الحروب الصليبية التبادل الثقافي
الـحـروب الـصـلـيـبـيـة
استمرت الحروب الصليبية بين ( 1095 – 1291 م ) وعادت القدس سنة 1187 م بقيادة صلاح الدين الأيوبي للمسلمين بعد معركة حطين الاّ أن أثر الحروب الصليبية في نقل علوم المسلمين لم يكن قوياً وذلك لعدة أسباب هي :
1. أن المحاربين الصليبيين كان أكثرهم قليلي الثقافة من عامة الناس ، ومن الحرفيين ولم يكن لدى هؤلاء قدر كافٍ من الحضارة تسمح لهم بتقبل واستيعاب العلوم العربية .
2. إن الصليبيين كانوا يشعرون بشعور المعاداة والتعصب تجاه العرب والمسلمين وانعكس ذلك على عملية الأخذ فكانوا يتوجسون ريبة في كل حالة لها علاقة بالمسلمين خشية وقوع أتباعهم في شرك الإعجاب بالإسلام والمسلمين .
3. انشغالهم بالحروب حيث أنهم حتى في فترات السلم كانوا منشغلين بالإعداد والتهيؤ لحروب أخرى .
وعلى الرغم من كل ما سبق فان الحروب الصليبية كانت فرصة سنحت بالاتصال الوثيق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وطريقاً من الطرق التي انتقلت فيها الحضارة والعلوم ( والطب منها ) من العالم العربي الإسلامي إلى أوربا ولو بشكل يسير .
" جاء الصليبيون غزاة طامعين مخدوعين بتحرير أرض فلسطين من الظلم والظلام الإسلامي وإذا بهم يجدون الإنسانية والعدل ونور العلم مشعة في المشرق الإسلامي فنهلوا من علومها واستفادوا من حضارتها ونقلوا من كتبها إلى عالم أوربا السادر في ظلامه الدامس وهمجيته القديمة ونزاعاته التي لامنقطع لها " [1].
والتخلف في العلوم كان أحد مظاهر أوربا آنذاك وبخاصة العلوم الطبية ، فقد كان مستوى الطب الأوربي دون مستوى الطب العربي بكثير .
يقول مايرهوف " إن المسلمين الذين اتصلوا بأطباء الفرنج أثناء الحروب الصليبية لم يكتموا ازدراءهم العظيم بصناعة أولئك الأطباء وشكهم بمهارتهم . ويظهر ذلك من الرواية التي قصها ( أسامة ) الأمير السوري نقلاً عن طبيبه المسيحي ( ثابت ) هذا الرجل عاين في حوالي السنة 1140 م حالتين جراحيتين خُتمتا بالموت بسبب عقم طرق الجراحة البربرية التي كان يستخدمها الفرنج " [2] .
الأمر الذي دفعهم إلى أن يلجئوا إلى الأطباء العرب ، ولم يكن ذلك لأن في الشرق أمراضاً لا علم لأطبائهم بها فحسب ، بل كان ذلك من غير شك لما ثبت لديهم من تفوق الأطباء العرب في جميع فروع الطب . واتخذ أمراء الفرنجة أطباء من نصارى العرب فكان لعمودي ( عطريق الأول ) طبيب اسمه سليمان بن داؤد ، وحذا حذوه كثيرون من كبار الفرنجة " [3].
" ولما مرض الملك الإنكليزي رتشارد ( قلب الأسد )أكبر خصوم صلاح الدين بعث إليه صلاح الدين طبيبه الخاص لمعالجته ورفّـه عنه بأن أرسل إليه الفواكه والثلج " [4].
وقد روى مؤرخو الحروب الصليبية قصصاً كثيرة تدل على جهل الفرنجة بالطب وتفوق العرب فيه [5] لا يتسع المجال لذكرها جميعاً بل سنكتفي بذكر مايلي :
" ففي عام 1218 م صحب الطبيب الجراح هوغوفون لوكا البولوني فرقة بولونية – مقاطعة في إيطاليا – إلى الحرب في الأرض المقدسة وظل هوغو يضمد جراح مواطنيه ويجبر كسورهم بأساليبه البسيطة مدة ثلاث سنوات ، وكان يرى أن كثيراً من الأسياد يفضلون الذهاب إلى جانب الأعداء للتداوي بالرغم من تحريم رجال الكنيسة . وفي خلال هذه السنوات الثلاث ، توافرت له أكثر من مناسبة للتعرف على هؤلاء الجراحين المسلمين ورؤية عظَمتهم وزيارة مستشفاهم العسكري .
