أنواع الرخص
للعلماء منهجان في بيان أنواع الرخص :
1.               منهج المتكلمين من الشافعية والحنابلة والمالكية .
2.               منهج الحنفية .
أولاً  : منهج المتكلمين في أنواع الرخص 
 قسم علماء الأصول من الشافعية والحنابلة الرخصة أربعة أنواع :
1.                رخصة واجبة [1] : كأكل الميتة للمضطر : فإنه واجب لعذر هو حفظ الحياة ، ودليله قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (  البقرة 195 )، وقوله تعالى  {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (  البقرة 173 ) .
  ووجه القول بالوجوب : أن النفوس حق الله تعالى ، وهي أمانة عند المكلفين ، فيجب حفظها ليستوفي الله تعالى حقه منها بالعبادات والتكاليف [2] ، وإذا تعيّن حفظها بالأكل من الميتة فقد وجب الأكل ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . 
لقد أصبحت حالة الضرورة مستثناة من الحرمة ، فكانت الميتة والخمر حالة الضرورة كالخبز والماء في غير حالة الضرورة ، ولأن الحرمة لما زالت بقوله تعالى : " فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ "   صار كالممتنع عن الطعام والشراب حتى مات فيأثم [3] .
 والقول بوجوب أكل المضطر من الميتة هو ما ذهب إليه الحنفية [4] ، وهو الصحيح من مذهب المالكية [5] ، والأصح عند الشافعية [6] ، وهو أحد وجهين عند الحنابلة [7] .
واختلف القائلون بالوجوب في حكم ذلك الوجوب : هل هو عزيمة أم رخصة ؟
 ـ  ذهب بعض العلماء إلى أن أكل المضطر من الميتة عزيمة لا رخصة ، كفطر المريض في رمضان ونحوه [8] .
قال الزركشي في البحر المحيط في أقسام الرخصة  : ( فالواجبة كإساغة اللقمة بالخمر لمن غصّ باللقمة ، وكتناول الميتة للمضطر بناء على أن النفوسَ حقُ الله وهي أمانة عند المكلفين ، فيجب حفظها ليستوفي الله حقه منها بالتكليف .
  وقال ابن دقيق العيد : وهذا يقتضي أن تكون عزيمة لوجود الملزوم والتأكيد . قال : ولا مانع أن يطلق عليه رخصة من وجه وعزيمة من وجه ، فمن حيث قام الدليل المانع نسميه رخصة ، ومن حيث الوجوب نسميه عزيمة .
وهذا التردد الذي أشار إليه سبقه إليه إمام الحرمين في النهاية ، وتردد في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة ؟ وقال في باب صلاة المسافر من النهاية " : يجوز أن يُقال : أكل الميتة ليس برخصة ، فإنه واجب ، ولأجله قال إلكيا الهراسي في أحكام القرآن : الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة ، كالفطر للمريض في رمضان ) [9].
  وقد لا تنتهي الرخصة إلى الوجوب ، ككلمة الكفر إذا أُكره عليها ، فله أن يأتي بها حفظاً لنفسه مع طمأنينة قلبه بالإيمان ، وله أن لا يأتي بها إرغاماً لمن أكرهه وإعزازاً للدين [10].
2.               رخصة مندوبة : كقصر الصلاة للمسافر مسافة القصر ، وقد ورد عن عمر t أنه سئل عن القصر وقد أمن الناس ! فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله r عن ذلك فقال : " صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته " [11] .
3.               رخصة مباحة : كعقد السلم ـ السلف ـ ، والعرايا [12] ، والإجارة ، والمساقاة ، وشبه ذلك من العقود ، فإنها رخصة بلا نزاع ، لأن السلم والإجارة عقد على مجهول ، والأصل في العرايا  المنع ، لأن الرطب إذا جف ينقص ، فلم تتحقق المساواة في البدلين كما هو مطلوب شرعاً مِثلاً بمِثل ، ويداً بيد ، وسواء بسواء ، والفضل ربا . وقد ورد عن النبي r أنه نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا [13].
وإنما سميت هذه الأنواع رخصة لأن طريق كل منهما غير متعين لدفع الحاجة ، إذ يمكن الاستغناء عنه بطريق آخر. فالسلم يمكن الاستغناء عنه بالقرض ، والعرايا بالبيع ، وهكذا.....
4.  رخصة هي خلاف الأولى : كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم [14]. وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذاً من قوله تعالى : { ُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (  البقرة 184 ).
فالصوم في السفر مأمور به أمراً غير جازم ، وهو يتضمن النهي عن تركه ، وما نهي عنه نهياً غير صريح فهو خلاف الأولى . وكذا ترك صلاة الجمعة في السفر إذا كان من الممكن للمسافر أن يصلي الجمعة ، مع أن تركها مرخص فيه ، ولكن إتيانه بها أفضل ، فكان الأخذ بالرخصة خلاف الأولى .
أما عند المالكية : فقد بين الشاطبي حكم الرخصة عند المالكية وهو الإباحة مطلقاً من حيث هي رخصة [15] ، لعموم النصوص الدالة على رفع الإثم ، ونفي الحرج عن الفعل ، وهو ما يعني الإباحة .
  وأما وجوب تناول المحرمات في حال الاضطرار فيرجع إلى عزيمة أخرى ، هي وجوب المحافظة على الحياة ، بدلالة قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (  البقرة 195 ) .

