العلاقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان فيما يتصل بالعقوبات الحدية

       ترتبط الشريعة الإلهية الغراء في ثوابتها العامة بعدد من الأحكام والتنظيمات التي شرعها الله سبحانه وتعالى لتحقيق الخيرية العظمى لإنسانية الإنسان، وهي وإن كانت  محل اختلاف في فروعها، إلا أن أصولها محل اتفاق مهما تغير الزمان والمكان والإنسان، لا سيما وأن هناك عددا من الظروف والمستجدات أثبتت فيها هذه الأحكام صلاحيتها لإدارة حياة الإنسان في ظل فشل الأنظمة الأخرى وإن كانت سائدة، وأكبر دليل على ذلك اليوم هو تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.
       إن ما يثار من جدلية العلاقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان فيما يتصل بالعقوبات الحدية لها أبعاد يتقرر من خلالها قصور في الفهم والإدراك لأبعاد الملاءمة في التشريع مع المصلحة الحالّة وما يعتريها ويستجد فيها.
        
أولا: مقاصد الشريعة والعقوبات الحدية

       إن البعد اللغوي لمفهوم المقاصد يعني بها طلب الشيء بعينه، والتوجه إليه، واعتماده، واستقامته، وتوسطه، وهذه هي المعاني المناسبة؛ إذ الشريعة الإسلامية تطلب مصالح العباد بعينها وتتوجه إليها، وتعتمدها  على استقامة ووسطية التكليف بها.
       إن الحديث عن المقاصد – إضافة إلى ما تعرضنا له من أبعاد مفهومها في مدخل هذه الدراسة - يتصل بعلم أصول الدين، والفقهاء قديما لم يعرّفوها، وإنما تعرّضوا لها باعتبارها متصلة بعلم العلل، وبعضهم وإن أفرد لمقاصد الشريعة أجزاء وبحوثا، إلا أنه لم يرد أن يدخل في التعريفات المستحدثة ومناقشة المناطقة والمتكلمين؛ ولعل وضوح معنى المقاصد هو الذي جعل هؤلاء الأوائل لم يعرّجوا على تعريفها لكونها معرّفة عندهم.
       أما المحدثون فقد عرّفوها بعدة تعريفات جريا على عادة العلماء في عصرهم، وهي جميعها ترتبط بالغايات والمصالح التي دعاهم المولى           عز وجل للالتزام بشريعته من أجلها، سواء أكانت هذه المصالح عاجلة أم آجلة. [1]
       إن المقاصد على اختلاف أقسامها ووسائل إثباتها ومستوياتها ينبغي تحقيقها والمحافظة عليها بالتزام الأحكام والضوابط المتصلة بالشريعة الإسلامية تحقيقا لحفظ هذه المصالح تمسكا بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا بد في ذلك من الالتزام بالسبل والوسائل التي تحقق هذه المقاصد وتحافظ عليها وتمنع من إهدارها أو ضياعها. والواقع أن وسائل التحقيق والحفاظ على المقاصد جملة، إنما يتمثل في الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلا.[2]
       وهناك من المقاصد ما هو عام وخاص، وقد جمع علال الفاسي مقاصد الشريعة العامة منها والخاصة تعريفها موجزا فقال: " المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها "، فشطره الأول ( الغاية منها )، وهو في ذلك يشير إلى المقاصد العامة، وبغيته تعريف المقاصد الخاصة أو الجزئية.      
       وزيادة في التوضيح فإن المقاصد الشرعية المرعية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
·                  المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها، وما كان منها أعمّ فهو أهم. أي أن المقاصد التي روعيت في جميع أبواب الشريعة أعمّ وأهمّ من التي روعيت في كثير من أبوابها، وهكذا يكون شان القسمين التاليين.
·                  المقاصد الخاصة: وهي التي تهدف الشريعة تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة من أبواب التشريع، وذلك كمقاصد الشارع في أحكام العائلة، ومقاصد الشارع في الأحكام المالية، وما إلى ذلك من الأبواب.
