قانون العمل والضمان الاجتماعي
    ارتبطت نشأت فكرة قانون العمل في أعقاب الثورة الصناعية، وما ترتب على استخدام الآلات الحديثة من ظهور طبقة العمال ، التي تعرضت لظلم اجتماعي فترة من الزمن نتيجة سيادة المذهب الفردي وما يقرره من حرية التعاقد لكن تقدم الصناعة وما أدى إليه من زيادة قوة الطبقة العاملة ، ومناداتها المستمرة بضرورة تدخل الدولة لتنظيم علاقات العمل بصورة تحفظ للعمال حقوقهم ، وتحميهم من تعسف أصحاب العمل ، الأمر الذي أدى إلى إصدار تشريعات في هذا الصدد تهدف إلى حماية الطبقة العاملة ، ثم ما لبثت هذه التشريعات أن كونت فرعاً مستقلاً من فروع القانون الخاص ، وهو ما يطلق عليه قانون العمل .
    وقبل ذلك بكثير ارست الشريعة الاسلامية مجموعة من القواعد والمبادئ المتعلقة بتنظيم هذه الناحية من حياة البشر.
    فمن التكاليف التي فرضها الله على الإنسان عاملاً كان أو صاحب عمل (مستثمراً) ، خفيراً أو وزيراً هي العمل لعمارة الأرض وعبادة الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى:              هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ    (هود: 61)، ويقول الله تبارك وتعالى أيضاً :  هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ    (الملك: 15)  ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب الحلال فريضة بعد الفرائض" (رواه الطبراني عن ابن عباس)، ويقول كذلك : "اليد العليا خير من اليد السفلى" (رواه البخاري).
    ولقد رفع الله درجة العمل إلى مرتبة العبادة وقرنه  بالإيمان في كثير من الآيات قال الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف: 110)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يأخذ أحدكم حبله ، ثم يأت الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجه ، خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه أو منعوه " (رواه البخاري عن الزبير بن العوام) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب العبد المحترف" (رواه البيهقي والطبراني) ، وعن الحض على العمل يقول صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من  عمل يده ، وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده " ، ويقول صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يحب الفارغ الصحيح لا في عمل الدنيا والآخرة ".(رواه أبو داوود )
    حتى ينطلق العامل بإيمانه وخلقه للعمل لا بد وأن توفر له المنشآت مقومات العمل وتضمن له حقوقه... ولقد تضمنت الشريعة الإسلامية الضوابط التى تحدد حقوق العامل ، وهى كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
    أولاً: أن تساعد المنشأة العامل فى وضعه فى مكان العمل المناسب حسب امكانياته وقدراته وطاقته ولا تكلفه مالا يطيق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الكسب كسب يد العمل إذا نصح " (رواه أحمد) ، ويقول صلى الله عليه وسلم كذلك : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
    ثانياً: أن يكون أجر العامل فى ظل الظروف العادية فى ضوء ما يقدمه من جهد، فلا كسب بلا جهد، ولا جهد بلا كسب، ولا يجب أن يكون العامل عالة يكسب ولا يعمل، كما لا يجب أن تبخس المنشأة أجر العامل الصادق القوى الكفء حقه، فهذا يسبب الفساد، ودليل ذلك قول الله  سبحانه وتعالى: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين  [هود:85] وقوله تبارك وتعالى:  فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ َ [الطلاق:6] .
