الفرق بين الفساد والبطلان
البطلان  والفساد مترادفان ـ بمعنى واحد ـ عند الجمهور[1] ، فكل عبادة أو عقد أو تصرف فَقَدَ بعضَ أركانه أو بعضَ شروطه فهو باطل أو فاسد ، ولا يترتب عليه أثره الشرعي ، فبيع المجنون باطل لخلل في ركنه وهو العاقد ، وبيع الميتة أو المعدوم باطل لخلل في ركنه وهو المعقود عليه ، وكما يسمى بيع المجنون وبيع الميتة باطلاً يسمى أيضاً فاسداً .
والبيع بثمن مجهول أو بثمن آجل غير معلوم يسمى أيضاً باطلاً أو فاسداً ، وإن كان الخلل في بعض شروط البيع ، أي في بعض أوصافه دون أركانه .
أما عند الحنفية : فالصحيح عندهم كما هو عند الجمهور ، أي : ما استوفى شرائطه وأركانه وأسبابه .
ولكن اختلف الحنفية مع الجمهور في تحديد غير الصحيح ، فهم يرون أن غير الصحيح قسمان :  باطل وفاسد ، بينما يراه الجمهور قسماً واحداً .
فالباطل : هو ما كان الخلل في ركنه ، أو هو ما كان الخلل في أصله ووصفه ، وهذا لا تترتب عليه آثاره ، كبيع الميتة ، والخمر ، وبيع الملاقيح  والمضامين [2] .
    وأما ما شُرع بأصله ولم يُشرع بوصفه فقد سماه الحنفية فاسداً [3] ، كالربا : إذ هو بيع الشيء بجنسه مع الزيادة المشروطة في أحد البدلين بلا عِوض .
فالنهي ليس عن أصل بيع الشيء بجنسه : كبيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة ، أو البُرِّ بالبرِّ ، أو التمر بالتمر ، وإنما عن الزيادة ـ التفاضل ـ ، لحديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ  t[4] قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الذَّهَبُ  بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ " ، وهذه الزيادة هي علة النهي ، وهذا النوع من العقود مشروع في أصله ، لكنه منهي عنه بوصفه ، فلو خلا العقد منها لكان صحيحاً .
فالفاسد : وهو ما اختل فيه شرط . وقد يثبت بعض آثار العقد الفاسد دون بعض . وبذا يمكن القول : بحسب مفهوم الحنفية : كل باطل فاسد ، وليس كل فاسد باطلاً [5] .
أما عند المتكلمين : فكل باطل فاسد ، وكل فاسد باطل .
وبناءً على هذا التقسيم : إذا اعتبرنا البطلان والفساد مترادفين ـ كما قال المتكلمون ـ فهما يقابلان الصحيح ، وإذا لم نعتبرهما مترادفين ـ كما قال الفقهاء " الحنفية " فلا يقابلانه جميعاً ، وإنما يقابل الباطلُ الصحيحَ وحده ، أما الفساد فلا مقابل له ، لأنه واسطة بينهما ، ولا يقابل واحداً منهما [6] .
ومع ذلك : يرى الحنفية أن البطلان والفساد قد يدخلان على العبادات وعلى المعاملات .
 وفي ما يلي بيان تفصيلي لتقسيم الحنفية لغير الصحيح :
‌أ.                  في العبادات : إذا فقدت العبادة ركناً من أركانها : كالصلاة بلا ركوع ، أو فقدت بعض شروطها : كالصلاة بلا وضوء ، فهي في الحالتين تسمى باطلة أو فاسدة ، ولا يترتب عليها أثرها الشرعي .
فالباطل والفاسد عندهم بمعنى واحد في العبادات . وبذلك هم يتفقون فيها مع الجمهور.
‌ب.             أما في المعاملات : وهي العقود والتصرفات : فإذا فقدت ركناً من أركانها سميت باطلة ، ولم يترتب عليها أي أثر شرعي . كما في بيع المجنون أو بيع الميتة ، أو نكاح المحارم مع العلم بالحرمة .
أما إذا فقدت بعض شروطها وكانت قد استوفت أركانها ، وبالتالي كان الخلل في بعض أوصافها الخارجية : سميت فاسدة ، وتترتب عليها بعض الآثار إذا قام العاقد بتنفيذ العقد ، كما في البيع بثمن غير معلوم ، أو بثمن مؤجل إلى أجل مجهول ، أو المقترن بشرط فاسد ، أو النكاح بغير شهود .
وإطلاقهم المشروعية على الأصل إنما كان لنظرهم إلى أنه لو خلا العقد عن الوصف المنهي عنه لكان مشروعاً ، ولكن مع اتصافه به لم يبق مشروعاً [7] .
قال ابن عابدين  : ( الصوم في الأيام المكروهة من حيث نفسه عبادة مستحسنة ومن حيث تضمنه الإعراض عن الضيافة يكون منهيا فبقي مشروعاً بأصله دون وصفه ) [8] .
 وبناءً على هذا : ففي البيع الفاسد يثبت الملك للمشتري في المبيع إذا قبضه بإذن البائع ، وإذا تصرف المشتري بالمبيع تصرفاً لا يمكن نقضه جاز العقد ، ويستحق البائع الثمن[9].         وفي النكاح بلا شهود : يجب المهر إذا حصل فيه دخول ، وتجب على المرأة العدة عند الفرقة ، ويثبت فيه النسب رعاية لحق الطفل .
ومع ذلك: فإن المشتري وإن كان يثبت له الملك إلا أنه لا يثبت له حق الانتفاع .
وفي عقد الزواج المختل شرطه ، وإن كان يثبت به بعض الآثار ، إلا أنه يُطالَبُ الزوجان بإلغاء العقد ، وإذا وقع بعده دخول وجب التفريق بينهما . وكان للمرأة المهر ، وعليها العدة ، ويثبت نسب ولدها به ، ولكن : لا تجب به النفقة ، ولا يثبت به التوارث بين الرجل والمرأة .
وبناءً على ما سبق :  يلاحظ أن الخلاف بين الجمهور والحنفية قائم في حال الخلل بالشروط وليس في الأركان ، فقد اتفق الجميع على البطلان فيما اختل فيه ركن .

