بحث كامل عن الحرية
الحريات العامة في المذهب الاشتراكي
بالرغم من أن التطورات التي عرفها العقد الأخير من القرن العشرين والتي تمثلت أبرزها في انهيار الاتحاد  السوفياتي السابق ومعه المعسكر الشرقي، فإننا يمكن القول مع ذلك، أن الماركسية لم تفقد قيمتها بعد كفلسفة تجعل من تحرير الإنسان من نير الاستغلال منطلقها وغايتها.[1] خاصة ونحن نشهد خلال هذه المرحلة مع صعود العولمة وهيمنتها هجوما شرسا على حقوق وحريات الأفراد والشعوب.
إن المذهبية الماركسية كما هو معلوم جاءت كرد فعل مضاد للنزعة الفردية التي أفرزت إبان ازدهارها في القرن الثامن عشر، عدة مظالم وتفاوتات اجتماعية، وتميزت هذه المذهبية ببناء فكري متماسك امتد نسيجه إلى الله، الكون، الحياة والإنسان، حتى صار من الصعوبة بمكان أن يتناول أي باحث أي جزئية من جزئياتها دون أن يتطرق إلى جزئياتها الأخرى، لأنها بمثابة سلسلة متصلة الحلقات، إذا اجتذبت إليك إحداها، جذبت إليها ما عداها. لذلك كان الاقتصار على دراسة إحدى هذه النواحي قصورا عن فهم هذا المذهب فهما سليما.[2]
بيد أنه إذا كان من الصعب علينا الإحاطة بهذه النظرية من زواياها وجوانبها المتعددة في هذا البحث فإننا سنقتصر على بيان الجوانب التي لها علاقة وطيدة بالحريات العامة، لهذا فإننا سنركز على أهم خصائص المذهب الماركسي (أ)، ثم على الحرية بين الفرد والدولة في إطار هذا المذهب (ب)
أ- خصائص المذهب الماركسي
تعرف الماركسية بأنها نظرية ماركس وإنجلز ولينين الثورية، التي تتضمن مذهبا فلسفيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا متكاملا ومتجانسا.[3]
وتتميز هذه النظرية بعدة خصائص، نوجزها كالتالي:
1- أنها مذهب علمي:
يتم النظر إلى المذهب الماركسي على أنه مذهب علمي، على أساس أنه يستند على أسس علمية تستمد كيانها من المنطق والتحليل العلمي للواقع الاجتماعي، إنه يعتبر أنصاره مذهب يكشف الطريق الذي يسير فيه المجتمع بحكم تطوره الطبيعي حسبما يبينه البحث والتحليل العلمي، وهذا على عكس الوضع بالنسبة للأفكار الاشتراكية التي سبقت وعاصرت "ماركس" التي خلت من منطق التحليل العلمي لاعتمادها على العاطفة ولإغراقها في الخيال والأوهام والأفكار المثالية والبحث النظري المجرد عن الواقع.[4]
وقد بدأت المعالم العلمية تتضح وترسم خطوطها بشكل جلي في كتابات "ماركس" و"إنجلز" كالبيان الشيوعي، ورأس المال، حيث ربط "ماركس" النظم الاجتماعية والسياسية القائمة في فترة زمنية معينة وأسلوب الإنتاج في الفترة ذاتها. وانتهى من ذلك إلى أن النظام الرأسمالي الذي جاء بديلا عن استعصاء التناقضات داخل النظام الإقطاعي، لا بد أن ينتهي به الأمر إلى الأفول والزوال نتيجة لما يعتمل في داخله من تناقضات تؤدي إلى انهياره والاستعاضة عنه بنظام الملكية الجماعية طبقا لقوانين التطور التاريخي العام.[5]
2- أنها مذهب اقتصادي
يقول "ماركس" في مقدمة كتابه "رأس المال" إن الهدف النهائي لهذا الكتاب هو أن يكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث أي المجتمع الرأسمالي، البرجوازي، فدراسة علاقات الإنتاج في هذا المجتمع المحدد تاريخيا، من حيث ولادة هذه العلاقات وتطورها وزوالها، ذلك هو مضمون مذهب ماركس الاقتصادي.[6] وقد أقام "ماركس" دراسة في هذا المجال على أساس نظريتي قيمة بضاعة ما، وقيمتها الزائدة. فحسب "ماركس" إن العمل في النظام الرأسمالي ليس إلا سلعة تباع وتشترى كغيرها من السلع وأن قيمة هذه السلعة التي هي العمل تتحدد وفقا للعمل اللازم لإنتاجها؛ والعمل اللازم لإنتاج هذه السلعة، التي هي العمل، هو ذلك القدر من العمل اللازم لإنتاج ضرورات الحياة للعامل ويعتبر هذا التخريج الفكري "لماركس" هو حجر الزاوية في نظرية فائض القيمة التي تمحورت حولها دراساته في الاقتصاد السياسي.[7]
