التحولات الاجتماعية في العالم
سلبيات الثورة الاجتماعية في اوروبا


فى الاجتماع 00
        العلاقة بين الفرد والمجتمع هى الموضوع الرئيسى الذى يدرسه علم الاجتماع00
وكما اختلت الجاهلية الحديثة فى السياسة والاقتصاد، فكذلك اختلت فى نظرتها للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وفى تطبيق هذه النظرة فى عالم الواقع؛ ذلك أن السياسة والاقتصاد والاجتماع فى الحقيقة ترتبط  بعضها ببعض أوثق ارتباط 00
وقد رأينا من قبل التفاعل الكامل بين الاقتصاد والسياسة، وسنرى الآن تفاعلهما مع الاجتماع.. لا على الأساس الذى تراه الجاهلية المادية، من أن الاقتصاد هو الذى يرسم صورة المجتمع من ناحية، والسياسة من ناحية أخرى. ولكن على أساس أنها كلها مظاهر للوجود الإنسانى، مترابطة لأنها تصدر عن كيان مترابط موحد .. هو ((الإنسان))()0
* * *
        وفى إشارة سابقة ألمحنا إلى اختلال الجاهلية الحديثة فى تصور العلاقة بين الفرد والمجتمع، الناشئة من اختلال تصورها للنفس البشرية.. والنابعة فى الأصل من فقدان حاسة التوازن، بسبب الانحراف عن منهج الله 0
        إما الفرد وإما المجتمع فى تصور الجاهلية 00
        فالنظم الاجتماعية التى تقوم على الفرد ، تبرز كيانه وتبالغ فى إبرازه حتى تجعل ذاته مقدسة لا يمسها مساس! يصنع ما يحلو له.. يملك كما يشاء بغير حد وفى أية صورة. ويصوغ أفكاره وعقائده وأخلاقه وتقاليده كما يشاء، ليس للمجتمع أن يخرج عليه. ليس له أن يقول له: هذا خطأ وهذا صواب، فما المجتمع؟ وبأى حق تكون له الوصاية على الفرد؟
        إن الفرد هو ((الإله)) ! ومن ثم فكل إله يصنع ما يحلو له.. والحرية الشخصية مجال مفتوح للآلهة أجمعيين!
        والنظم التى تقوم على المجتمع، تبرز هى الأخرى كيانه، وتبالغ فى إبرازه حتى تجعله هو الكيان المقدس؛ والفرد لا قداسة له ولا كيان.. لا يحق له أن يملك. لا يحق له أن يصوغ أفكاره وعقائده وأخلاقه وتقاليده. لا يحق له أن يعترض على عمل المجتمع، أو يصفه بأنه خطأ أو صواب. فما الفرد؟ وبأى حق تكون له الوصاية على المجتمع؟
        إن المجتمع هو ((الإله))! ومن ثم ينصع ما يحلو له.. والفرد هو العبد الخاضع للسلطان!
* * *
        ويزعم كل من النظامين أنه يقوم على أسس ((علمية)) !!
        وليس أدل على فساد هذا الزعم، أو فساد ((العلم)) الذى يقوم عليه هذا الزعم، من أنهما وضعان متقابلان تماماً، لا يقوم بينهما صلح ولا تفاهم ولا التقاء.. فكيف يكونان فى ذات الوقت صحيحين؟ إن أحدهما أو كليهما لابد أن يكونا خاطئين.. وهذه هى الحقيقة!
        قامت أسطورة الفرد المقدس من ((التطور)) الذى أصاب أوروبا منذ عصر النهضة.
        لقد كانت أوروبا – فى جاهلية القرون الوسطى – تقع تحت ضغط بشع يضغط كل كيان الإنسان0
        الكنيسة ورجال الدين يفرضان سلطاناً مذلا على كاهل الناس. ((فالإنسان)) لا يملك أن يتصل بخالقه اتصالاً مباشراً .. وإنما ينبغى أن يكون ذلك عن طريق الكاهن أو القسيس! والمغفرة لا ينالها الإنسان من الله مباشرة وإنما ينبغى أن ((تسلم)) إليه على يد كاهن أو قسيس! والاعتراف – لله – بالخطيئة لا يتم، ولا يؤتى مفعوله إلا حين يتولاه كاهن أو قسيس! وهكذا يحال بين الإنسان وحقه فى أن يلتقى بكيانه الفردى المباشر مع الله0
        والأشراف حمل آخر على كاهل الناس00
        فهم وحدهم فى المجتمع الذين لهم وزن وثقل.. والثقل يقع على هذه ((الأحجار)) الآدمية التى يتكون منها مجموع الشعب.. الشعب الذى لا حقوق له، وعليه فى الوقت ذاته جميع الواجبات0
        و((الفرد)) من هذا الشعب ليس له كيان. لا يملك شيئاً ملكاً حقيقياً، فالإقطاعى هو المالك الوحيد. والفرد لا يتعامل بكيانه المباشر مع شىء على الإطلاق! لا يتعامل مع الدولة. فالدولة لا تعرفه إلا عن طريق الإقطاعى الذى يملك أن يقدمه وأن يؤخره. وأن يجعل له وجوداً أو يلغى ذلك الوجود0 ومن ثم يقوم الإقطاعى بين الفرد وعلاقته المباشرة مع الدولة، كما يقوم الكاهن والقسيس بين الفرد وعلاقته المباشرة مع الله0
        والحقوق السياسية لا وجود لها. ولا ضمانات العيش ولا ضمانات القضاء. ولا أى ضمانات.