سبب الاختلاف:  كانت النظرة عند الجمهور قائمة على أن النهي يقتضي البطلان والفساد ، سواء ورد النهي على ذات العقد أو وصف فيه . وهذا النهي يدل على أن وجود المنهي عنه  عصيان للشارع فلا تترتب عليه آثاره .
إذ الصحيح ـ كما هو في مفهومهم ـ موافقة الشارع ، وفاعل ما ورد النهي عنه ـ ولو كان النهي عن أصل الفعل أو ركنه ، أو عن الوصف اللازم للفعل ـ يوصف بأنه مخالف لأمر الشارع ، فيكون عمله باطلاً .
وأما الحنفية : فإنهم ينظرون للسبب الذي كان من أجله النهي :
‌أ.                  فإن كان راجعاً إلى أصل العقد ، أو أحد أركانه ، أو إلى صيغة العقد ـ  الإيجاب والقبول ـ ، أو العاقدين ، أو محل العقد : فإن الخلل يؤدي إلى البطلان ، ويسمى العقد عندها باطلاً ، وكان وجوده كعدم وجوده ، ولا أثر شرعي يترتب عليه .
‌ب.             وإن كان راجعاً إلى وصف في العقد لا إلى أركانه : أي إذا كانت أركانه سليمة ، ولكن الخلل طرأ على بعض أوصافه : كالبيع بثمن مجهول ، أو زواج بغير شهود ، فإن العقد يسمى فاسداً لا باطلاً ، لأن النهي منصب على الوصف وحده ، ويبقى الأصل صالحاً لترتب بعض الآثار ، لأن فوات الوصف لا يخل بحقيقة الموصوف ، فلا نستطيع إلغاء هذه الحقيقة .
ولهذا يقول الحنفية : إن الفاسد ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه . والباطل ما ليس مشروعاً بأصله ولا بوصفه [10] .
ويلاحظ أن الخلاف بين الحنفية والجمهور في الفساد والبطلان كان في المعاملات التي يقع الخلل في أوصافها لا في أركانها .
وكذلك يلاحظ عند الحنفية أنهم يقولون : إن لم يكن للعقد إلا حكم واحد ، وطرأ عليه النهي فإنه يقتضي البطلان سواء كان في الركن أو في الشرط .   ويمكن أن يمثل في ذلك بنكاح المحارم : إذ هو محرم قطعاً ، فالنهي عنه يقتضي البطلان دوماً .
أما في المعاملات فاختلف النظر فيها :
1.               من حيث هي أمور مأذون فيها شرعاً ، أو مأمور بها شرعاً .
2.               من حيث هي أسباب لمصالح بنيت عليها .
فمن نظر إلى الأول : لم يفرق بين الفاسد والباطل .
ومن نظر إليها من الثاني : فرّق بين ما كان المعنى الذي لأجله كان العمل مخالفاً للأمر  مؤثراً في أصل العقد ، ـ كبيع المجنون ، وزواج المسلمة بغير المسلم ـ ، أو في غير أصل العقد ، وإنما يؤثر في صفة له يمكن تلافيها : كالبيع إلى أجل مجهول أو بثمن مجهول .
فإن كان الأول فهو باطل ، وإن كان الثاني فهو فاسد .
وبصورة أخرى : فإن كان الخلل الذي لحق التصرف مما يُمكن تصحيحه وتلافيه فهو فاسد ، وإن كان مما لا يقبل التصحيح ، ولا سبيل لتلافي ذلك الخلل فهو الباطل .