3- أنها مذهب مادي
إذا كان "هيجل" قد اعتبر الفكرة هي الأصل، وأنها سابقة في وجودها على وجود المادة، وأن منظومة النظم الإنسانية ليست إلا ثمرة للفكرة المطلقة، فإن "ماركس" و"إنجلز" ذهبا إلى أن المادة هي الأصل، وأنها سابقة في وجودها على وجود الفكرة، وأن النظم الإنسانية، والوعي الإنساني ليست سوى انعكاس لهذه الأسبقية.[8] يقول "ماركس": "يرى هيغل أن حركة الفكر، هي حركة هذه الفكرة التي يشخصها ويطلق عليها اسم الفكرة المطلقة، ...أما أنا فإني أرى العكس إن حركة الفكرة ليست إلا انعكاسا لحركة المادة المنقولة إلى دماغ الإنسان ومتحولة فيه"[9]
وقد استقى "ماركس" هذا الجانب المادي من فلسفة "فيورباخ" التي تقول بأن القوة المحركة في التاريخ ليست قوة روحية، ولكنها مجموعة الظروف المادية التي تدفع الناس الذين يعيشون في فترة معينة إلى التفكير والتصرف على نحو ما يفكرون ويتصرفون. فالأفكار والإحساسات والنظم التي تتجلى فيها كالأخلاق والقانون والدين تتشكل وفق الظروف المادية وتتأثر بها مباشرة.[10]
فحسب التحليل "الماركسي" إن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد التفكير الاجتماعي، وبعبارة أخرى، إن الوضع المادي والاقتصادي هو الذي يكيف شكل الحياة البشرية في أي وقت من أوقاتها، وفي أي طور من أطوار حياتها، وأنه هو الأصل الذي يقرر الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التي تنشئها البشرية بغية ضبط حركتها الاجتماعية.[11]
ويرى "ماركس" و"إنجلز" أن العيب الأساسي في المادية "القديمة" وفي جملتها مادية "فيورباخ"، هو أنها أولا كانت هذه المادية في أساسها ميكانيكية، ولم تكن لتأخذ بعين الاعتبار آخر ما توصلت إليه الكيمياء والبيولوجيا، ثانيا، أنها لم تكن تاريخية ولا ديالكتيكية (كانت ميتافيزيقية بمعنى ضد الديالكتيكية) ولم تكن تطبق وجهة نظر التطور من جميع نواحيها على نحو منسجم محكم الحلقات إلى النهاية، ثالثا، أنها تفهم "جوهر الإنسان" على نحو تجريدي لا بمثابة "مجموعات العلاقات الاجتماعية كافة (التي يحددها التاريخ على نحو ملموس). وهكذا لم تقر إلا بتفسير العالم، مع أن المقصود كان تغييره، وبتعبير آخر، إن المادية القديمة لم تكون تدرك شأن النشاط العلمي الثوري.[12]
5- أنها مذهب جدلي:
لقد كان "ماركس" و"انجلز" يريان في ديالكتيك "هيغل" أوسع مذهب من مذهب التطور وأوفرها مضمونا وأشدها عمقا وأثمن اكتساب حققته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.[13] وكانت نقطة الانطلاق في فكر "هيجل" هي الاعتقاد بوجود التناقض في طيات الأشياء والأفكار، وأن الاعتقاد بوجود هذا التناقض هو حجر الزواية في فهم الحقيقة.[14]
لقد أخذ "ماركس" المنهج الجدلي من هيجل الذي صاغ المبادئ الأساسية لهذا المنهج، لكن على خلاف الجدل الهيجلي الذي يوصف بكونه جدلا مثاليا، أصبح الجدل مع "ماركس" جدلا ماديا.