        وفوق ذلك فالنظام الإقطاعى ذاته – بصورته الجاهلية التى قامت فى أوربا – لا يرتكز على شخصية الفرد – فيما عدا الفرد الإقطاعى صاحب السيادة – وإنما يرتكز على جموع من الأفراد ليس لها كيان فردى مستقل متميز، وإنما لها صورة مطبوعة بخاتم قلما يتغير.. فالحياة راكدة آسنة فى الريف لم تتغير منذ مئات السنين .. فرد يذهب وفرد يجئ، وكأنما لا يذهب الذاهب ولا يجئ ! ومن ثم لا يحس الفرد بوجوده، وهو يمارس هذه السلبية الكاملة إزاء العرف والتقاليد، التى يخضع لها لا إيماناً واعياً بها – فتكون له شخصيته المتميزة فى أدائها – ولكن خضوعاً آلياً كالثور المعلق فى الطاحون0
* * *
ومن هذا الركود  الآسن انبعث النشاط فى أوروبا، بعد احتكاكها بالعالم الإسلامى، فى الحروب الصليبية تارة، وفى الجامعات الإسلامية فى المغرب والأندلس تارة أخرى.. فدبت الحياة فى الموات0
وكان على الناس أن يزيحوا عن كاهلهم ما يرزحون تحته من أثقال0
أول ثقل بدأوا يزحزحونه هو الكنيسة 00 ورجال الدين 0
وهنا دخلت ((عبادة الطبيعة))ن مهرباً من الكنيسة وإلهها المتجبر الذى تحكم باسمه الناس، ومحاولة لإقامة ((عبادة)) جديدة يلتقى فيها العابد والمعبود مباشرة بلا وسيط!
ونحن هنا بطبيعة الحال نتتبع التاريخ دون أن نبرر التاريخ! فليس هناك – كما أشرنا من قبل – مبرر ((منطقى)) ولا ((علمى)) لهذا التحول من إله الكنيسة إلى عبادة الطبيعة.. وإنما هو مهرب وجدانى منحرف لا يحمل الدليل.. وقد كان على الناس حين أخذوا يزيحون سلطان الكنيسة المزيف أن يعودوا إلى عبادة الله الحق، لا أن يخلقوا آلهة جديدة مزيفة يعبدونها من دون الله0
ثم أخذوا يزيحون ثقل الإقطاع بما يشمله من طبقة الأشراف 00
وكانت الثورة الفرنسية جماع هذه الثورة التى أطاحت بالملكية ورجال الإقطاع على الطريقة الأوروبية! أو على الطريقة الفرنسية! المقصلة وقطع الرقاب!
وبدأ ((الفرد)) يحس بكيانه 00
ولكنه – فى هذه الجاهلية التى لا تعرف الله – لم يكن يتوقع له أن يحس بكيانه على اهتداء0
إنه – مثلاً – لم يسع إلى الاتصال المباشر بخالقه بغير وساطة الكاهن. وإنما أدار ظهره للكنيسة بكل ما تحمله من كهنة وقسيسين 00 و((إله))!
ولم يحاول أن يفرز التقاليد السارية فى مجتمعه، فيرى ما كان منها ذا قيمة باقية، فيقوم بأدائه عن إيمان – فتكون له الشخصية المتميزة فى هذا الأداء – وإنما أدار ظهره لمجموعة الأخلاق والتقاليد فى عصره على أنها شىء بائد 00 لابد أن يبيد 0
وهكذا لم يتعقل فى ثورته المجنونة .. لقد كان – فى هياجه – يلقى كل شىء لينطلق خفيفاً من الأثقال 0
* * *
        ثم كان الانقلاب الصناعى الذى أتى على بقية ما كان من بنيان 00
        لقد أحدث هذا الانقلاب تغيراً كاملاً فى صورة المجتمع 00 فى كل شىء فيه 00
        وكان عاملاً من أهم العوامل فى التركيز على ((فردية)) الإنسان 00
لقد جاء العمال من الريف فرادى .. غير متعارفين ولا مترابطين . وسكنوا فى المدينة كذلك فرادى .. لا يلتقون إلا فى زمالة العمل وحده . ولكن لا تقوم بينهم الروابط التى كانت تقوم بين الفلاح وأخيه فى الريف، حيث الناس متعارفون، متعاونون، تربطهم القرابة والمصاهرة والجوار ودوام الاتصال.. والتقاليد المشتركة التى توحد كيانهم من الداخل فيلتقون متعارفين بالمشاعر والأفكار0
بل إنهم جاءوا كذلك فرادى بلا أسر .. فقد كان الجيل الأول من العمال النازحين من الريف يتحسسون الطريق فى المدينة، فلا يحضرون معهم أسرهم حتى يطمئنوا أولاً إلى الجو الذى يعيشون فيه. وكان معظمهم من الشبان العزاب الذين لم يرتبطوا بعد برباط الزواج00
وهكذا أحس كل إنسان فى المدينة بفرديته المتميزة أكثر مما أحس بالرباط الجمعى..
ثم عملت المرأة 00
وأحست كذلك بفرديتها 00
لقد كانت من قبل هملاً لا وجود له ولا كيان ولا استقلال. مجرد تابع للرجل. تعيش عن طريقه اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وفكرياً.. وكل شىء.. فهى لا تفكر فى أمورها بفكرها، وإنما بفكر أبيها أو أخيها أو زوجها. ولا تفكر فى شئون المجتمع – ما لها هى وما له؟ – وإن فكرت فعن طريق الرجل الذى ينقل إليها الأمور جاهزة مبلورة منتهية، لا تشارك هى فى معاناتها أو تمثلها. ثم إنها لا تملك ملكاً مباشراً ولا تتصرف بنفسها فى هذا الملك – هكذا كانت فى جاهلية العصور الوسطى فى أوروبا! – وإنما الرجل هو الذى يملك ويتصرف .. وهى تعيش فى تقاليد معينة، تضيق عليها أكثر مما تضيق على الرجل، أو تضيق عليها وحدها دون الرجل فى كثير من الأمور. وهى تتشرب هذه التقاليد بلا وعى، وتعيشها راضية أو ساخطة على أنها قدر مقدور 00
فلما اشتغلت حدث فى نفسها انقلاب !