ثانياً  : منهج الحنفية في أنواع الرخص
قسم الحنفية الرخصة أربعة أقسام :
1.               إباحة الفعل المحرم عند الضرورة أو الحاجة مع قيام المحرم والحرمة : مثل : التلفظ بكلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان عند الإكراه عليه بالقتل ، أو إتلاف عضو ، أخذاً من قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } (  النحل 106 ) ، فإن حرمة الكفر قائمة أبداً ، لأن وجوب الإيمان قائم أبداً ، فيلزم من ذلك قيام حرمة الكفر أبداً أيضاً .
ومثل: الإفطار في رمضان عند الإكراه ، والجناية على الإحرام بحج أو عمرة ، وإتلاف مال الغير عند الإكراه ، وأكل الميتة عند الاضطرار ، وشرب الخمر عند العطش الشديد الذي يُخشى على النفس فيه.
حكم هذا النوع من الرخص : الجواز ، إلا إذا خاف على نفسه الهلاك أو ذهاب عضو من أعضائه ، أو فَقْدِ ولدٍ أو مالٍ فحينئذٍ يكون الأخذ بالرخصة واجباً ، وإن لم يعمل بها فمات أثم لتسببه في قتل نفسه .
وبناءً على هذا يكون الإضراب عن الطعام ممنوعاً إذا أدى إلى تلف عضو ، أو فوات نفس .
ولكن : يكون الأخذ بالعزيمة أولى في حال الإكراه على النطق بكلمة الكفر ، لأن حق العبد يفوت صورة بخراب البنية ـ الجسد ـ ، ومعنى بزهوق الروح ، وحق الله تعالى يفوت معنى ، لأن قلب المكرَه مطمئن بالإيمان ، فلو قُتل محتسباً كان مأجوراً بدليل ما روي أن مسيلمة الكذاب أخد اثنين من أصحاب رسول الله   rفقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله . قال: فما تقول فيّ ؟ وأنت رسول الله . فأرسله. ثم قال للآخر: ما تقول في  محمد ؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ ؟ قال: أنا أصم ولا أسمع.. فأعاد عليه مسيلمة ذلك ثلاث مرات فلم يتغير جوابه فقتله فلما بلغ ذلك رسول الله r قال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له [16] .
2.               ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة : كإباحة الفطر في رمضان للمسافر أو المريض . فهما لا يجب عليهما الصيام في حال السفر أو المرض ، والمبيح للفطر هنا هو السفر أو المرض ، ومع ذلك فإن المحرم قائم وهو شهود الشهر { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  } (  البقرة 185 ) ، لكن حرمة الإفطار غير قائمة ، ومثله قصر الصلاة الرباعية في السفر .
ومن الملاحظ في هذا النوع من الرخص أن أداء الفعل انتقل من مرتبة الإيجاب إلى مرتبة الجواز ، فصيام المسافر صحيح ومجزئ ، وأداؤه الجمعة صحيح ، ولكنه ليس بواجب .