    ثالثاً: التعجيل فى إعطاء أجر العامل حتى يستطيع أن يشترى حاجاته المعيشية، لأن التأخير فى إعطاء الأجر للعامل يثبط الهمم ويقلل من الدوافع والحوافز على العمل ومن الوصايا العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " أعطوا الأجير قبل أن يجف عرقه " (رواه ابن ماجه والترمذي).
    رابعاً: كفالة حق العامل فى الحرية فى إبداء رأيه والمشاركة فى اتخاذ القرارات التي تعينه في عمله، وهذا حق من حقوقه المعنوية التى كفلها له الإسلام في اتخاذ القرار ، وهى الشورى فى الإسلام، والشورى ضد التسلط والكبرياء والقمع والتجاهل، كما أن الشورى أساس الرأى الرشيد ،  يقول الله عز وجل : وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [ الشورى: 38]، إن كفالة الحقوق المعنوية للعامل يحفزه ويدفعه إلى الإبداع والإبتكار ، ويكون راضياً على عمله ويكون عنده ولاء وانتماء إلى المنشأة التي يعمل فيها .
    خامساً: أن تكفل المنشأة للعامل حق الكفاية عند العجز أو البطالة وفى ظل الأزمات وفقاً لنظم التأمينات والمعاشات ونظم التكافل الاجتماعية، ولقد وضع الإسلام نظاماً فريداً لم تتوصل إليه حتى الآن النظم العالمية المعاصرة، هو نظام التكافل الاجتماعي حيث يضمن لكل إنسان حق الحياة الكريمة، ويقوم هذا النظام على: الزكاة  والصدقات والوقف الخيرى والعارية...
    سادساً: أن تكفل المنشأة للعامل الرعاية الإنسانية والاجتماعية والصحية ، وكذلك تجنب مخاطر العمل ، وهذه من الأمور الداخلة في نطاق النظم والقوانين لكل دولة وتتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية ، ولقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال : " من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً ، أو ليست له زوجة فليتزوج ، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً ، أوليست له دابة فليتخذ دابة ، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غلول " (رواه أبو داوود عن المستورد بن شداد)
    يهدف قانون العمل إلى تنظيم عدة مسائل تتعلق جميعها بحماية حقوق طائفة العمال في مواجهة أصحاب العمل ، فهو يضم القواعد التي تنظم عقد العمل الفردي وعقد العمل المشترك ، فيحدد ساعات العمل ، وحق العامل في الإجازات الأسبوعية والإجازات السنوية بأجر ، ويضع حد أدنى للأجور لا يجوز النزول عنه ، كما يؤكد على عدم تشغيل النساء والأحداث في بعض الأعمال ، ويبين أيضاً طريقة إنهاء عقد العمل دون تعسف من صاحب العمل ، وتعويض العامل إذا تعسف صاحب العمل في استعمال حقه في الفصل " الفصل التعسفي " ، كذلك ينظم النقابات العمالية التي تتولى تنظيم العمال والدفاع عن مصالحهم وتغلب على معظم قواعد قانون العمل الصفة الآمرة خوفاً من تحايل أصحاب العمل على قواعد قانون العمل ، وبالتالي لا يجوز الخروج عليها ولا الاتفاق على ما يخالف حكمها ولو برضاء العامل ، اللهم إلا إذا كان الخروج لمصلحته .
    ولقد أجمل قانون العمل الفلسطيني الموحد رقم (7) لسنة 2000م الصادر بمدينة غزة في 30/4/2000 هذه الموضوعات ضمن نصوص مواده ، والذي ألغي بصدوره قانون العمل رقم 21 لسنة 1960 المعمول به في محافظات الضفة وتعديلاته، وقانون العمل رقم 16 لسنة 1964 المعمول به في محافظات غزة وتعديلاته وكل ما يخالف أحكام هذا القانون.
    وعلى هدي ما تقدم سنتناول في دراسة مساق قانون العمل والضمان الاجتماعي أهم الاحكام الواردة في قانون العمل الموحد والمتعلقة بالموضوعات المشار اليها اعلاة.
    ولكن قبل ذلك لا بد من الوقوف علي قانون العمل لبيان ماهيته وتحديد نطاقه .