صار فى يدها مال تملكه ملكاً حقيقياً، مباشراً، كاملاً، تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء0
وتعاملت – بشخصها مباشرة – مع المجتمع، فى المصنع والمتجر والطريق 00
وتعاملت مع الرجل – أو بدأت – إن لم يكن على أنها ند له، فعلى الأقل على أنها لم تعد ذلك التابع الذى لا كيان له، وإنما صارت كائناً ((يحاول)) أن يصل إلى مستوى الرجل وينازعه السلطان00
وفى كل ذلك برزت ((فرديتها)) التى لم يكن لها وجود من قبل 00
واشتغل الأطفال كذلك !
وبرزت – رويداً رويداً – لهؤلاء الصغار ((فردية)) متميزة، يكتسبونها من عرك العمل لهم منذ طفولتهم، ومن العملة القليلة التى تتحصل فى أيديهم00
وصار الجميع ((أفراداً)) متميزى الفردية !
        لقد كان فى هذه الفردية انحراف هائل خطير 00
        ولم يكن ذلك حتماً بطبيعة الحال .. فليس حتماً أن تكون الفردية فى ذاتها منحرفة.. فهى جزء أصيل من كيان الإنسان السليم. ولكنها انحرفت لأنها ولدت فى ظل الجاهلية المنحرفة عن منهج الله. ولأنها كذلك رد فعل عنيف غير متوازن لانعدام الكيان الفردى الذى أنشأه الإقطاع عدة قرون00
        لقد ذاق هؤلاء جميعاً فرديتهم المستقلة ((المتحررة)) من غير طريقها السوى، الذى كان يضمن لهم – مع الإحساس بالذاتية المتميزة – توازناً فى الإحساس بالحقوق والتبعات، والحرية والالتزام0
        فسكان المدينة الجدد كانوا – رويداً رويداً – قوماً يتحللون من الدين والأخلاق والتقاليد، بتأثير الانتقال من الكبت العنيف فى الريف إلى ((حرية)) المدينة وبحبحتها، وبتأثير الانسلاخ التدريجى الدائم من الدين، وبتأثير التفسير الحيوانى للإنسان الذى بثته الداروينية فى النفوس؛ وبتأثير التفسير الجنسى للسلوك الذى بثه فرويد؛ وبتأثير وجود الشباب الفاره القوة – فى سن الشباب – بلا أسر تعصمه من الخطيئة ، فيلجأ إلى الحل الرخيص الذى تقدمه المدينة فى صورة بغاء 00
        والمرأة – وهى تحس رويداً رويداً بفرديتها – كانت تستقى هذه الفردية على انحراف. فهى خارجة من حالة انعدام الكيان .. فى كل شىء. فلما أحست بذاتيتها أخذت تناضل لتحطيم كل قيد .. لازماً أو غير لازم .. وأخذت بالذات تسعى إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد لأنها استخدمت ضدها فى معركة ((التحرر)) .. استخدمها الرجل ليصدها عن منافسته، بينما كان هو فى واقع حياته متحللاً من الدين والأخلاق والتقاليد! ثم إنها بعد أن نكل الرجل – الجاهلى – عن إعالتها، واضطرت – راضية أو كارهة – أن تعمل، وجدت – فى كثر من الأحوال – أن أخلاقها قيد يمنعها من التكسب. فالرجل – الجاهلى – الحيوان الذى تعمل عنده، لا يتيح لها فرصة العمل إلا أن تتيح له من نفسها ما يطلبه الرجل الحيوان0 وفوق ذلك فقد كانت تطالب ((بالمساواة)) مع الرجل! المساواة فى الأجر فى أول الأمر 00 ثم المساواة فى كل شىء 00 ومن بين ذلك المساواة فى التحلل والإباحية والانطلاق!
        ووراء الرجل والمرأة معاً كان التوجيه اليهودى الماكر الذى يريد أن يدمر ((الأميين)). توجيه ماركس وفرويد ودركايم: أن الأخلاق قيد لا معنى له. والجنس هو الوجود البشرى. والاختلاط هو السبيل..([1])0
        وحدث انحلال مدمر شنيع 00
        لقد تحطمت روابط المجتمع، وروابط الأسرة، بل روابط الجنس ذاته! فلم يعد الجنس – بصرف النظر حتى عن الأخلاق! – رباطاً يربط بين رجل وامرأة بالعواطف الممتدة الطويلة الأمد، والمشاعر المشتركة.. وإنما أصبح لحظة جسد منهومة، تنقطع بالإشباع شهوة الحيوان، وتتجدد على دواعى الجسد الشهوان. واعتبرت ((العواطف)) و((المشاعر)) حتى بصرف النظر عن الأخلاق، ((رومانتيكية)) مريضة متهوسة لا تعيش فى ((الواقع)) . وإنما الواقع هو هذا الحيوان، وهذا الجسد الشهوان .. كذلك أوحت لهم الجاهلية الداروينية، وامتدادها على يد فرويد، وغيره ((تلاميذه)) و((حوارييه)) فى كل ميدان!
        وفسد كيان الرجل والمرأة كليهما 00 فلم يعودا رجلاً وامرأة كما خلقهما الله !
        فأما الرجل – وقد فقد روابطه الاجتماعية وضعفت فى نفسه روابط الأسرة وروابط الجنس ذاته ! فقد أصبح ((شيئاً)) أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان.. آلة منتجة، ولكنها لا تكاد تفكر أو تحس.. وإنما تعيش الحياة لحظة لحظة، بلا هدف شامل ولا وعى ((بإنسانية)) الإنسان! ثم إذا فرغ من الإنتاج المادى الذى يكبت كيانه الحى ويطمس إشعاعه الروح فيه – بسبب ((الأسلوب)) الآلى الذى يؤدى به العمل – انطق فى حيوانية هابطة يشبع دوافع الحيوان.. وتتحول فى نظره إلى هذين الهدفين القريبين: إنتاج كالآلة .. وانطلاق كالحيوان 0
        وأما المرأة فقد فسدت فطرتها من الداخل كذلك 0
        كتبت الدكتورة بنت الشاطئ فى جريدة الأهرام بعنوان ((جنس ثالث فى طريقه إلى الظهور))0
(( 00 شاءت الظروف أن أذهب فى عطلة الأحد لزيارة صديقة لى طبيبة بإحدى ضواحى ((فينا)) – بعد أسبوع مرهق قضيناه بين أوراق البردى العربية فى دار الكتب – وكنت أحسب أن يوم الأحد هو أنسب وقت لمثل تلك الزيارة . فما كان أشد عجبى حين فتحت لى صديقتى باب بيتها معجلة، وفى يدها ((بطاطس)) تقشرها. ثم قادتنى فى لطف إلى مطبخها لنأخذ مجلسنا هناك0
((ولم يغب عنها ما شعرت به من دهشة . فابتدرتنى قائلة :
((ما كنت تتوقعين هذا المنظر : طبيبة فى المطبخ يوم الأحد !