·                  المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع في كل حكم شرعي من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة، أو إباحة أو شرط أو سبب.[3]
وأيا ما كانت التفريعات والتقسيمات في نظرية المقاصد، فإن في هذه النظرية تقررت العديد من الأحكام لحفظ المصالح الضرورية والحاجية والتكميلية، والتي منها العقوبات الحدية التي تعد موطن الجدل بين المقاصد وحقوق الإنسان، حيث تقررت من الشارع الحكيم تحقيقا لحفظ المصالح الضرورية للإنسان، حيث يرى المنظّرون في الفكر الآخر لحقوق الإنسان أن تشريع مثل هذه العقوبات فيه انتهاك لحقوق الإنسان، ومن ذلك على سبيل المثال ما يرونه في تعدد الزوجات حيث يعتبرونه انتهاكا لحقوق المرأة، ونظرية المقاصد الإسلامية ترى فيه حفظا للنسل والعرض، والقول في ذلك مستفيض ضمن محور جدلية العلاقة والجامع المشترك.
       وأيا ما كانت محاور نظرية علم المقاصد، فإن هذه المقاصد وإن كانت ترتبط بالنصوص والأدلة، إلا أن منها ما هو ثابت، ومنها ما هو قابل للتجدد، وهذا يحتاج إلى مزيد من الاستقراء لأحكام الشريعة والاستنباط لعللها، ولتوسيع لائحة مقاصد الشريعة وجعلها – أو جعل أكثر ما يمكن منها – محل اتفاق يرجع إليه ويحتكم إليه في فقهنا اليوم وغدا.
       كما لا بد من إعادة النظر في حصر الضروريات الخمس المعروفة؛ وذلك لأن هذه الضروريات أصبحت لها – بحق – هيبة وسلطان، فلا ينبغي أن نحرم من هذه المنزلة بعض المصالح الضرورية التي أعلى الدين من شأنها، والتي قد لا تقل أهمية وشمولية عن بعض الضروريات الخمس، مع العلم أن هذا الحصر اجتهادي، وأن الزيادة أمر وارد منذ القديم.[4]
       وأيا ما كانت الاستفاضة بالقول في نظرية المقاصد، فهي في النهاية نظرية مبنية على استنباط الحقيقة والعلّة والحكمة من التشريع، وذلك بما يقرر أبعاده التنظيمية لحياة الإنسان الآنية والمستقبلية.

ثانيا: حقوق الإنسان

       إن إقرار حقوق الإنسان بمختلف أبعادها واستراتيجياتها مسألة تنبني على المصلحة التي تقررها مقاصد الشريعة بأحكامها وضوابطها في تعاملها مع حياة الإنسان ومستجداتها، ومن أجل ذلك كان تعزيز حقوق الإنسان بما يكفل حماية إنسانيته وكرامته هو الهدف الذي من أجله شرع الله ونظم حياة الإنسان، وذلك بعد أن أمره باعتناق ما يدل على انتماءه لمنظومة هذه الأحكام.
       إن حقوق الإنسان وفق ما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تتمثل بالاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وأن أي أعمال همجية من شأنها أن تؤذي الضمير الإنساني تعد انتهاكا لحرمة هذه الحقوق.
       وهي التي من الضروري أن يحميها القانون حتى لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم، وهي التي تقع محل إيمان شعوب الأمم المتحدة بحقوق الإنسان الأساسية.
       وهي تعبر كذلك عن المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم؛ وذلك حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم.[5]     
       وبذلك فإن مفهوم حقوق الإنسان وفق ما قررته ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو شيء ينبع من الضمير الإنساني، وذلك بحيث يعد انتهاكه همجية تؤذي هذا الضمير وتزعجه.
       وإذا كانت هذه هي الخطوط العريضة لمفهوم حقوق الإنسان وفق ما قرره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يفرض التزامه من خلال العهدين والبروتوكول الاختياري السابق الإشارة إليهما، إلا أنه يفتقر إلى عقوبات رادعة تردع عن انتهاك ما قررته هذه المواثيق. ومن جانب آخر فإن هذا المنظور يختلف عما هو مقرر في منظومة حفظ حقوق الإنسان في شريعة الإسلام، حيث السيادة لشريعة الله وليس لضمير الإنسان الذي قد يكون أعمى في بعض الأحيان، ومتعامٍ في كثير من الأحيان، فالإسلام هو المسؤول الأول عن رعاية سيادة الإنسان ضد سائر الآفات التي قد تتربص بها، ومن ثم فإن السلطة التشريعية في حياة الإنسان إنما هي لله وحده، حيث جاء التشريع الإلهي لرعاية حقوق الإنسان وحماية كرامته مما قد يتهدد سيادته التي متعه الله بها، كما جاءت هذه الشريعة مستوعبة لسائر المصالح الإنسانية على اختلافها وتنوّعها، فهي لا تأمر إلا بما فيه خير وصلاح الإنسان، ولا تنهاه إلا عما فيه شر وفساد له؛ لذلك صحّت القاعدة القائلة: حيثما وجدت المصلحة فثمّ شرع الله.
