الشُبُهات بالضم جمع شُبْهة وهي الأمور المشتبهة، كما قال أبو الطيب في عون المعبود، وسميت مشتبهة لغموضها وعدم اتضاح حالها  وخفاء حكمها على التعيين. والمقصود بالشبهات كما في الحديث الصحيح: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. ما ذكره ابن حجر في فتح الباري قال: وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة كما تقدم، ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى، ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك، رابعها: أن المراد بها المباح ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج... والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول.

فتلك هي الشبهات وينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه فلا يدخل في شيء من الشبهات ولا يتعلق بشيء يقربه من المعصية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.
اتقاء الشبهات من أصول الدين:

حديثنا عن أصل عظيم من أصول الدين، أصل فرط فيه الناس مع أنه من صميم هذه الشريعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: (إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) .

قال عليه الصلاة والسلام: (الحلال بين، والحرام بين) جاءت هذه الشريعة بتبيين الأمور، وفصَّل الله لنا ما حرم علينا، وأباح لنا الطيبات، فالحلال بيِّن، الحلال المحض واضح لا شبهة فيه، مثل الشُّرب من ماء المطر الذي لا يملكه أحد، فهذا حلال محض لا شبهة فيه، ومثل أكل الزروع والثمار والطيبات إذا أُخذت بطريق حلال مثل شرائها بمال حلال، أو أن تأتيك هدية من تقي، حلال محض، ومثل لباس ما أباح الله من الصوف والقطن، وغيرها، والنكاح الطيب لا شك أن هذا من الحلال البيِّن.

وحرام بيِّن واضح لا لبس فيه، كأكل الميتة، وشرب الدم، وتناول لحم الخنزير، وشرب الخمر، وأكل الربا والميسر، والمسروق والمغصوب، كل هذا حرام واضح لا لبس فيه، وبين هذا وهذا أمور مشتبهات تطرأ على الخلق، تحدث بينهم معاملات جديدة.

والله سبحانه وتعالى من حكمته ورحمته أنه عز وجل أمر العلماء بالاجتهاد في حكم الأشياء غير المنصوص عليها في القرآن والسنة، وذلك لأن حاجات الناس كثيرة، تتولد عندهم أمور كثيرة، فالقرآن والسنة فيهما أصول المسائل والقواعد التي تُبنى عليها الأحكام، ثم إن الله تعالى أمر العلماء بأن يبينوا للناس أحكام الأشياء المتولدة والجديدة، فيدخلوا هذا تحت هذا الأصل، ويستدلوا بهذا الدليل على حكم هذا الشيء الجديد من قياس واجتهاد، ونحو ذلك.

والعامة -عامة الناس- يحصل لديهم اشتباه في كثير من الأمور لا يدرون هي حلال أم حرام، يجب عليهم أن يسألوا أهل العلم، فإذا حصل عندهم شبهة كأن لم يستطع أن يسأل أحداً من أهل العلم في ذلك الوقت الحرج الذي تعرض للقضية مثلاً، أو لم يستطع الوصول إلى من يثق به من أهل العلم، كأن كان في بلد لا يصل فيه إلى عالم، ولا يستطيع الاتصال فيه بعالم -على سبيل المثال-، أو كان الأمر مما اختلف فيه العلماء، ولم يتبين للرجل وجه الحق فإن هذا الأمر من الشبهات التي ينبغي عليه تركها، ولذلك جاء في بعض أنواع الحيوانات كالتمساح مثلاً أوجه في حله وحرمته، وبعض أنواع الاكتساب مثل مسألة التورق أوجه في حلها وحرمتها -والتورق: أن يشتري الشيء بالتقسيط ويبيعه نقداً لشخص آخر غير البائع الذي اشتراه منه بطبيعة الحال؛ لأنه يكون حراماً لا شك فيه، لكن لو اشتراه من شخص بالأقساط، ثم باعه نقداً ليس قصده السلعة، قصده تحصيل الأموال، هذه مسألة التورق- تنازع فيها العلماء، فإذا تعرض لها الشخص، ولم يجد الكلام الواضح لعالم يستند إلى الأدلة مثلاً فإنه يتركه، يتركه؛ لأنه شُبهة.

والمسائل التي بين الحلال والحرام منها ما يقترب من الحلال جداً، ومنها ما يقترب من الحرام جداً، ومنها مسائل بين ذلك، فلو قلت مثلاً: ما حكم ارتداء ملابس كافر، الكفار لا يتحرزون من النجاسات، الشبهة في ملابس الكافر الخارجية أخف بكثير من الشبهة في ملابسة الداخلية مما يلي عورته.

ولذلك فإن الشبهة أحياناً تكاد تكون حراماً، وأحياناً تكون شيئاً ضئيلاً قد يتجاوز الإنسان فيه للحاجة، الناس أصحاب الأموال المختلطة الذين دخل في أموالهم الحرام واختلط بالحلال، بعضهم الحرام عنده كثير، والحلال ضئيل جداً، بحيث يكون الحكم وجوب ترك التعامل مع هذا الشخص، والأكل من طعامه، نظراً لأن أكسابه تقريباً محرمة، وبعض الناس أكثر كسبه حلال، لكن يدخل فيه شيء من الحرام، فهذا التعامل معه جائز؛ لأن الحلال غلب على الحرام، والأكل من طعامه جائز؛ لأن الغالب أن طعامه قد شُريَ بمال حلال، إلا إذا تيقنت أن هذا الشيء الذي أطعمك إياه هو حرام بعينه، مشترىً من مال حرام بعينه، فلا يجوز لك عند ذلك أكله.
لا يعلمهن كثير من الناس:

خطر الوقوع في الشبهات:

وقال عليه الصلاة والسلام: (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، كيف ذلك؟ مثاله: أنه إذا كان يرتكب الشبهات، ويقع فيها باستمرار؛ فإنه سيتدرج به الأمر، ويتسامح، ويؤدي به الأمر في النهاية إلى الوقوع في الحرام؛ لأن الذي لا يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً -وهو ترك الشبهات- سيقع في الحرام يوماً من الأيام، سيقع في الحرام، وصورة أخرى: أن الذي يقع في الشبهة -والشبهة عند الله حكمها واحد إما حلال وإما حرام، الحق عند الله واحد، ليس هناك شيء عند الله حلال وحرام في نفس الوقت، عند الله المسألة حكمها واحد إما حلال وإما حرام، علمها من علمها، وجهلها من جهلها من الناس- فالذي يقع في الشبهات احتمال أنه يقع في حلال عند الله، واحتمال أنه يقع في حرام، فلو كانت حراماً عند الله فالذي وقع في الشبهات يكون قد وقع في الحرام إذن، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام.

Previous Post Next Post