((قلت ضاحكة : أما العمل يوم الأحد فربما فهمته وأما اشتغالك بالطبخ مع ما أعرفه من إرهاق مهنتك ، فهذا ما لم أنتظره 0
((فردت : لو عكست لكنت أقرب إلى الصواب فالعمل فى عطلة الأحد هو المستغرب عندنا. لولا أنه فرصتى الوحيدة لكى أقف هنا حيث ترين. وأما اشتغالى فى المطبخ. فلعلى لم أتجاوز به نطاق مهنتى. إذ هو نوع من العلاج لحالة قلق أعانيها وتعانيا معى سيدات أخريات من المشتغلات بالأعمال العامة0
((ولما سألتها عن سر هذا القلق – مع استقرار الوضع الاجتماعى للمرأة الغربية – أجابت بأن ذلك القلق لا صلة له بمتاعب الانتقال المفروضة على جيل الطليعة من نساء الشرق! وإنما و صدى شعور ببدء تطور جديد يتوقع حدوثه علماء الاجتماع والفسيولوجيا والبيولوجيا فى المرأة العاملة، وذلك لما لحظوا من تغير بطئ فى كيانها، لم يثر الانتباه أول الأمر لولا ما سجلته الإحصاءات من اطراد النقص فى المواعيد بين العاملات. وكان المظنون أن هذا النقص اختيارى محض، وذلك لحرص المرأة العاملة على التخفف من أعباء الحمل والوضع والإرضاع، تحت ضغط الحاجة والاستقرار فى العمل. ولكن ظهر من استقراء الإحصاءات أن نقص المواليد للزوجات العاملات، لم يكن أكثره عن اختيار بل عن عقم استعصى علاجه. وبفحص نماذج شتى منوعة من حالات العقم اتضح أنه فى الغالب لا يرجع إلى عيب عضوى ظاهر، مما دعا العلماء إلى افتراض تغير طارئ على كيان الأنثى العاملة نتيجة لانصرافها المادى والذهنى والعصبى – عن قصد أو غير قصد – عن مشاغل الأمومة، ودنيا حواء، وتشبثها بمساواة الرجل، ومشاركته فى ميدان عمله0
((واستند علماء الأحياء فى هذا الغرض – نظرياً – إلى قانون طبيعى معروف، وهو أن ((الوظيفة تخلق العضو)) . ومعناه فيما نحن فيه أن وظيفة الأمومة هى التى خلقت فى حواء خصائص مميزة للأنوثة لابد أن تضمر تدريجياً بانصراف المرأة عن وظيفة الأمومة واندماجها فيما نسميه ((عالم الرجل))0
((ثم تابع العلماء هذا الفرض، فإذا التجارب تؤيده إلى أبعد مما كان منتظراً، وإذا بهم يعلنون – فى اطمئنان مقرون بشىء من التحفظ – عن قرب ظهور ((جنس ثالث)) تضمر فيه خصائص الأنوثة التى رسختها الممارسة الطويلة لوظيفة حواء 0
((وثارت اعتراضات 00 منها : أن كثرة العاملات ينفرن من العقم ويشتهين الولد. ومنها: أن المجتمع الحديث يعترف بالعاملة الأم ويحمى حقها فى العمل، ويتيح لها بحكم القانون فرصة الجمع بين شواغل الأمومة وواجبات العمل. ومنها : أن عهد المرأة بالخروج من دنياها الخاصة لا يتعدى بضعة أجيال، على حين يبلغ عمر خصائص الأنوثة فيها ما لا يحصى من دهور وأحقاب0
((وكان الرد على هذه الاعتراضات: أن اشتهاء الزوجة العاملة للولد يخالطه دائماً الخوف من أعبائه، والإشفاق من أثر هذه الأعباء على طمأنينة مكانها فى محل العمل0
((ثم إن الاعتراف بالعاملة الأم قلما يتم إلا فى حدود ضيقة، تحت ضغط القانون وما أكثر ما يجد أصحاب العمل فرصتهم لتفضيل غير الأمهات. وأما قصر عهد المرأة بالخروج، فيرد عليه بأن هذا الخروج – على قرب العهد به – قد صحبه تنبه حاد إلى المساواة بالرجل، وإصرار عنيد على التشبه به، مما عجل ببوادر التغيير، لعمق تأثير فكرة المساواة على أعصاب المرأة، وقوة رسوخها فى ضميرها0
((وما يزال المهتمون بهذا الموضوع يرصدون التغيرات الطارئة على كيان الأنثى، ويستقرئون فى اهتمام بالغ دلالات الأرقام الإحصائية لحالات العقم بين العاملات، والعجز عن الإرضاع لنضوب اللبن، وضمور الأعضاء المخصصة لوظيفة الأمومة))0
* * *
        أما الأطفال الذين أحسوا بفرديتهم فى هذا الطوفان المنحل.. فقد أحسوا بها كذلك على انحراف0
        فالأسرة المحطمة، التى يعمل فيها الرجل والمرأة فى المصنع والمتجر، قد فقدت رباطها العاطفى والوجدانى الذى كان يمسك بالأطفال فى ترابط، ويبذر فى قلوبهم ((الحب)) و((المودة))، وينشئهم متوازنين فى الشعور والتفكير، ويعلمهم آداب الجنس وينشئهم على احترام العلاقة التى يجئ عن طريقها النسل، فلا تصبح شهوة جسد مرتكسة، وإنما تصبح روابط على مستوى الإنسان0
        فقدت الأسرة رباط الأم 00 رباط الوجدان. وصار البيت أشبه بالفندق الذى يعيش فيه رجل وامرأة كأنما هما فى علاقتهما ((موظفان)) يؤديان وظيفة الأبوة والأمومة ((من الظاهر)) كما يؤدى الموظف عمله بلا حماسة ولا يسره أن يداوم عليه .. لولا ((الروتين)) الذى يسير الحياة0
ومن ثم انحرف الأولاد .. سواء كانوا يتربون فى الأسرة المفككة على يد ((الخادم)) أو فى المحاضن مع غيرهم من الأطفال ((المشردين)) عن الأمهات والآباء !