       إن المشرع الذي هو الله عز وجل قد اطلع على المحاور المصلحيّة التي يدور عليها شرعة المنزّل، وأنبأه أن مدار الأحكام التي يأخذ عباده بها إنما هو مصالحهم العاجلة والآجلة، فإن تعارض بعضها مع بعض روعي في ذلك ما يقتضي تفاوتها في الأهمية والرتبة، وهو محل اجتهاد وفق ما تقرره المصلحة المعتبرة حيال الظروف والأحداث والمستجدات.[6]
       إن تعاليم الإسلام الخالدة من كتاب وسنة تعد نفحة ضخمة من السماء لتوطيد مكانة الإنسان في الأرض، وهي حماية له من الآفات التي تمسخ وظيفته في الوجود، أو تحرمه من الحقوق المقررة له منذ الأزل، مادية كانت هذه الحقوق أم أدبية.
       وإذا كان الميثاق العالمي قد أورد إحصاء يستوعب التفاصيل ولا يسأم التكرار، فإن ما يقرره الإسلام نستقرئ  منه الحقائق جملة، وهو في ذات الوقت يتجنب التكرار.[7]
       وبالنظر إلى ما قررته حقوق الإنسان التي صدرت عن منظمة المؤتمر الإسلامي، فإننا نجدها تقرر إلهية وقدسية المصدر، والذي أمر بحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال والنسل.
       كما قررت ديباجة هذه الوثيقة بأنه مع احترام الخصوصية التي تنطلق منها وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام، فإن هذه الوثيقة تعد مساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، مراعية في ذلك القواسم الإنسانية المشتركة، إلا أنه مع ذلك فإن الحقوق الأساسية والحريات في الإسلام جزء من دين المسلمين، و لا يملك أحد تعطيلها كليا أو جزئيا.[8]   
       وبذلك فإن ثمة قواسم مشتركة عديدة بين حقوق الإنسان التي تقررها المواثيق الوضعية، وبين حقوق الإنسان التي تقررها وثيقة حقوق الإنسان القائمة على إلهية المصدر، كما أن هناك اختلاف في آلية تفعيل هذه الحقوق على أرض الواقع، وفي سبل حمايتها وحفظها من الانتهاك، وهذا ما ولّد جدلية وجامعا مشتركا نعرّج عليه بالقول فيما يلي من سطور.

ثالثا: جدلية العلاقة، والجامع المشترك

       لا مراء في أن جدلية العلاقة بين مقاصد الشريعة فيما تتحقق من خلاله بالالتزام بأحكام الشارع الحكيم وحقوق الإنسان، لا تتمثل فيما يقرره كل منها، فهناك قواسم مشتركة بينهما، وهي ما تعد بحق جامع مشترك بينهما.
ولكن الجدلية تثور في آلية التفعيل والحماية لمثل هذه الحقوق، وما يمكن اعتباره من أفعال مندرجا تحت انتهاك حقوق الإنسان، وما يعد انتهاكه ومصادرته انتهاكا لحقوق الإنسان، وهي جدلية حتمية باعتبار اختلاف مصدر الإقرار لهذه الحقوق وسبل تفعيلها وحمايتها بما يحقق مصلحة الإنسان في كل زمان ومكان.
وقد ذكر محمود السيد الدغيم بأن إحقاق حقوق الإنسان تتأتى بالإصلاح الاجتماعي، فلا إحقاق للحقوق في ظِلِّ الفساد والإفساد القائم على الجور والظلم؛ لذلك فإن الشريعة الإسلامية الغراء قد أقرَّت المقاصد الشرعية الإسلامية لتحقيق الإصلاح الاجتماعي القائم على إنصاف الإنسان وإعطائه كامل حقوقه في ظلِّ العدل والمساواة، وبناءً على ذلك تتطابق نتائج حِكْمَةِ الْحُكم وعلته، ويتجلى ذلك في المقصد الذي ترمي إليه الأحكام من خلال درء المفاسد وجلب المصالح للمخلوقات.
