات الأعيان لأبن خلكان، وطبقات الحفاظ للذهبي، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي.
-    فهرسة المخطوطات العربية الموجودة في مكتبات المانيا ومكتبات العالم، وكان "كريستمان" اول من وضع فهرسا لمخطوطات عربية اقتناها نبيل الماني سنة 1631، ولعل اعظم اثر ي هذا الميدان هو الفهرسة التي وضعها"اللورد" في عشر مجلدات ضخمة وصنف فيها ما يقرب من 10 الاف مخطوط.
-    الأهتمام بالمعاجم العربية فكان "يعقوب يوليوس1667" اول من وضع معجما عربيا لاتينيا، ثم وضع"فرايتاغ1861" معجما مثله وغيرهم، وكذلك اهتم الألمان بالدراسات في مختلف ميادين الثقافة الإسلامية فدرس الألمان اللغة وشعر القبائل والدراسات الأرشادية الشرقية وبعض الدراسات في فن العمارة الإسلامية.
جوانب من بعض جهود المستشرقين الألمان في الدراسات العربية

اسماء المستشرقين الالمان
1-     يوهان يعقوب ريسكه (1716-1774):
مستشرق الماني من الرعيل الأول وعالم باليونانيات، تعلم ريسكه اللغة العربية برغبة قوية عام 1713 في مدينة"ليستك" الألمانية عندما كان يدرس في جامعاتها وبدون عون من احد تمكن من ان يتقن النحو العربي وتابع بعد ذلك اهتماماته بالمخطوطات العربية، وعندما استوعب كل المطبوعات العربية، وعندما استوعب كل المطبوعات العربية اتجه الى البحث في المخطوطات فألتمس من "يوهان كريستوف" مصنف كتاب المكتبة العبرية ان يُعيرهُ مخطوط مقامات الحريري والذي كان ضمن مجموعة مخطوطاته، فارسله اليه وقام ريسكه في سنة 1737 بنشر المقامة السادسة والعشرين في نصها العربي مع ترجمة لاتينية، كما سافر ايضا الى هولندة بعد علمه ان مكتبة لايدن فيها غنية بالمخطوطات العربية ورغم ظروفه المادية الصعبة الا انه سافر وعمل مصححا في احدى المطابع مقابل السكن والمأكل، وفي الوقت ذاته عمل كمدرس للغة اللاتينية للطلاب الهولنديين في جامعة لايدن، وقد اطلع في عام 1738 على المخطوطات العربية فنسخ لنفسه قصائد جرير، ولامية العرب للشنفري، وديوان طهمان، وفي السنة التالية نسخ مخطوطة الحماسة للبحتري، ثم المعلقات وخاصة معلقة طرفة بن العبد(33).
وكذلك قام في سنة 1747 بترجمة مقدمة كتاب (تقويم التاريخ) لحاجي خليفه وهذا الكتاب مؤلف من مقدمة باللغة التركية عن التاريخ الإسلامي وسرد للسنوات منذ بدء الخليقة حتى عام 1085 ه، مع ذكر لأهم ما فيها من احداث وفي مقدمته يقدم ريسكه نظرة واسعة عن تاريخ الإسلام، وانه يرى ظهور النبي محمد (ص) وانتصار دينه حدثا مهما من احداث التاريخ لايستطيع العقل الأنساني ادراك مداها، ويرى ي ذلك برهانا على تدبير قوة الهية قديرة، ويرى ايضا في تولي الأمويين للخلافة والمحن التي توالت على انصار علي (عليه السلام) تدبيرا الهيا وهو يعتنق التشيع الوارد ي المصادر المتأخرة التي استند عليها، اذ يرى ان عليا بن ابي طالب هو الأحق بالخلافة بعد النبي مباشرة، وانه حرم حقه في الوراثة للخلافة طوال ما يقارب 24 سنة بسبب الموأمرات ضده، وان عليا هو احسن امير عرفه العالم الإسلامي وانه كان شجاعا عادلا لكنه اخفق لسوء حظه، وفي صراع علي مع معاوية يرى ريسكه نموذجا لأنتصار المكر على القوة، والشر على الحق(34).
2-     شاخت (1902-1969):
 مستشرق الماني متخصص في الفقه الإسلامي، درس الفيولوجيا الكلاسيكية، واللاهوت واللغات الشرقية في جامعتي بروسلا وليبستل، وهو يعد من مشاهير المستشرقين الذين اهتموا بالمخطوطات العربية الى جانب اهتمامه بالفقه الإسلامي وعلم الكلام وقد انقسم إنتاج شاخت الى الأبواب التالية(35):
1-                        دراسة المخطوطات العربية.
2-                        تحقيق النصوص المخطوطة في الفقه الإسلامي.
3-                        دراسات في علم الكلام.
4-                        مؤلفات ودراسات في الفقه الإسلامي.
كذلك فأن "شاخت" حقق في مجال تحقيق النصوص المخطوطة ما يلي(36):
1-                        كتاب الخصاف: "الحيل والمخارج".