يقول ((ألكسس كاريل)) :
((ولقد ارتكب المجتمع العصرى غلطة جسيمة باستبداله تدريب الأسرة بالمدرسة استبدالاً تاما. ولهذا تترك الأمهات أطفالهن لدور الحضانة، حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن، أو مطامعهن الاجتماعية، أو مباذلهن، أو هوايتهن الأدبية أو الفنية، أو للعب البريدج، أو ارتياد دور السينما، وهكذا يضيعن أوقاتهن فى الكسل. إنهن مسئولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التى يتصل فيها الطفل بالكبار. إنهن مسئولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التى يتصل فيها الطفل بالكبار، فيتعلم عنهم أموراً كثيرة .. إن الكلاب الصغيرة التى تنشأ مع أخرى من نفس عمرها فى حظيرة واحدة. لا تنمو نموا مكتملاً كالكلاب الحرة التى تستطيع أن تمضى فى إثر والديها. والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهرة من الأطفال الآخرين وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أذكياء . لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجى والعقلى والعاطفى طبقاً للقوالب الموجودة فى محيطه. إذ أنه لا يتعلم إلا قليلاً من الأطفال فى مثل سنه. وحينما يكون مجرد وحدة فى المدرسة، فإن يظل غير مكتمل. ولكى يبلغ الفرد قوته الكاملة فإنه يحتاج إلى عزلة نسبية، واهتمام جماعة اجتماعية محددة تتكون من الأسرة))([2])0
ويقول ول ديورانت الفيلسوف الأمريكى :
((ولما كان زواجهما [الرجل والمرأة فى المجتمع الحديث] ليس زواجاً بالمعنى الصحيح – لأنه صلة جنسية لا رباط أبوة – فإنه يفسد لفقدانه الأساس الذى يقوم عليه، ومقومات الحياة. يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع. وينكمش الزوجان فى نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان. وتنتهى الغيرية الموجودة فى الحب إلى فردية يبعثها  ضغط المساخر 00))([3])0
* * *
وفى هذه الأثناء كلها كانت ((البرجوازية)) الناشئة تسعى إلى مزيد من حرية ((الفرد))0
لقد كانت السلطة كلها – فيما سبق – فى يد الإقطاعيين يسحقون بها مجموع الشعب، وتؤازرهم الكنيسة كهيئة إقطاعية، وكهيئة ذات مصلحة ذاتية فى إخضاع الناس لسلطانها ((الروحى)) ليعيش ((رجال الدين)) فى مكان السيطرة . الآمرة ، وفى نعيم مترف مقيم0
فلما أخذت ((المدينة)) فى النمو، وجدت الطبقة الجديدة من الموظفين وأصحاب الأعمال وصغار الرأسماليين .. وجدت نفسها بلا حقوق! فالبرلمان محتكر لرجال الإقطاع0 وحرية القول والاجتماع والتعبير عن الرأى ((الشخصى)) ليس لها وجود .. وبدأ الصراع العنيف لاستخلاص هذه الحقوق رويداً رويداً من رجال الإقطاع0
وكان فى كل يوم نصر جديد ((للديمراقطية)) يتمثل فى مزيد من التحرر ((للفرد))
إن التفسير الماركسى يصور الصراع على أنه صراع طبقى .. ((الطبقة)) البرجوازية الناشئة تصارع ((الطبقة)) الإقطاعية العجوز .. ولكن هذا – إن كان صحيحاً – لا ينفى أن هؤلاء ((البرجوازيين)) (أى سكان المدينة)) كانوا يحسون أنها معركة فردية لكل منهم. معركة كل فرد منهم ليعبر عن كيانه الفردى المتميز؛ ليثبت وجوده الذاتى، ليحس أنه إنسان قائم بذاته، وليس تبعاً لهذا وذاك 0
وكل نصر جديد .. أى كل حرية تنتزع من الإقطاع، كان معناها أن كل ((فرد)) قد امتدت حريته إلى مجال جديد .. أى أنه صار يستطيع ما يحلو له هو شخصياً فى نطاق جديد 0
ولم يكن هذا ((التحرر) فى ميدان السياسة وحده ، وإنما كان كذلك تحرراً – أو تحللاً – من الدين والأخلاق والتقاليد، تحوطه ضمانات ((التشريع)) والتنفيذ والقضاء .. بوصفه من ((الحرية الشخصية))00
وهكذا اتكأت البرجوازية – فى معركتها السياسية لانتزاع السلطان من الإقطاع – على الكيان الفردى المنطلق ((المتحرر) الساعى إلى مزيد من التحرر ومزيد من السلطان0
وفى تلك الأثناء اتخذ الإنسان من نفسه إلهاً، وعبد نفسه من دون الله !