الفصل الأول
ماهية قانون العمل

    يتطلب الخوض في ماهية قانون العمل تعريفه، وبيان خصائصه، وتحديد مصادره، وبيان مزاياه.
    أولاً: تعريف قانون العمل
    دون الخوض في الاختلافات الفقهية حول تعريف قانون العمل يمكن تعريف قانون العمل بأنه ”مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات الناشئة بمناسبة قيام شخص بالعمل لحساب آخر. وهو فرع من فروع القانون الخاص المعنى بتنظيم علاقات الأفراد بعضها البعض .
ثانياً: اهمية قانون العمل
    لهذا الفرع من فروع القانون أثره البالغ في حياتنا الاقتصادية وحياتنا الاجتماعية مما يجعل له أهمية اقتصادية واجتماعية فائقة . 
    فمن الناحية الاقتصادية يلعب قانون العمل دورا على قدر كبير من الخطورة في توجيه الحياة الاقتصادية وهو سلاح خطير في تأمين سلامة الحياة الاقتصادية إلى حد كبير وإن كان يتعين على الشارع أن يستعمله بكفاءة تامة تحقيقا للاعتبارات الاقتصادية التي تسيطر على المجتمع ويغير هذه الكفاءة في استعمال قوانين العمل قد تسوء الاحوال الاقتصادية .
    
    أن من الأهداف سن قوانين العمل ضمان معاملة عادلة للعمال ومعيشة لائقة وهذا يتم كثيرا بالتدخل عن طريق قوانين العمل لتحديد أجور عادلة أو فرض حد أدنى لها مما يزيد من القدرة الشرائية وهم يمثلون غالبية طوائف المجتمع وبالتالي تتأثر حركة الاستهلاك ازداداً .
    
    ولا شك أن أسباغ هذه الحماية وغيرها على العمال يزيد من أعباء المشروعات الاقتصادية فتحديد اجور مرتفعة والزام اصحاب المشروعات بتوفير خدمات عمالية والمساهمة في مشروعات الادخار والتأمين كل هذه امور تؤدي إلى زيادة نفقات الانتاج مما قد يؤثر في ارتفاع الاسعار . 
    ومن الناحية الاجتماعية يلعب قانون العمل دوراً كبيرا في إشاعة العدالة الاجتماعية عن طريق تحسين حال العمال وهم يمثلون أكبر طوائف المجتمع فلا شك أن في تحسين حال عمال عن طريق ضمان المعاملة العادلة لهم من ناحية الأجور والرعاية الطبية والإجازات اللازمة وإزالة الأسباب القلق والتذمر الاجتماعي مما يحقق الاستقرار في المجتمع كما أن تحديد ساعات وأيام الراحة يجدد من نشاط العمال ويحفظ لهم الصحة مما يؤثر بالتالي في حياتهم العامة والخاصة .

ثالثاً: خصائص قانون العمل
    1. سريع التطور نتيجة لنتنوع وتطور العلاقات التي يحكمها.
    2. يتميز بذاتية الاحكام اي احكامه خاصة بمسائل العمل فقط
    3. كثرة مصادره بحيث نجد ان له مصادر خارجية وداخلية 
    4. الصفة الجزائية لبعض قواعده، وذلك باحتواء قواعده على عقوبات وهذا ما يجعله مميزا عن باقي القوانين
    5. يعتبر قانون جماعي بمعنى اخر قواعده تحكم جماعات بالإضافة لحكمها العلاقات الفردية.
    6. الطبيعة الآمرة لعدد كبير من قواعده، فمثلا لا يجوز للوائح والنظم الداخلية لاي منشأة مخالفة احكام وقواعد قانون العمل، كما لا يأخذ من حيث الاصل بالتنازل عن الحقوق العمالية  اثناء فترة سريان العقد لشبهة ضغط رب العمل على العمال وإرغامه على هذا التنازل.
    7. يتميز بأنه القانون الوحيد الذي يعرف انه قانون اجتماعي