2-                        ابو حاتم القزويني: "كتاب الحيل في الفقه".
3-                        كتاب: "اذكار الحقوق والرهون".
4-                        الصحاوي: "كتاب الشفعة".
5-                        الطبري: "كتاب اختلاف القهاء".
3-     كارل بروكلمان(1868-1956):
ولد كارل بروكلمان في السابع عشر من ايلول عام 1868م لعائلة ميسورة الحال من طبقة التجار في مدينة "روستوك"، وقد اعزيت ميوله العلمية لوالدته التي كانت خصبة الفكر وعرفته بكنوز الأدب الألماني، وظهرت موهبته في تعلم اللغات بسرعة في المدرسة الثانوية ومضى في عام 1888 الى ستراسبورغ للدراسة وتتلمذ على يد"نولدكه" ودرس ايضا اللغة السنسكريتية والأرمنية لدى عالم اللغات "هاينرش هوبشمان" وجذبته كذلك دراسة الحضارة المصرية القديمة، وفي شتاء عام 1889 وضع العالم "نولدكه" اختبارا لدراسة العلاقة بين كتابي(التأمل) لأبن الأثير، و(اخبار الرسل والملوك) للطبري فتمكن بروكلمان من اجتياز هذا الأختبار وان ينال درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1890، والى جانب ذلك واصل دراسته للعربية ونشر في عام 1891 وبدافع من "نولدكه" ايضا الترجمة الألمانية للجزء الأول من ديوان"لبيد" التي اتمها"انطوان هوبر" ثم اصدر الجزء الثاني من الديوان بالمتن والترجمة(37).
اشتهر بروكلمان بنشاطه الغزير الذي اتصف بالموضوعية في اغلبه والعمق والشمول والجدة مما جعله مرجعا مهما في التاريخ الإسلامي والأدب العربي، وله الكثير من المؤلفات والتراجم وتحقيق المخطوطات في المجال الأدبي، فعد كتابه الضخم (تاريخ الأدب العربي) بأجزائه الخمسة مرجعا لا غنى لأي باحث عنه، ومن مؤلفاته الأخرى ترجمة كتاب ابن المقفع في البيان والبلاغة، وكتاب عيون الأخبار لأبن قتيبة ي اربعة اجزاء، ومختصر تاريخ الآداب العربية، وقواعد اللغة العربية ل"سوسين" وتاريخ الآداب النصرانية في الشرق، وملاحظات شتى على تاريخ الآداب العربية واللغات المتشابهة في اللغات السامية، والجوهري، وترتيب الحرو الهجائية، واسماء التصغير والتكبير في اللغات السامية، وملاحظات شتى في اللغة الكنعانية وغيرها الكثير(38).
4-   فيدمن (1852- 1928):
يعد "فيدمن" من ابرز مؤرخي العلوم، ولد لأسرة مشهورة في العلم في آب من عام 1852 في برلين، فوالده جوستاف فيدمن العالم الفيزيائي واستاذ الفيزياء في جامعات(بازل) و(كارلسوه) في سويسرا، في حين كان جده لامه "ايلهرد مترلش" استاذ الكيمياء الأول في جامعة برلين، وقد اتجه فيدمن الى دراسة تاريخ العلوم في الإسلام منذ حصوله على دتوراه التأهيل للتدريس عام 1876 من جامعة ليستيك وتعلم اللغة العربية على يد المستشرق اللغوي "فلايشر" حتى اتقنها وجمعت مقالاته عن تاريخ العلوم عند العرب في مجلدين طُبعت بالأوفست في ولاية: هلدسم"(39)، وقد احتوى المجلد الأول على اسهامات العرب في تاريخ الكيمياء، والموازين عند العرب، ومستخلصات من دوائر المعارف العربية، وتعليق على على فصل بعنوان (القول في الهندسة من كتاب ارشاد القاصي للأنصاري)، وفصول في العلوم الطبيعية عند ابن سينا، والكتب العربية المؤلفة عن الميكانيكا، وصناعة الألات عند العرب وترجمة ودراسة الفصل الخامس بعلم الحيل في كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي، وبعض التراجم البيهقي، ورسالة الكندي في الفلك، والصلب والحديد عند الشعوب الإسلامية، في حين ضم المجلد الثاني على مقالات وابحاث تناولت نظرية قوس قزح عند ابن الهيثم ورسالة الحسن بن الهيثم عن شكل الكسوف في تاريخ المسكر، وطب الأسنان عند المسلمين، والدارونيات عند الجاحظ وغيرها من المقالات قارب عددها على 80 مقالة وبحث(40).


قائمة المصادر
أولاً: الكتب والمراجع
1-     محمود حمدي زقزوق، الأستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، قطر، 1983، ص18.
2-     الفكر العربي، “مجلة"، العدد 31، 1983، ص59-60.