إن استقراء المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية يوضح أن الشريعة قد جاءت من أجل حماية الكون، وفي مقدمة ذلك إنصاف الإنسان وتحريره من الظلم، كما فرضت أحكاما للحلال والحرام، وأباحت الرخص بشروطها المعقولة في حالات استثنائية من أجل حفظ المهجة، ورعاية المصالح العامة والخاصة، واعتماد تقعيد العموم والخصوص، وإقرار فقه الحقوق الإنسانية العامة والخاصة عملا بقاعدة "لا ضرر ولا ضرار".
ومَن يستقرئ أصول الأحكام الشرعية وفروعها يجد توافقاً عقلياًّ وشرعياًّ على ضرورة توفر الشروط الخاصة بكل حُكم، والشرطُ العامّ فيها هو توفر الأهلية باعتبارها مناط التكليف الشرعي القائم على الأمرِ بطاعةٍ، والنهي عن معصيةٍ، واشتراطُ الأهلية لوجوب التكليف هو الضمان الأساسي لحقوق الإنسان؛ وذلك  لأن انعدام الأهلية يُسقط التكليف لعدم وجود الاستطاعة.
وبمعنى آخر فإن طاعة الحاكم الشرعي أو غير الشرعي لا تقتضي ظلم الرعية؛ وذلك لأن ظلمها يتعارض مع مقاصد الشريعة الشرعية، ومع شرعة حقوق الإنسان الوضعية، والفارق كبير بين طاعة الخالق، وطاعة المخلوق، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة المخلوق من أجل طاعة الخالق، وبناء على ذلك يتضح الواجب الشرعي القاضي بالإنصاف، والناهي عن الظلم، وميزان تقييم تأدية الواجب هو مدى التزام الحكام عامةً وخاصّةً بتطبيقِ العدل المأمور به شرعاً وعقلاً ونقلاً، وتَجَنُّبِ الْجَور المنهي عنه شرعاً وأخلاقياًّ وإنسانياًّ وفلسفياًّ.
ثم يقرر الدغيم بأن رصد وقائع الأحداث في عالمنا المعاصر يوضِحُ وجود حراك وجدال ومناظرات في الميادين الفكرية والتشريعية والسياسية والفلسفية، وكل فريق يدعي أنه يمتلك الحل السحري للمعضلات البشرية، ويضمن حقوق الإنسان من العدوان، ويتمسك بالديمقراطية التي تخدمه، ولو ألغت الفريق المعارض له. وفي خضم الجدال نجد بعض المجادلين الناقمين على الإسلام يعادون أفكار الآخرين بسبب التعصب الذاتي، وبسبب جهلهم بما عند الآخر، والإنسان عدو ما يجهل بالغريزة، ومن هنا فإن من يعادي الشريعة الإسلامية ويعتبرها خطراً على حقوق الإنسان إنما يرجع سبب إقدامه على ذلك إلى جهله بأحكام الشريعة وأسبابها وشروطها وعللها.
وهناك مَن يدعي مسّ الشريعة الإسلامية بحقوق الإنسان، وسبب الادعاءات هو أن ذلك الْمُدّعي لم يقرأ التراث الشرعي الإسلامي، فهو يهاجم بدوافع الحقد والكراهية والأحكام المسبقة، وذلك دون وضع اعتبار للأدلة الواضحة للمنصفين، ولكن المنصف الذي درس التراث، واعتنى بتأصيل العلوم، وعرف سياقها التاريخي بشكل دقيق يعلم عدالتها، فهو يتأكد من شرعيتها بإسنادها إلى المصدر الأول في عهد النبوة؛ إذ أن العمل بما هو شرعي يقتضي النصَّ قولاً أو عملاً أو إقراراً، ولدى استقراء ما وصلنا من عهد النبوة والخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية فالعباسية فالعثمانية نجد تسلسل انتقال العلوم من التأصيل إلى التفريع، ومن الإجمال إلى التفصيل، وفي استقراء وقائع الأحداث في جميع المراحل التاريخية منذ فجر الإسلام حتى الآن نجد أن حفظ حقوق الإنسان منوط بالتمسك بمقاصد الشريعة التي يُعبَّرُ عنها بالمصالح، وقد وصلتنا نصوص مخطوطة لعلماء أجلاء تدعم الروايات الشفوية المتواترة بالسماع الصحيح الذي أخذه الخلف عن السلف.