والجدلية عبارة عن فكرة ونقيضها، ثم تألف بين النقيضين، فالفكرة تولد وفي طياتها بذور فنائها، لكونها توجد ويوجد معها نقيضها الذي يهدمها، ومن تصادم النقيضين تتولد فكرة جديدة تجمع في ثناياها بين عناصر الفكرة الأولى وتهدمهما معا ويسمى نقيض النقيض، وهكذا يستمر تناقض الأفكار والذي هو في نفس الوقت سبب تطور هذه الأفكار لكونه ينتقل من وضع إلى وضع آخر جديد.[15] أي أن كل ظاهرة تحمل في ذاتها اندفاعات داخلية نحو التطور يثيرها التضاد والتصادم في القوى والاتجاهات المتمايزة التي تعمل في جسم معين أو في حدود ظاهرة معينة أو في قلب مجتمع معين، تبعية متبادلة وصلة وثيقة، لا يمكن فصمها، بين جميع جوانب كل ظاهرة، صلة تحدد مجرى الحركة الوحيد، المشروع الكلي وعليه فالجدل في نظر "ماركس" هو: "علم القوانين العامة للحركة، سواء أفي العالم الخارجي أم في الفكر البشري"[16]
6- أنها تقوم على الصراع الطبقي
يرى "ماركس" أن العنصر الأساسي في الصراع الاجتماعي والمحرك الأساسي للتاريخ هو الصراع بين الطبقات. فتاريخ أي مجتمع من المجتمعات ليس إلا صراعا بين الطبقات الداخلة في تكوينه، وأن هذا الصراع الطبقي هو القوة المحركة التي تعمل في داخل النظام الاجتماعي وهي التي تنقل التاريخ من نظام إلى نظام آخر، يقول "ماركس" "إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات: فالحر والعبد، والنبيل والعامي، والسيد الإقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي بالاختصار، المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حروب مستمرة، تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، وإما بانهيار الطبقتين المتناضلتين معا... أما المجتمع البرجوازي الحديث الذي خرج من أحشاء المجتمع الإقطاعي الهالك فإنه لم يقض على التناقضات بين الطبقات، بل أقام طبقات جديدة محل القديمة، وأوجد ظروفا جديدة للاضطهاد وأشكالا جديدة للنضال بدلا من القديمة، إلا أن الذي يميز عصرنا الحاضر، عصر البرجوازية هو أنه جعل التناحر الطبقي أكثر بساطة. فإن المجتمع أخذ بالانقسام أكثر فأكثر إلى معسكرين فسيحين متناقضين إلى طبقتين كبيرتين العداء بينهما مباشر، هما: البرجوازية والبروليتاريا.[17]
وما يجعل من النظام الرأسمالي نظاما تناقضيا، هو:
+ قيامه على أساس وجود أقلية مالكة لوسائل الإنتاج وأغلبية أجيرة لا تملك إلا عملها.
+ الطابع الاجتماعي للإنتاج، والطابع الفردي لملكية وسائل الإنتاج
+ التناقض الأساسي بين مصالح الرأسماليين من جهة، وبين مصالح الأجراء من جهة أخرى.
ب- الحرية بين الفرد والدولة في إطار المذهب الماركسي
تنطلق "الماركسية" من كون أن الحريات المقررة في ظل المذهب الفردي التحرري لا تعدو أن تكون إمكانيات قانونية لا يمكن ممارستها إلا لمن لديهم المقدرة المادية، فحرية التنقل وحرية الصحافة وحرية العمل وحرية الترشيح وحريات الفكر، ليست في واقع الأمر إلا امتيازات طبقية لفئة قليلة من الناس، أما بالنسبة لأكثريتهم فهي مجرد أوهام وسراب لخداعهم، لأنها حريات شكلية فاقدة لأي مضمون حقيقي، فأي قيمة لحرية الصحافة إذا كانت كبريات الصحف في أيدي أصحاب رؤوس الأموال، وماذا يعني حق العمل للأفراد مع وجود بطالة بحجم كبير، وما هي قيمة أن يرشح الإنسان نفسه للانتخابات النيابية إذا لم تكن لديه الإمكانيات المادية اللازمة التي تمكنه من منافسة المرشحين من أصحاب رؤوس الأموال.[18]
والحرية في المفهوم الاشتراكي ليست لصيقة بالإنسان ولكنها قيمة يجب السعي للوصول إليها واكتسابها على خلاف المذهب الفردي الذي يعتبر الحريات والحقوق موجودة قبل دخول الأفراد في المجتمعات المنظمة.[19] أي أن ما يؤمن به دعاة المذهب الاشتراكي هو أن الحريات مجرد قدرات عارضة يجب السعي لتحقيقها واكتسابها، وهي تتطور مع تطور الجماعة ومضمونها يتحدد وفقا للنظام الاجتماعي الذي تمثله السلطة في المجتمع وأن الجماعة هي التي تقرر ما يتمتع به الأفراد من حقوق لأنها غاية الحياة السياسية، والفرد لا وجود له بشكل مستقل عنها، فلا بد أن تكون حقوقها أعلى من حقوقه بل وتسمو عليها.[20]