* * *
وفى ظل ذلك كانت الرأسمالية النامية تجتاح الميدان 0
تجتاحه على أساس فردى 00 فهى تقوم على حرية كل ((فرد)) فى أن يملك بكل وسائل الملك، ويستغل ما له فيما يشاء من استغلال . وكذلك يستغل الطاقة الآدمية المتمثلة فى العمال0
ودافع الرأسماليون دفاعاً عنيفاً عن حرية ((الفرد)) .. وقالوا – بطبيعة الحال – كلاماً ((جميلاً)) فى حقوق الإنسان الفرد . والحريات التى ينبغى أن تكفل له. و((القداسة)) التى ينبغى أن يتمتع بها فى الحياة. وحقه فى ألا يتعرض ((المجتمع)) لأعماله، ولا أن يضع فى سبيله القيود!
وكان شعارهم الذى رفعوه : ((دعه يعمل . دعه يمر !)) Laissez Faire Laissez Passer ممثلاً لذلك الاتجاه كله. فقد كان معناه : دع ((الفرد)) يعمل ما يشاء بلا حواجز .. دعه يمر بلا عوائق!
كانت دعوة للانطلاق من القيود !
ولكن هذا الكلام ((الجميل)) كله الذى قيل عن حرية الفرد، وقداسة الفرد، وحقوق الفرد.. لم يكن لوجه الله! وإنما لوجه الشيطان ! لوجه الطاغوت المتمثل فى الرأسمالية! فالرأسمالية لا تستطيع أن تعمل – ما تشاء – ولا أن تمر – بلا حواجز – إلا فى ظل هذه الحرية الفردية المطلقة من جميع القيود 0
ولا مانع لدى هذه الرأسمالية الطاغية – فى سبيل تحقيق سلطانها الطغيانى – أن تنفخ فى دعوة ((الحرية)) هذه حتى ينحل المجتمع كله. دينه وأخلاقه وتقاليده .. ورجاله ونساؤه وأطفاله وأسره وطوائفه. لأن الذى يهمها كله هو استخلاص أكبر قدر من الربح، عن طريق أن تعمل – ما تشاء – وتمر – بلا حواجز ! بل لعل انحلال المجتمع أكثر ربحاً لها، لأنه يتيح استغلال المال فى إثارة الشهوات، والحصول على الأرباح مضاعفات!
وهكذا أنشأت الرأسمالية الطاغية فلسفة كاملة، ذات مدارس وأساتذة ومؤلفين وصحفيين وكتاب وفنانين .. إلخ ، تدعو إلى التحرر ((الفردى)) المطلق وتحطيم كل قيد يعوق هذا التحرر المجنون!
وفى ظل هذه الفلسفة المنحرفة صور المجتمع على أنه الغول البشع الذى يسعى لتحطيم كيان الفرد، والذى ينبغى فى ذات الوقت أن يقوم الفرد بدكه وتحطيمه، جزاءً وفاقا على ما يحمله فى طياته من نوايا العدوان !
ولم يقف هؤلاء الفلاسفة والمفكرون، والأدباء والصحفيون، والكتاب والفنانون..إلخ، لم يقفوا ليسألوا أنفسهم: ما هذا المجتمع الذى ينبغى تحطيمه ليتحرر ((الإنسان.. الفرد))؟ ما هو؟ أليس مجتمعاً ((إنسانياً))فى النهاية؟ أليس ((الإنسان)) شاملاً للفرد وللمجتمع فى ذات الوقت؟ أليس المجتمع ناشئاً من ضمير الفرد : من رغبته فى الاجتماع بالآخرين، والأنس بهم، والحاجة إليهم؟! وحين يتحطم هذا المجتمع.. فكيف يعيش الفرد؟ ((أين)) يعيش ؟ ما الإطار الذى يعيش فيه؟!
ثم غفل هؤلاء الفلاسفة والمفكرون، والأدباء والصحفيون، والكتاب والفنانون.. لأنهم فى جاهلية عمياء لا تهتدى بمنهج الله ولا نور الله.. غفلوا عن أن طاغوت الرأسمالية المدمر، وهو ينفخ فيهم ليقرروا هذه الآراء المنحرفة، لا يسعى – بعد حل روابط المجتمع كله – إلا لشىء واحد، ناله بالفعل وحصل عليه، هو استعباد هذا الشتيت المتنافر من ((الأفراد)) الذين لا يجمع بينهم رابط إنسانى، ولا مودة ولا قربى .. استعباده لطاغوت رأس المال ومصالح رأس المال، وهو راغم صاغر، ومستغفل مضلل، يسوقه الطاغوت من خطامه .. عن طريق الشهوات !
* * *
        وحين كانت ((الفردية)) تجنح جنوحها ذلك المدمر .. كان ((رد الفعل)) ينشأ على الجانب الآخر . جانب ((الجماعة)) 0
        كانت هناك نظريات تقول إن الفرد لا وجود له ولا معنى له بمفرده! إنما يستمد  كيانه من المجتمع الذى يعيش فيه، وليس من حقه، بل ليس فى إمكانه أن يحول المجتمع عن طريقه00 الحتمى!