ومن العلماء المؤلفين الذين تركوا لنا نصوصا مضيئة حول المصالح الإنسانية العزّ بن عبد السلام المتوفى عام 660هـ/ 1262م، والتي ضمّنها كتابه ‏(‏ قواعد الأحكام في مصالح الأنام )، وبيَّن كيفية "جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا"، وقال: " لِلدارَيْنِ مَصَالِحُ إذَا فَاتَتْ فَسَدَ أَمْرُهُمَا، وَمَفَاسِدُ إذَا تَحَقَّقَتْ هَلَكَ أَهْلُهُمَا ".وفي هذا الكلام إشارة إلى حفظ حقوق الإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن كتب التراث الإسلامي الرائدة في إيضاح حقوق الإنسان كتاب الموافقات الذي ألفه الشاطبي المالكي، وضمَّنه مقاصد الشريعة الإسلامية التي تضمن حقوق الإنسان، وكانت وفاة الشاطبي سنة 790 هـ/ 1388م، وذلك في عهد السلطان العثماني مراد الأول الذي استشهد بعد الانتصار في معركة كوسوفو.
 إن مصطلح المقاصد عند الأصوليين مُواز لمصطلح المصالح، وما فيه مقصد للشريعة فيه مصلحة للبشر، ومجيء المصالح بمعنى المقاصد وارد عند الزركشي الشافعي (745 - 794 هـ/ 1344 - 1392م)، حيث يستخدم مصطلح المصالح بدل مصطلح المقاصد، وهذا واضح في كتاب البحر المحيط في أصول الفقه حيث يقول: "قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ إجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ, إمَّا عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ عَلَى أَصْلِنَا, أَوْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ, فَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ, وَلا لأَنَّ خُلُوَّ الأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ، وَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ لا يَقَعَ كَسَائِرِ الأُمُورِ الْعَادِيَّةِ ".
ويستخدم الزركشي مصطلح الاستصلاح في قوله: "وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفْنَاهُ مِنْ الشَّرَائِعِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى الاسْتِصْلَاحِ, ودَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى مُلاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِيَّةِ، وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَأَنَّهَا لا تَنْفَكُّ عَنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ". وتتعدد المصطلحات المرتبة بالمقاصد والمصالح عند الأصوليين المسلمين، وهذا واضح عند الزركشي في معرض البحث في موضوع "[ الْمَسْلَكُ ] الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ [الْمُنَاسَبَةُ]"، حيث يقول الزركشي:  "وَهِيَ مِنْ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ, وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ " الإِخَالَةِ " وَبِـ " الْمَصْلَحَةِ " وَبِـ " الاسْتِدْلالِ " وَبِـ " رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ "، وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " لأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ. وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ، وَغَمْرَتُهُ، وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ. وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، أَيْ : الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُلاءَمَةُ"، وفي هذا الكلام إيضاح لعدد من المرادفات التي استعملها العلماء للتعبير عن مراعاة المقاصد الشرعية ورعاية المصالح الإنسانية، وهذا دليل على قِدَم الاهتمام بالمقاصد والمصالح رغم تنوع المصطلحات المعبرة عنها عبر القرون التي سبقت القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وما زالت معتبرة حتى العصر الحاضر.