لهذا ترى الماركسية أن الفهم الخاطئ للحرية وما نشأ عنه من تصوير مشوه لمركز الفرد في الجماعة، شكل مصدر قصور الديمقراطية التحررية البرجوازية فالفرد هو مجموعة من الروابط الاجتماعية ينبغي أن تنبع حقوقه وحريته من ظروف وجوده الاجتماعي دون اكتفاء بإشادة نظرية بسمو طبيعته الآدمية، على نحو ما تتشدق إعلانات الحقوق البرجوازية حين اقتصرت على تأكيد الحقوق والحريات الطبيعية للأفراد، ودار تكييفها لها على أنها مجرد قدرات ورخص تلتزم السلطة احترامها، لهذا يجب النظر إلى تلك الرخص والقدرات باعتبارها حاجات تنشأ من الوجود الاجتماعي وتفرض على السلطة ضرورة إشباعها دون الاقتصار على احترامها، وبناء على هذا الأساس، فإن الحرية ليست مجرد معطى من الدول والقانون، وإنما تنشأ من جدلية التطور الاجتماعي ومسيرته الحتمية صوب إزالة استغلال الفرد، فهي تبعا لذلك لا تتحقق إلا في إطار المضمون الاقتصادي والاجتماعي للتنظيم الاشتراكي، وينتج عما سبق أن الحرية تستمد وجودها من إزالة العوائق الاقتصادية والاجتماعية في أعقاب الثورة الاشتراكية، وليس من التنظيم القانوني لها.[21]
ويرى المذهب الاشتراكي أن السعي نحو تحقيق حريات الإنسان يفترض مرور المجتمع من ثلاث مراحل، هي:
1- مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا: وهي مرحلة الصراع لإقامة النظام الاشتراكي، وبالتالي فإنه لا يمكن خلال هذه المرحلة التمسك بحقوق وحريات الإنسان للحد من إعاقة النشاط الثوري، لأن هذه الحريات ليست في الواقع إلا امتيازات للطبقة التي يجب القضاء عليها.[22] لذا فديكتاتورية البروليتاريا، تعد مرحلة انتقالية ضرورية نحو بناء مجتمع جديد بحقوق وحريات جديدة وحقيقية، ومرحلة قضاء تدريجي على النظام الرأسمالي الطبقي الاستغلالي.
2- مرحلة الدولة الاشتراكية
بمجرد بناء الدولة الاشتراكية والقضاء على الطبقات وصراعها، يمكن الاعتراف للأفراد بحقوق وحريات فعلية لكون الجميع يستطيع التمتع بالوسائل المادية لوضع هذه الحريات موضع التطبيق. ففي ظل الدولة الاشتراكية تزول الملكية للدولة وحدها؛ مما يحقق العدالة بين أفراد المجتمع جميعا، ويزول بالتالي عنصر استغلال الإنسان للإنسان، وبالتالي تتحقق كرامة الإنسان ويظفر بحقوقه ويتمتع بحرياته وذلك في الإطار الذي ترسمه الدولة.[23]
3- مرحلة المجتمع الشيوعي
إن وجود الدولة الاشتراكية هو وجود مرحلي، لأن هدفها النهائي هو بناء المجتمع الشيوعي؛ وفيه تزول الدولة ووسائل القمع، ويتجه الأفراد نحو المصالح المشتركة مما سينتج عنه ازدهار الحريات واختفاء كل أنواع الخضوع، ويمكن للجميع أن يتمتع بحقوق الإنسان وحرياته بدون أن يكون من الضروري تنظيما قانونيا[24] أي أن هذه المرحلة هي الإطار الإنساني الأمثل للحرية في صورتها الحقيقية، وحيث تنتظم التصرفات الفردية باتجاه المصلحة المشتركة والعامة.

[1] خضر خضر م س ص: 90
[2] صالح حسن سميع م س ص: 127
[3] مصطفى قلوش: م س ص: 104
[4] هاني سليمان الطعيمات م س ص: 93
[5] صالح حسن سميع: م س ص: 148
[6] لينين: المختارات: المجلد الأول الجزء الأول دار التقدم 1976 ص 44
[7] صالح حسن سميع م س ص: 144
[8] ن م ص: 135
[9] لينين م س ص: 34
[10] م س ص: 107
[11] م س ص: 138
[12] م س ص: 37
[13] م س ص: 37
[14] م س ص: 129
[15] م س ص: 107
[16] لينين م س ص: 38
[17] م س. ص: 42
[18] هاني سليمان الطعيمات م س ص: 94
[19] أحمد البخاري، أمينة جبران م س ص: 73
[20] م س ص: 95
[21] مصطفى قلوش م س ص: 112
[22] سليمان هاني الطعيمات م س ص: 95
[23] م س ص: 95
[24] م س ص: 73

Previous Post Next Post