إن مارآه هوغو في معالجة الجروح كان بمثابة صدمة له ، ورأى في لحظة واحدة خطأ ما تعلمه وأخذه عن ابقراط " [6] وصحة ما يقوم به الأطباء العرب والمسلمون في معالجة الجروح وتخدير الجرحى بالحشيش والسكران عند معالجتهم أو قطع طرف من أطرافهم .
" وعاد هوغو إلى وطنه عام 1221 م وقد تفتحت آفاقه العلمية ومداركه .. فسعى إلى نشر معارفه الحديثة بين قومه – وسلك مسلك العرب في كثير من فنون التداوي – فنال شهرة واسعة " .
ويقول الدوميلي :
" العلماء الحقيقيون أخيراً ، بعد أن استقر بهم المقام بضع سنين في الأقاليم التي احتلها المسيحيون ، فيسر لهم ذلك من الفراغ فامكنهم من التعرف على الأدب العربي ، في جانب منه على الأقل … وممن تأثر بأدب العرب تأثراً عميقاً عقليات جديرة بالاعتبار مثل عقلية أديلارد دي باث ( الذي سبق الكلام عنه ) الذي ينحصر عهد نشاطه في المدة 1116 –1142م على أثر رحلة إلى المشرق ولا يتضح هذا من عمله الأصيل فحسب ، حيث يمكن ملاحظة تطور هام في آثاره ، بل كذلك من التوجيه الذي تولاه في ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية " [7].
وكان اصطفيان الأنطاكي ( البيزي ) واحداً من بين القلة الذين انتهزوا فرصة وجودهم في البلاد العربية خلال الحروب الصليبية فكما ذكرنا سابقاً تعلم العربية وأعاد سنة 1127 م ترجمة كتاب الملكي ( كامل الصناعة ) لعلي بن العباس المجوسي . وأشار في هذه الترجمة إلى انتحال قسطنطين الأفريقي الكتاب لنفسه حينما ترجمه إلى اللاتينية .
ويقول مايرهوف " ولنا أن نميل إلى الاعتقاد بأن الفضل في بناء مستشفيات أوربا خلال القرن الثالث عشر ، تلك المستشفيات التي خرجت من احتكار رجال الدين ، إنما يعود بعضه إلى تأثير الحروب الصليبية . لقد كانت تقليداً بلا ريب للبيمارستانات التي أنشأها معاصرهم السلجوقـي الملـك نـور الدين زنكي فـي دمشق وسـلطان الـمـماليك فـي الـقاهـرة ( المنصور قلآوون ) "[8] .
وفي الوقت الذي كان في كل مدينة عربية مستشفىً متطور متكامل " يذكر مؤلف أوربي أنه لم يكن لدى الصليبيين غير مستشفى فرسان القديس يوحنا في القدس " [9].
" وما كاد الصليبيون يصلون إلى أوطانهم ويلملموا شملهم ، ويَنْقَهون من أتعابهم وجراحاتهم حتى التفتوا إلى نشر ما تعلموه من العرب بين مواطنيهم فأسس لويس التاسع أثر رجوعه إلى باريس سنة 1260م مستشفى تقليداً لمستشفيات سورية . وأسس البابا أنوسنت الثالث مستشفى آخر على نفس الطراز " [10].
وأخيرا نقول بأن المرضى والأطباء من المحاربين العائدين ساهموا في نقل كثير من بدائع الفكر ومقومات الصنعة الطبية العربية إلى الغرب وكان المحط الرئيسي لهم لدى العودة إلى مدينة ساليرنو حيث أفاد ذلك في رفع عملية التقدم الطبي في مدرستها وأطبائها ومن ثم انعكس ذلك على النهضة الطبية في أوربا .
[1] - التكريتي ، د. راجي عباس – الإسناد الطبي في الجيوش العربية الإسلامية ص 181.
[2] - مايرهوف ، ماكس – فصل العلوم والطب ، مصدر سابق ص 500 .
[3] - حسين ، د. محمد كامل – في الطب والأقرباذين ، فصل في كتاب أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية مصدر سابق ص 285 .
[4] - ابن شداد ، النوادر السلطانية ص 158 .
[5] - لمن يود الإطلاع يرجى مراجعة كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ – تحقيق فيليب حتي 1930 جامعة بريستون.
[6] - التكريتي ، د. راجي – الإسناد في الجيوش العربية الإسلامية – المصدر السابق ص 182.
[7] - الدوميلي ، العلم عند العرب ص 438 .
[8] - مايرهوف ، ماكس – فصل العلوم والطب ص 500 .
[9] - الجليلي ، د. محمود – تأثير الطب العربي في الطب الأوربي ص 192 .
[10] - السامرائي ، د. كمال – مختصر تاريخ الطب ج2 ص233.