ثم يذكر الدغيم في دراسته التي تناول فيها العلاقة الجدلية بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان بأنه مما لا شك فيه أن العلوم قد تطورت، وتفرعت عن الأصول فروع كثيرة، ولم تتخلف الشريعة الإسلامية عن مواكبة العصر حسبما يراه بعض المتخلفين الذين لم يفهموا الشريعة، فللشريعة مقاصد حيوية مناسبة لكل عصر، والمقاصد تتعلق بالفرد وبالمجتمع، وهي بذلك تحفظ حقوق الإنسان الفرد الضرورية المتمثلة بحفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، كما تحفظ الشريعة الإسلامية حقوق الجماعة الإنسانية التي تبدأ بالأسرة، وتتسع لتشمل الإنسانية عامة، وتبدأ بحفظ الحقوق الإنسانية ابتداءً بالعلاقات الأُسَريّة التي تشمل حفظ النوع البشري بتنظيم العلاقة بين الجنسين، وحفظ النسب، وتحقيق السكن والمودة والرحمة جراء التعاون علمياًّ وعملياًّ في كافة المناشط الإنسانية العاطفية والدينية والاقتصادية. وبالإضافة للعلاقات الأسرية أوجبت الشريعة في حلقة أوسع حقوق الأُمّة، وفرضت قيام مؤسسات الدولة لإقامة العدل بين الناس، ولحفظ الأمن والأمان، ورعاية مكارم الأخلاق، وإقرار التكافل الاجتماعي، ونشر العلوم، ومكافحة الجهل، والمحافظة على المال الخاص والعام، والتعاون مع الأمم الأخرى لتحقيق إعمار الأرض المأمور به شرعاً، ومكافحة التدمير والتخريب المنهي عنه شرعا، والأدلة الشرعية على ذلك ثابتة بنصوص القرآن الكريم، والسُّنّة النبوية المطهرة، وأدلة إجماع السلف الصالح، وما يتضمنه التراث الشرعي الإسلامي من المنقول والمعقول.
كما أكد بأنه لا تقتصر حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية على الضروريات، بل تتجاوزها إلى الحاجيات والتحسينيات والتكميليات، فأما الحاجيّات فهي ما يُفْتَقَرُ إليه من حيث التَّوْسِعة على الناس، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وتشمل ما يتعلق بالحاجات العامة، ولا يصل إلى مرتبة الضروريات، وأما التحسينيات فتشمل مكارم الأخلاق، ومُستحسَن العادات والتقاليد، وتستبعد ما يؤذي الذوق العام مما يأنفه العاقلون، واستقراء ما تضمنته الشريعة الإسلامية من مقاصد الشريعة، وما انطوت عليه من الضروريات والحاجيات والتحسينيات والتكميليات، مما يُوضح لنا أن الشريعة الإسلامية قد ضمنت حقوق الإنسان كأفضل ما يكون، وأن دعاوى النقاد المعادين ما هي إلا غمامة صيف لا مطر فيها ولا خير للإنسانية، بل هي دعاوى شاذة تقوم على الجهل والتجني.
كما تضمنت الشريعة الإسلامية آلية لحفظ الحقوق الإنسانية، وذلك بفرض العقوبات على المخالفين لتردعهم عن إلحاق الأذى بغيرهم، حيث تناسبت الحدود الشرعية مع نوعية المخالفة وما تنتجه من ضرر خاص أو عام، فهناك حَدُّ الردة لحفظ الدين، وحَدُّ القتل العمد العدوان قصاصاً لحفظ النفس، وحَدُّ الزنى لحفظ النسب أو النسل، وحَدُّ شرب الخمر لحفظ نعمة العقل، وحَدُّ قطع السارق لحفظ المال، وحَدُّ القذف لحفظ العِرْض والسُّمعة من افتراء المفترين، وتطبيق هذه الحدود هو من أجل ردع من تسول له نفسه تدمير القيم الإنسانية، وليست من أجل التنكيل بالمجرم.
ثم أشار الدغيم إلى ما أورده ابن تيمية بالنسبة للطريقة القويمة والمنهاج الواضح في كيفية التعامل مع كافة القضايا حيث يقول: "والمؤمن ينبغي له أن يَعْرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يَعْرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيُفَرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يُراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويَدْفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويَجْتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإنّ من لم يَعْرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين لم يَعْرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يَعْرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومَن عبدَ الله بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح".