3.               إباحة التصرفات والعقود التي يحتاج إليها الناس مع مخالفتها للقواعد المقررة :  كعقد السلم ، والاستصناع ، ودفع الأجرة مقدماً قبل استيفاء المنفعة في عقد الإجارة ، ونحو ذلك . وهذه العقود أبيحت للحاجة استحساناً .
4.                رفع الأحكام الشاقة التي كانت مشروعة في الشرائع السابقة والتخفيف عن الأمة الإسلامية :  كاشتراط قتل النفس للتوبة من العصيان فيما كان مقرراً في ظرف زمني على اليهود . وتطهير الثوب بالقرص ( قطع موضع النجاسة، وإيجاب ربع المال في الزكاة ، وبطلان الصلاة في غير موضع العبادة من الكنائس والبِيَع ، وعدم إباحة الغنائم ) .
وهذا النوع من الرخص يسمى رخصة مجازاً لأن الأصل لم يبق مشروعاً أصلاً [17] ، لأن الأصل لم يبقَ مشروعاً في حق المسلمين . فلا عزيمة تواجه هذا النوع من الرخص لكي يطلق عليها أنها رخصة ، ولكن لما ترتب على انتفاء هذه التكاليف من شريعة الإسلام اليسر والسهولة في حقها قياساً مع الأمم السابقة أطلق عليها الحنفية اسم الرخصة تجوزاً وتوسعاً .
أما غير الحنفية فلا يعتبرون هذا النوع من باب الرخصة .

وهناك تقسيم  آخر للحنفية [18] : إذ يرون أن الرخصة قسمان :
‌أ.                  رخصة ترفيه : وهي الرخصة الحقيقية : وهي التي يكون حكم العزيمة معها باقياً ودليله قائماً ، ولكن رخص في تركه تخفيفاً عن المكلف. وهي قسمان :

1.               قسم كامل بالرخصة : وهو ما أباحه الشارع مع قيام الدليل المحرم وقيام حكمه جميعه ، مثل إجراء كلمة الكفر على اللسان مع الإكراه عليه بالقتل ، إذ دليل وجوب الإيمان قائم أبداً ودليل الحرمة قائم كذلك ، ولكن رُخّصَ للمكره النطقُ تفادياً لما قد يلحقه من الضرر صورةً بخراب بدنه ، ومعنًى بزهوق روحه .
وأما حق الله تعالى فيفوت صورة ظاهراً بالتلفظ بكلمة بالكفر باللسان ، ولا يفوت معنى لأن قلبه مطمئن بالإيمان . فرخص التلفظ لعذر ، وجاز للمكره تقديم حق نفسه تكريماً من الله وفضلاً ورحمة . وأما من قدم حق الله تعالى على حق نفسه فآثر الموت عن النطق بالكفر فقد صدع بالحق ، وهو من أفضل الشهداء .
2.               ما أبيح فعله مع قيام الدليل المحرم دون حكمه : كإفطار الصائم في رمضان ، فإن دليل الحرمة قائم وهو شهود الشهر. وأما الحكم فغير قائم لأن الشارع رخص في الإفطار بعذر السفر، لكن الأخذ بالعزيمة أولى لقيام الدليل إلا إذا أدى السفر إلى ضعف الصائم وعجزه فيكون الأخذ بالرخصة أولى من الأخذ بالعزيمة .