        كان دركايم يدلى بالتفسير ((الجمعى)) للحياة للبشرية.. وماركس يدلى بالتفسير المادى للتاريخ، القائم على قاعدة أن الأساس الاقتصادى هو الذى يكيف المجتمع، والمجتمع هو الذى ينشئ الفرد 00
        يقول دركايم :
        (( 0000 ولكن الحالات النفسية التى تمر بشعور الجماعة تختلف فى طبيعتها عن الحالات التى تمر بشعور الفرد، وهى تصورات من جنس آخر، وتختلف عقلية الجماعات عن عقلية الأفراد، ولها قوانينها الخاصة بها ))([4])0
        (( 000 إن ضروب السلوك والتفكير الاجتماعية أشياء حقيقية توجد خارج ضمائر الأفراد، الذين يجبرون على الخضوع لها فى كل لحظة من لحظات حياتهم ))([5])0
        ولكن لما كان هذا العمل المشترك [الذى تنشأ عنه الظواهر الاجتماعية] يتم خارج شعور كل فرد منا، وذلك لأنه نتيجة لعدد كبير من الضمائر الفردية([6])، فإنه يؤدى بالضرورة إلى تثبيت وتقرير بعض الضروب الخاصة من السلوك والتفكير، وهى تلك الضروب التى توجد خارجة عنا، والتى لا تخضع لإرادة أى فرد منا))([7])0
        ((0000 فلما كانت الخاصة الجوهرية التى تمتاز بها هذه الظواهر [الاجتماعية] تنحصر فى القيام بضغط خارجى على ضمائر الأفراد، كان ذلك دليلاً على أنها ليست وليدة هذه الضمائر))([8])0
        ((0000 وسيرى المرء حينئذ كيف تقتحم الظاهرة الاجتماعية الخارجية الشعور الداخلى للأفراد ))([9])0
        أما ماركس وإنجلز، والتفسير المادى للتاريخ، فهو يذهب خطوة أبعد، وأسوأ، فى تفسير الإنسان :
        ((فأسلوب الإنتاج فى الحياة المادية هو الذى يحدد صورة العمليات الاجتماعية والسياسية والمعنوية فى الحياة )) [ماركس]0
        ((الإنتاج وما يصاحبه من تبادل المنتجات هو الأساس الذى يقوم عليه كل نظام اجتماعى))[إنجلز]0
        ((فالإنسان كله ليس له وجود ذاتى فى رأى ماركس وإنجلز؛ لا شعوره ولا أفكاره ولا بواعثه الذاتية، وإنما هو مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى الذى يوجد خارج كيان الإنسان!
        ((فى الإنتاج الاجتماعى الذى يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها، وهى مستقلة عن إرادتهم 00 ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذى يعين مشاعرهم ))[ماركس]0
        ((إن الأسباب النهائية لكافة التغيرات أو التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها فى عقول الناس، أو فى سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين، وإنما فى التغيرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل ))[إنجلز] 0
        ولكن المهم – هنا – أن التفسير المادى للتاريخ حين يتحدث عن ((الإنسان)) لا يتحدث عنه فرداً . فهو مشغول دائماً ((بالعمليات الاجتماعية)).. ولا يتصور للفرد وجوداً إلا من خلال العمليات الاجتماعية 0
        الفرد لا وجود له فى رأى ماركس وإنجلز .. فهو لابد أن يتمثل فى ((طبقة))! ولابد أن يتشرب ويتكيف بمصالح الطبقة التى ينتمى إليها. وانتماؤه إلهيا هو الذى يحدد له مشاعره وأفكاره، وأخلاقه وتقاليده، وموقفه من الحياة.. أما أن يفكر فى الحياة فرداً مستقلاً ذا كيان متميز، ويكون له – على هذا الوضع – أفكار ذاتية أو مواقف ذاتية، فمسألة مستحيلة فى عرف التفسير المادى للتاريخ! والفرد  المتميز الذى تحكى عنه وقائع التاريخ هو أسطورة صنعها الناس(لماذا؟!). وحقيقة الأمر، التى تبينها الدراسة ((العلمية)) أنه لم يوجد قط فرد من هذا النوع. إنما كان الفرد دائماً متمثلاً فى طبقة خلال التاريخ كله. ثم كان الفرد ((المتميز)) دائماً مجرد إنسان ابعد نظراً أو أكثر استشفافاً للاتجاه الطبقى المقبل، الحتمى، الذى تفرضه التطورات الاقتصادية والمادية، فقام يبشر بالاتجاه ((الحتمى)) المقبل !
        وإذن فالإنسان كله فى مقام التبعية للتطورات الاقتصادية والمادية الحتمية، والفرد- من هذا الإنسان- فى مقام التبعية الدائمة للمجتمع، التابع بدوره لهذه التطورات!
        وفى تلك الفترة تحول الإنسان من عبادة نفسه، إلى عبادة الآلهة الجديدة000 آلهة الحتميات!
* * *
        انحراف جاهلى آخر لا يقل تطرفاً عن الانحراف الجاهلى السابق، الذى أبرز الفرد على حساب المجموع!
        كلاهما رد فعل لحركة سابقة00 وكلاهما يتسم بالتطرف المعيب!
        إن الذى لا تطيق الجاهلية أن تتصوره فى كل مرة، أن الفرد ليس منفصلاً عن المجموع! كلاهما أصيل، لأنه حقيقة!
من أين يأتى المجتمع إن لم يأت من مجموع الأفراد؟!
        إن نقطة الضلال الأكبر فى التفسير الجمعى للحياة البشرية، أنه يرى جانباً واحداً من هذه الحياة: جانب خضوع الفرد لأشياء يفرضها المجتمع عليه، على غير هواه!
         وتلك ولا شك حقيقة00 ولكن ما دلالتها؟
        لقد أقر دركايم-وإن كان قد سحب اعترافه فى نفس اللحظة!- بأن الظاهرة الاجتماعية تحدث نتيجة عدد كبير من الضمائر الفردية00 أى00 ماذا؟ أى أن الفرد- بطريقة ما- ممثل فى هذا المجتمع تمثيلاً إيجابيا له ضغطه ووزنه ودفعه للحياة0 والإخضاع الذى يفرده المجتمع على الفرد فى بعض أمره- بل فى كل أمره حسماً للجدل!- ليس له إلا حالة من حالتين:
        إما أنه إخضاع((صالح))00قمعنى ذلك أن اجتماع عدد كبير من الضمائر الفردية الصالحة يفرض سلطانه على الفرد المنحرف ويقول له: مكانك! لا تخرج على الحدود المرسومة!
        وإما أنه إخضاع فاسد0 فمعنى ذلك أن اجتماع عدد كبير من الضمائر الفردية الفاسدة- أى الطاغية المنحرفة- يفرض سلطانه على الفرد الصالح ويقول له: إما أن تسير معنا، وإما أجليناك عن الطريق!   
        وفى كلتا الحالتين هو اجتماع عدد كبير من الضمائر الفردية0 تزداد قوة باجتماعها0 نعم0 ولكن لا تخرج عن طبيعتها((الإنسانية)) فى النهاية0 فالفرد والمجتمع- كلاهما- هما((الإنسان))! وليس الفرد وحده ولا المجتمع وحده هو الذى ينحصر فيه وصف((الإنسان))! 