وتعليقا على ذلك أكد بأنه من هنا وجب على مَن يتصدى للحديث في شؤون الأمة بشكل عامّ، وحقوق الإنسان بشكل خاص أن يعلم مضمون الشريعة، وأن يعلم كيفية تعاملها في الحقوق والواجبات كي يستطيع أن يكون مُنصفا، وليس مُتجنياًّ كما هو حال الكثيرين الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، ويدعون أن الشريعة الإسلامية هي السبب، والراجح أن الذي يدفعهم إلى اتخاذ تلك المواقف هو سبب واحد من اثنين لا ثالث لهما: إما الحقد على الإسلام والمسلمين، وإما الجهل المطلق بمضمون الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان ".[9]
       وتقريبا للصورة فإنه لا تثار جدلية في حق الدفاع عن النفس في مختلف مواثيق حقوق الإنسان، ولكن تثار هذه الإشكالية في توظيف مثل هذا الحق، كذلك فإن ما تعتبره بعض الدول فيما تتخذه انطلاقا من خصوصياتها عقيدة وثقافة، قد تعتبره دولا أخرى انتهاكا لحقوق الإنسان، هذا فضلا عن أن آلية حماية هذه الحقوق محل اختلاف ضمن الأنظمة الداخلية والعالمية، لا سيما وأن الدعوة إلى ذلك تتأصل لحماية مصالح فئوية، ففي شريعة الإسلام تتقرر الحماية لحق الحياة بالقصاص على القاتل العمد، وهو ما قد تعتبر في مواثيق أخرى انتهاكا لحقوق الإنسان، وفي هذين المحورين يتأتى موطن الجدلية والإشكالية بين مقاصد الشريعة ومتعلقاتها الكلية والجزئية، وبين ما تستهدفه مواثيق حقوق الإنسان الأخرى من أهداف وفق تنظير بشري يختلف في منطلقاته وأدواته عما تقرر في منظومة الشارع الحكيم.
وبناء عليه فإنه ليس من المستغرب في ظل هذه الجدلية المصطنعة، والتي تفوح منها المصلحية الفئوية أن يؤيد العرب والمسلمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حين يجدون فيه مجموعة من المبادئ الإنسانية السامية، والتي تتفق في مجملها مع دينهم وتقاليدهم؛ لذلك فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحقق أهدافا مثالية تلبي حاجات الإنسان للأمن والسلام، حيث أن من الضروري المحافظة عليها وتطويرها نحو الأحسن، وإحاطتها بضمانات جماعية حتى تؤدي أهدافها النبيلة بصورة أحسن تنفيذا لتوصية القرآن بضرورة التعاون على البر والتقوى، ثم لا بد من بيان ما قرره الإسلام في ذلك، ولا شك أن تقيد المسلمين بالقواعد التي تحمي حقوق الإنسان والتزامه بها هو أهم ما يحسّن من صورة الإسلام، وذلك بالتصدي للحملات الظالمة التي يتعرض لها.[10]
لذلك فإن الجدلية بين منظومات حقوق الإنسان، وما تقرر حماية لمقاصد الشريعة لا تثور بالنسبة لمحاور الحماية، فكلهم يتفقون جملة لا تفصيلا على تحديد محاور هذه الحماية وضرورة حمايتها، ولكن الإشكالية تثور بالنسبة لآلية الحماية لهذه الحقوق، وتحديد ما يعد انتهاكا لها مما أقر من أجل حمايتها مما لا يعد كذلك، وهنا لا بد أن تحترم الخصوصيات بين مختلف الشعوب.





[1] محمد بكر إسماعيل حبيب، مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، مرجع سبق ذكره، ص 15.
[2] محمد بكر إسماعيل حبيب، مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، مرجع سبق ذكره، ص 305.
[3] الريسوني – أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سبق ذكره، ص 17.
[4] الريسوني – أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سبق ذكره، ص 386.
[5] الصفار – حسن، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، مرجع سبق ذكره، ص 155.
[6] البوطي – محمد سعيد رمضان، الله أم الإنسان ... أيهما أقدر على رعاية حقوق الإنسان ؟، ط: 1، 1419 – 1998، دار الفكر، دمشق – سورية، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، ص 14.
[7] الغزالي – محمد، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، ط: 3، 1404 – 1984، دار التوفيق النموذجية، القاهرة – مصر، ص 11.
[8] الصفار – حسن، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، مرجع سبق ذكره، ص 172.
[9] الدغيم - محمود السيد، الجامع المشترك بين مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، كلية الدراسات الشرقية والإفريقية- SOAS  جامعة لندن ببريطانيا، وهذه الدراسة منشورة على الموقع الإلكتروني: www.amanjordan.org، وتاريخ دخول الموقع هو:            5 / 1 / 2009.

[10] الشريف – كامل إسماعيل، حقوق الإنسان والقضايا الكبرى، من أبحاث ندوة حقوق الإنسان في الإسلام، 19 – 21 ذو القعدة 1420 – 25 – 27 فبراير 200، الأمانة العامة، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة – السعودية، ص 122.

Previous Post Next Post