رابعاً: المزايا التي تضمنها قانون العمل الفلسطيني

    1- الاعفاء من الرسوم القضائية: لعل أهم المزايا التي وفرها قانون العمل ما يتعلق بنص المادة الرابعة منه والتي تنص على انه ” يعفى العمال من الرسوم القضائية في الدعاوى العمالية التي يرفعونا نتيجة نزاع يتعلق بالأجور أو الأجازات أو بمكافآت نهاية الخدمة أو بالتعويضات عن إصابة العمل أو بفصل العامل فصلا تعسفيا ”
    والممعن لنص المادة السابقة يجد أنها حددت النزاعات التي يعفى العامل من دفع رسوم التقاضي فيها، وبالتالي فالمنازعات الاخرى التي لا يشملها نص المادة المذكورة يلتزم العامل بدفع الرسوم القضائية بشأنها، ومنها على سبيل المثال:
    أ. المنازعات المتعلقة بمخالفة شروط العقد من قبل رب العمل كتحديد ساعات العمل أو تغير طبيعة العمل المتفق عليه مسبقا.
    المنازعات التي تكون النقابات العمالية طرفا فيها دفاعا عن مصالح العمال.
    المنازعات التي يكون ورثة العامل طرفا فيها بعد وفاته مثل التعويض عن حادث عمل ادى الى وفاة العامل.

2- ضرورة سرعة البث في المنازعات العمالية وشمول احكامها بالنفاذ المعجل

    من المزايا التي كان قانون العمل القديم رقم 16 لسنة 1964 أنه كان ينص على ضرورة سرعة الفصل في المنازعات العمالية وهي ميزة لم يتطرق اليها للأسف الشديد قانون العمل الحالي.
    كذلك الامر بالنسبة لضرورة شمول الاحكام الصادرة في المنازعات العمالية بالنفاذ المعجل رغم امكانية الطعن فيها بالاستئناف لأن القول بغير ذلك يضع العامل تحت وطأة الحاجة والعوز لاسيما مع طول الوقت الذي قد يقطعه الطعن وتعقد الاجراءات.

خامساً: مصادر قانون العمل

    تتعدد مصادر القاعدة القانونية بشكل عام وقواعد قانون العمل بشكل خاص ولعل أهم مصادر الاخير تنقسم الى مصادر دولية وأخرى داخلية او وطنية.

1: المصادر الدولية

    تتحدد هذه المصادر بشكل خلص في المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالعمل وفي هذا السياق يمكن الاعتماد على القواعد والأحكام الصادرة عن منظمة العمل الدولية التي انشئت في 11/4/1919م والتي ألحقت بهيئة الامم المتحدة عام 1946م، والتي تتكون من ثلاث اجهزة رئيسية هي: مؤتمر العمل الدولي، مجلس الادارة، المكتب الدولي للعمل.
    كما يمكن الاعتماد في هذا الاطار على القواعد والمبادئ التي تقررها منظمة العمل العربية والتي انشئت عام 1970م والتي تعتبر احد المنظمات الاقليمية التابعة لجامعة الدول العربية، وتتكون هذه المنظمة من ثلاث اجهزة رئيسية هي: مؤتمر العمل العربي، لجنة المتابعة، المكتب العمل العربي.

2: المصادر الداخلية أو الوطنية

    وتتمثل بدرجة أساسية, فيما تصدره الهيئة التشريعية الوطنية, ثم وبدرجة ثانية ما تصدره السلطة التنفيذية من تنظيمات, أو بدرجة ثالثة ما تفرزه المفاوضات بين نقابة العمال وأصحاب العمل من جهة, ومن جهة ثانية ما تفرزه المفاوضات بين الحكومة وأصحاب العمل من القطاعين العمومي والخاص, ونقابة اتحاد العمال الفلسطينين, وكذا في إطار اللقاءات الثنائية التي تجمع الحكومة مع أصحاب العمل, أو تلك التي تجمع الحكومة مع نقابة الإتحاد العام للعمال.
    تتمثل هذه المصادر اساساً فيما يلي:
    1- التشريع العادي الصادر عن السلطة التشريعية.
    2- التشريع الفرعي الصادر عن السلطة التنفيذية وفي هذا المجال يمكن الارتكاز والاعتماد على القرارات واللوائح الصادرة عن وزير العمل أو وزير الشئون الاجتماعية والمؤسسات ذات الصلة.
    3- مبادئ العدالة والإنصاف.
    4- العرف.
    5- اللوائح والتنظيمات الداخلية للمنشآت العمالية والتي يكون العمال أو النقابات العمالية طرفا في صياغتها.

Previous Post Next Post