        والتفسير الجمعى أو التفسير المادى يخلطان المسألة خلطاً لا يتميز فيه كيان الفرد، لأنهما- كما قلنا- يأخذان جانباً واحداً من الحياة، هو خضوع الفرد للمجتمع فى جميع الأحوال0
        ولكنهما- فى عماية جاهلية- ينكران الواقع00 الواقع الذى يسجل خروج أفراد على مجتمعاتهم، ووقوفهم منها موقف المناجزة والصراع0
        وكون المجتمعات تسحقهم، ليس هو موضع الدلالة هنا0 فالمهم أنه يحدث بالفعل أن يحس فرد بكيانه المتميز إلى الحد الذى يقف فيه إزاء((المجتمع)) يعارضه ويتحدى سلطانه0
        ثم إنه ليس صحيحاً أن المجتمعات فى كل مرة تسحق هؤلاء الأفراد!
        لا فى الخير ولا فى الشر يصح هذا الزعم المذهبى المتعصب الذى ينكر الحقيقة!
        ولنبدأ بمثال الشر، لأنه أقرب إلى واقع هذا التفسير المتعصب!
        ما القول فى تاريخ ستالين؟!
        كيف يصفه خروشوف؟
        ألم يقل عنه إنه أبشع مثال للزعامة الفردية التى فرضت على((المجتمع)) عبادتها؟! فكيف كان ذلك يا أيها التفسير الجاهلى للتاريخ؟
        إنه- حسما وصفه المخلص الأمين خروشوف-لم يكن يمثل مصالح المجتمع الحقيقية0 ولم يكن بالتالى يمثل مصالح((الطبقة)) الحاكمة(نظريا)!) وهى طبقة البروليتاريا00 إنما يمثل شهوة سلطان فردى طاغ لا يرحم00 فما تفسيره إذا ألغينا بالكلية التفسير الفردى للتاريخ00؟!
        ومن جانب الخير00 الأنبياء والقديسون والدعاة والمصلحون00 الذين يبرزون أفراداً فى وسط طاغوت المجتمع، فيقفون له وقفة الحق، ينتصرون للخير، وللحق والعدل الأزليين00 وينتصرون0 إما نصراً مباشراً يشهدونه فى أثناء حياتهم، وإما نصراً لأفكارهم ومبادئهم00 ما تفسيرهم إذا ألغينا بالكلية التفسير الفردى للتاريخ00؟!
        على أنه لا ينبغى أن يفسر التاريخ البشرى بالأفراد وحدهم، ولا بالمجتمعات وحدها00 فكلاهما تفسير جاهلى منحرف عن((الواقع)) التاريخى ذاته00
        إنما يفسر((بالإنسان))00 الإنسان الشامل الذى يشمل الفرد والمجتمع معاً، متفاعلين تفاعلاً دائماً فى واقع الحياة0
        ولقد يبرز الفرد مرة00 ويبرز المجتمع مرة00 ولكن هناك بديهية تعمى عنها المذاهب الجاهلية، هى حقيقة التفاعل المشترك بين شقى الإنسان: الفرد والمجتمع معاً، فى كل لحظة على مدار التاريخ0  
        الفرد يعمل عن طريق المجتمع، والمجتمع يعمل عن طريق الفرد00 ولا وجود لأحدهما خارج كيان الآخر، كما يتصور التفسير الجاهلى الفردى، أو التفسير الجاهلى الجمعى00 كلاهما سيان!
* * *
        وواقع البشرية اليوم فى ظل الجاهلية الحديثة هو أن تختار لها لوناً من ألوان الطغيان!
        إما أن تختار طغيان الفرد00 فتنخرط فى سلك الدولة الفردية الرأسمالية0 وإما أن تختار طغيان المجتمع، فتنخرط فى سلك الدولة الجماعية00 هذا إذا كان لها حق الاختيار! فالبشرية فى ظل الجاهلية لا تملك الاختيار00 إنما يحكمها الطاغوت الذى تخدمه الظروف فيقفز إلى السلطان!
        وتلك حصيلة الانحراف((المزمن)) عن منهج الله!
        حصيلته أن يضيع الكيان الحقيقى((للإنسان))!
        فالفرد المنسلخ عن المجتمع، ينسلخ عن جزء أصيل من كيانه0 كيانه هو الفردى0 ويقف موقف الصراع من ذات نفسه0 وينتهى به الأمر إلى الجنون والانتحار، وضغط الدم وفساد الأعصاب00 و((اللامعقول))!
        والمجتمع الذى يسحق كيان أفراده، يسحق فى النهاية ذاته! إن حصيلة((الأصفار)) البشرية لا يمكن أن تكون كمية موجبة! إنما هى مطية للطاغوت الحاكم، الذى يكون هو((الزعيم الأوحد)) وهو حاكم متمتع بالسلطان، و((المجرم الوحشى)) إذا مات أو انزلق عن السلطان00
        ثم تقول الجاهلية عن نفسها إنها فى قمة((التطور)) البشرى! وإنها قد استغنت عن وصايا الله!


[1] انظر كتاب ((التطور والثبات فى حياة البشرية))0
[2] ((الإنسان ذلك المجهول)) ص318 – 319
[3] ((مباهج الفلسفة)) ص225
[4] قواعد المنهج فى علم الاجتماع )) ترجمة الدكتور محمود قاسم ومراجعة الدكتور السيد محمد بدوى مقدمة الطبعة الثانية ص15
[5] ص 22 من المصدر السابق 0
[6]  من العجيب أن دركايم يقر هنا بأن الظاهرة الاجتماعية تنشأ من عدد كبير من الضمائر الفردية ولكنه سرعان ما ينسى هذه الحقيقة التى يقررها، لشهوة مذهبية مستولية عليه فى إنكار كيان الفرد !
[7] ص25
[8] ص166
[9] ص66

Previous Post Next Post