التخطيط والتنظيم في حياة الرسول
حدثاً مثل الهجرة، لا بُدَّ أن يكون بتخطيط سليم، يقوم على أسس علمية واضحة لاسيما وهو مسنود بالوحي.
إن الكتابات عن الهجرة كثيرة، وأصبح مع إطلالة كل عام تمتلئ الصحف كتابة، والمساجد وعظاً وإرشاداً عن الدروس والعبر المستفادة من نموذج الهجرة.
ولعل الإنسان يلمح التكرار في كل عام، وعدم التناول النوعي للمهارات، والفنون التي حازت عليها الهجرة، ومن ذلك عملية التخطيط التي صاحبت الهجرة من حيث وضوح الغايات، والأهداف، والوسائل التي وُضِعَتْ لذلك.
إنَّ التخطيط كان واضحاً في فكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يترسم الخطى في جزيرة العرب بمكة المكرمة مسنوداً بالوحي، وبين القوم الذين ناصبوه العداء، ووضعوا العراقيل أمام دعوته والدخول فيها. ولعله من الواضح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حدد هدفه في إيجاد بقعة يعبد فيها الله - سبحانه وتعالى - ويقام فيها المجتمع الطاهر، وتؤسس فيها الدولة على هدى من الكتاب والسنة.
كانت هذه الفكرة، بعد أن استقر الرأي عنده -صلى الله عليه وسلم- بأن مكة قد رفضت دعوته، ودفعت به خارجها، وحفرت له الأخاديد والخنادق ليقع فيها، ثم تنقض على هذه الدعوة الوليدة لتقضي عليها.
كان التخطيط متدرجاً حيث تحمل -صلى الله عليه وسلم- وقومُه صنوف العذاب، والرسوفَ في القيود، وضغط الصخور في الهاجرة، ولم يأذن لأصحابه بالهجرة في ذلك الوقت، إلا بعد أن اشتد النكال وتطاول القريشيون على الدعوة.
ومن النظم الواضحة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في التخطيط للهجرة: الشورى خاصة مع صاحبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، والتمويه بنوم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الفراش، واتخاذ الدليل الخبير بالطرق والدروب...الخ.
كل هذه كانت مراحل تخطيطية اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه في الهجرة إلى المدينة المنورة.
بهذا التخطيط الموفق بإذن الله، استعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهجرته، ووضع درساً مهماً للأمة في الإدارة الحكيمة، والتخطيط العلمي الناجح المسبق.
يهدف الباحث من خلال هذه الدّراسة إلى الوقوف عند هذا الجانب المهم في حياة الشعوب، الذي أصبح كل العالم يعمل من أجل ترسيخه، والتباري في نظرياته لإحكام الحياة، وضبط شعبها بقواعد تجعل عناصر التخطيط، والضبط، والإشراف، والمتابعة، هي التي تهيمن على كل عمل.
إنَّ التخطيط الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- زوّد المهاجرين بالفكرة الرئيسة وراء الهجرة حيث الأهداف، والخطط والسياسات، كما يساعدهم في فهم البيئة، التي هم في الطريق إليها، ليسهل التعامل معها، ومع متغيراتها، وهذه الرحلة بالنسبة للمهاجرين، تُعَدُّ إعداداً لهم وتدريباً، وتنمية لفكرهم الشامل والثاقب ليتعامل مع المتغيرات.
ولعلَّ التخطيط للهجرة - ككل تخطيط - يواجَهُ ببعض العقبات، ومن هذه العقبات:
[أ] التعقيدات البيئية الجديدة التي يصوبون نحوها، والتي تختلف في ثقافتها عن ثقافة مكة التي قدموا منها.
[ب] وكذلك تردد القيادات الذي يصحب مثل هذا التخطيط، حيث بدأ الأمر سراً، ولكن سرعان ما انبلج صبحه وأسفر، وزال الإحباط، وتناقل الناس أخبار الهجرة، وزال التردد، وأقبل المهاجرون بصفاء واطمئنان.
[ج] كما وقفت أمام هذا التخطيط الوسائل والطرق ومن يدل عليها، حتى استعين ببعض المشركين الذين لهم معرفة بالطريق، ومنهم الدليل "عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هادياً خريتاً - ماهراً بالطرق - وكان على دين كفار قريش"([1])، الذي ساعد في إكمال الاستعداد، وضبط الوقت، لا سيما وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- القائد مع صحابته يزودهم بالحجج الداحضة، والبراهين الواضحة، للوصول للهدف المنشود.
بهذا التخطيط السليم، والمتحسب فيه لكل متوقع، خطَّط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهجرته، التي أعقبها قيام المجتمع، وإرساء قواعد الدولة، التي أصبحت مثلاً، ونموذجاً يحتذى إلى قيام الساعة.
هذا البحث يتضمن حديثاً عن التخطيط بصفة عامة كمدخل، ثم التخطيط في هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصولاً إلى النتائج المرجوة، تأصيلاً لتخطيط يقوم على أمر القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكسوب الإنسانية، هذا هو هدف البحث الذي اتبع فيه الباحث المنهج التاريخي والتحليلي والوصفي. والذي جاء في ثلاثة مباحث وخاتمة.
يهدف هذا البحث للتعريف بدقة التخطيط في هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والوقوف على المواقف التخطيطية الدقيقة، مثل: نوم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة هجرته، والاستعانة بمن يعرف الطريق.
وكذلك التخطيط في القضايا الكبرى، مثل: بناء المسجد بحسبانه مأوى وموقع اجتماع، وكذلك قضية التآخي التي تُعَدُّ من أهم القضايا في رتق النسيج الاجتماعي، علاوة على التخطيط للدولة واستقرارها بإصدار صحيفة المدينة.

Previous Post Next Post