3-     المصدر نفسه، العدد32، 1983، ص145.
4-     نايف بن ثنيان بن محمد ال سعود، المستشرقون وتوجيه السياسة التعليمية في العالم العربي، الرياض، 1414ه، ص17.
5-     برنارد لويس، الإسلام والغرب، بيروت، 1994، ص41.
6-     السيد احمد فرج، الأستشراق: الذرائع والنشأة والمحتوى، الرياض، 1992، ص18.
7-     محمود المقداد، تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، سلسلة عالم المعرفة، العدد167، الكويت، 1992، ص26.
8-     علي بن ابراهيم النملة، الأستشراق في الأدبيات العربية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1992، ص18.
9-     محمود حمدي زقزوق، المصدر السابق، ص71-72.
10-        المصدر نفسه، ص73.
11-        عبدالله علي العليان، الأستشراق بين الأنصاف والأجحاف، بيروت، 2003، ص28-30.
12-        المصدر نفسه، ص30.
13-        محسن الموسوي، الأستشراق في الفكر العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص 27-30؛ محمود حمدي زقزوق، المصدر السابق، 43-44.
14-        الشرق الأوسط، "جريدة"، العدد 9458 في 20 تشرين الأول2004.
15-        رضوان السيد، تأثيرات المستشرقين الألمان في البحوث الأكاديمية العربية، مجلة التسامح، العدد الثامن في 2004، ص254-252.
16-        مصطفى ماهر، حوار بين الألمان والعرب، الأسبوع الثقافي العربي في تونس لعام 1974، الهيئة المصرية للكتاب، 1976، ص306.
17-        ولد وليم بوستل في وسط متواضع عام 1510 وانكب على دراسة باريس اللغتين اليونانية والعبرية بجدية، وتعلم ايضا اللغة الأيطالية والأسبانية والبرتغالية، وقد لفتت موهبته هذه على تعلم اللغات انتباه اساتذته وبتوجيه من الأخت"مارغريت فونا نارا" العرابة الروحية للملك فرانسوا الأول اذن له بدخول البلاط وارسله الى الشرق، وللمزيد ينظر: يوهان فوك، تاريخ حركة الأستشراق والدراسات العربية الإسلامية في اوروبا حتى بدآية القرن العشرين، تعريب: عمر لطفي، ط1، دمشق، 1996، ص47.
18-        يوهان فوك، المصدر نفسه، 45.
19-        المصدر نفسه، ص95-96.
20-        رضوان السيد، المصدر السابق، ص25.
21-        إبراهيم الحيدري، صورة الشرق ي عيون الغرب، بيروت، 1996، ص27-29.
22-        المصدر نسه، ص30.
23-        رضوان السيد، مجلة ، العدد، 9458 في 2004.
24-        المصدر نفسه.
25-        ابراهيم الحيدري، المصدر السابق، ص70.
26-        الجامعة الإسلامية وهي الجامعة التي حاول عددا من المفكرين في اواخر القرن التاسع عشر تاسيسها للنهوض بالدولة العثمانية من جديد والتي وصلت الى مرحلة متقدمة من الضعف والأنحلال، للمزيد ينظر: احمد فهد الشوابكة، حركة الجامعة الإسلامية، عمان، 1984، ص56-59.
27-        ابراهيم الحيدري، المصدر السابق، ص73.
28-        المصدر نفسه، ص90.
29-        المصدر نفسه، ص91-92.
30-        صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان: تراجمهم وما اسهموا به في الدراسات العربية، بيروت، 1978، ص7-8.
31-        بابر يهنس واخرون، تأملات في تقاليد الأستشراق الفرنسي والألماني، ترجمة: محمد صبح وعدنان حسن، بيروت، 2004، ص93-97؛ النور، "مجلة"، العدد 180.
32-        صلاح الدين هاشم واخرون، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، ج1، المنظمة العربية للتربية والعلوم، الرياض، 1985، ص78-79؛ صلاح الدين المنجد، المصدر السابق، ص9-11.
33-        عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت، 1984، ص203-206.
34-        صلاح الدين المنجد، المصدر السابق، ص 51-52.
35-        صدقي حسن ابو طالب، تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد العربية، بيروت، 1986، ص245-265.
36-        المصدر نفسه، ص265.
37-        صلاح الدين المنجد، المصدر السابق، ص155-156.
38-        نجيب العقيقي، المستشرقون ومناهجهم، ج2، دار المعارف، القاهرة، ص424-430.
39-        عبد الرحمن بدوي، المصدر السابق، 296-297.
40-        المصدر نفسه، ص297-300.
ثانيا: الصحف والمجلات
1-     صحيفة الشرق الأوسط، العدد 9458 في 20/10/2004.
2-     مجلة الفكر العربي، العدد31، 32 لسنة 1983.
3-     مجلة التسامح، العدد 8 لسنة 2004.
4-     مجلة النور، العدد 180 لسنة 1998.


Previous Post Next Post