المطلب الرابع : لأي أنواع الحكم الشرعي تُضاف الصحة والفساد والبطلان ؟
اختلفت نظرة الأصوليين من حيث اعتبار الصحة والفساد والبطلان تابعة لأي أقسام الحكم الشرعي ، وكانوا في ذلك ثلاث فرق :
1 . هي أحكام تكليفية : وهو قول كثير من المحققين  [11] ، لأننا لا نستطيع الحكم على شيء بالصحة أو البطلان إلا عن طريق خطاب الشرع ، وخطابه يعني إباحة الانتفاع للمشتري مثلاً ، وإيجاب الثمن للبائع ، وتسليم المبيع ، وخطابه بالبطلان يعني حرمة الانتفاع به على المشتري ووجوب فسخ العقد . وكل من الإيجاب والتحريم والإباحة أحكام شرعية تكليفية .
2 . هي أحكام شرعية وضعية : وهو قول جماعة من العلماء وأكثر الحنابلة ، هي أمور عقلية لا علاقة لها بأحكام الشرع : قال بذلك جماعة منهم ابن الحاجب[12] ، لأن الشارع حكم بتعلق الصحة بالفعل المستوفي لأركانه وشروطه ، وحكم بتعلق البطلان بالفعل الذي لم يستوفِ أركانه وشروطه .
  ثم إن الحكم على الشيء بالصحة أو البطلان يكون عن طريق الشرع .
 وهذا الخطاب الذي يبين الصحة أو البطلان أمر زائد على خطابه بالحكم بما لا بد منه في تعلقه بالمحكوم عليه به .
مثال: الصلاة : حكمها الشرعي : الإيجاب . وهذا حكم تكليفي ، ولكن متى تكون صحيحة أو باطلة : فهذا أمر زائد على الخطاب التكليفي ، وبذلك هو خطاب وضعي .

أما الفريق الثالث وهم " القائلون بأنها عقلية " : فحجتهم أن الصحة تترتب على تحقق أركان العبادة أو المعاملة ، وشروطها ، وانتفاء موانعها ، والبطلان والفساد يترتبان على الخلل في شيء مما تقدم ، وذلك مما يستقل العقل بإدراكه ، فهو يحكم بصحة الصلاة إذا توافرت أركانها وشروطها وأسبابها وانتفت موانعها ، ويحكم ببطلانها إذا حصل الخلل فيها ، كما يحكم بصحة البيع إذا توافرت أركانه وشروطه وانتفت موانعه ، كما يحكم ببطلانه إذا فقد ركناً أو شرطاً .
فالعقل يستقل بإدراك ذلك دون توقف على الشرع بحكمه بكون الشخص مصلياً أو غير مصلٍ سواء بسواء ، فكما أن العقل يستقل بإدراك هذا الحكم فهو يستقل بإدراك الصحة والفساد والبطلان .
 وما ذهب إليه الفريق الثاني هو الذي يترجح في النفس .






[1] ) الرازي ، المحصول 1 / 26 ، الزنجاني ، تخريج الفروع على الأصول / 168 ، المنهاج ، الإسنوي ، نهاية السول 1 / 97 ،  ابن قدامة ، روضة الناظر 1 / 167 ، الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 445 0
[2] ) الملاقيح : جمع ملقوح ، وهو ما في بطن الناقة من الأجنة ،  وأما  المضامين : جمع مضمون ، وهو ما في أصلاب الفحول  ـ أي الآباء ـ ، وكان العرب يتبيعون أولاد الشاء والنوق في بطون أمهاتها ،  فنهاهم النبي r عن ذلك 0
ابن منظور ، لسان العرب 2 / 579 ، الزبيدي ، تاج العروس 1 / 1734 ، ابو السعادات الجزري ، النهاية في غريب الحديث والأثر 4 / 532  ، و 4 / 621 0
[3] ) ابن الحاجب ، منتهى الوصول والأمل / رفع الحاجب 1 / 19 0
[4] ) الإمام مسلم ، صحيح مسلم ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً 8 / 258 0
[5] ) الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 445 0
[6] ) المرجع نفسه 1 / 446 0
[7] ) ابن نجيم ، البحر الرائق 6 / 74 – 75 ، الدر المختار 6 / 45 0
[8] ) ابن عابدين ، حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 3740
[9] ) الزيلعي ، تبيين الحقائق 5 / 183 0
[10] ) السرخسي ، أصول السرخسي 1 / 89 ، ابن نجيم ، البحر الرائق  6 / 745 ،  الزيلعي ، تبيين الحقائق 5 / 183 ، الطحطاوي ، حاشية الطحطاوي على  مراقي الفلاح  1 / 217   ابن التلمساني ، شرح المعالم 1 / 395 ـ 396 0
[11] ) الإسنوي ، نهاية السول 1 / 129 0
[12] ) ابن الحاجب ، مختصر المنتهى / السبكي ، رفع الحاجب 1 / 180

Previous Post Next Post