‌ب.             رخصة إسقاط : وهي الرخصة المجازية :
ورخصة الإسقاط هي التي لا يكون حكم العزيمة معها باقياً : كإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع الشديد أو العطش الشديد ، فإن حرمة الأكل أو الشرب سقطت حال الاضطرار.
هذا ومن الجدير بالملاحظة أن الرخصة تقابل العزيمة ، والعزيمة قصد مؤكد سواء كان ذلك طلباً لتحقيق الفعل ، أو طلباً لترك الفعل ، وما دامت الرخصة تقابل العزيمة فإن الرخص يمكن أن تكون :
1.               رخصة فعل : وذلك إذا كان الحكم الأصلي نهياً ملزماً ، ثم تكون الضرورة أو الحاجة مسوغة لفعل ما هو منهي عنه . كأكل الميتة ، والنطق بكلمة الكفر ، ورؤية الطبيب عورة المرأة ، وهذه أمور ورد الشرع بالنهي فيها ، والرخصة تعني إمكان الفعل .

2.               رخصة ترك : وذلك إذا كان الحكم الأصلي يقتضي إيجاد فعل ، وكان طلباً ملزماً ، ثم يطرأ ما يدعو إلى ترك ذلك الفعل ، ونظراً لترتب الإثم على ترك الإتيان بالواجب ، فإنه عند وجود العذر يسقط الإثم بالترك ، وذلك كالإفطار في رمضان ، إذ الحكم الأصلي وجوب الصيام ، ونظراً للعذر الذي طرأ : كالسفر، والمرض فإنه يباح للمعذور أن يترك القيام بالفعل اللازم       ـ الصيام ـ ، وكذلك كانت الرخصة في مثل هذه الصورة رخصة ترك .
ومنها أيضاً : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان ذلك سيؤدي إلى منكر هو أكبر منه ، وكذلك سقوط الجمعة عن ذوي الأمراض .






[1] ) الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 465 الإسنوي ، نهاية السول 1 / 121 0
[2] ) الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 465 0
[3] ) الموصلي، الاختيار لتعليل المختار 2 / 107 0
[4] ) ابن عابدين ، حاشية ابن عابدين 6 / 134 ، الموصلي، الاختيار لتعليل المختار 2 / 106 - 107 0
[5] ) الدردير ، الشرح الكبير على حاشية الدسوقي 2 / 136 0
[6] ) النووي ، المجموع 9 / 42 ، الشربيني ، مغني المحتاج 4 / 306 0
[7] ) ابن قدامة ، المغني 11 / 74 0
[8] ) ومن هؤلاء : الكيا الهراسي الشافعي ، انظر : الإسنوي ، نهاية السول 1 / 121 0
[9] ) الزركشي ، البحر المحيط 1 / 263 0
[10] ) السرخسي ، المبسوط 27 / 477 ، الموصلي، الاختيار لتعليل المختار 2 / 107 ، الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 465 0
[11] ) رواه الإمام مسلم ، صحيح مسلم ، باب صلاة المسافرين وقصرها 3 / 462 0
[12] ) العرايا : بيع التمر على النخلة بتمر ـ أي بيع الرطب على الشجرة بالتمر ـ والأصل في ذلك التحريم لعدم المساواة ، ولكنه r رخّص في العرايا لموضع الحاجة ، وسميت عرية لأن صاحبها لما وهب ثمرتها فكأنه عرّاها منها ، انظر : ابن منظور ، لسان العرب ـ باب عرا ، 15/44 ، الزمخشري ، الفائق في غريب الحديث والأُثر 1 / 96 ، ابن حجر ، فتح الباري 7 / 21 ، الشيخ حلولو الزليطي ، الضياء اللامع شرح جمع الجوامع / 250 0
[13] ) رواه الإمام مسلم ، صحيح مسلم 8 /127 ، والطبراني ، المعجم الكبير 5 / 304 0
[14] ) الرازي ، التفسير الكبير 4 / 122 0
[15] ) الشاطبي ، الموافقات 1 / 307 0
[16] ) الزيلعي ، تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري 2 / 247 0 والخبر مرسل ،
     والتفتازاني ، التلويح على التوضيح 2 / 128 0
[17] ) المرجع نفسه 2 / 129 0
[18] ) التفتازاني ، التلويح على التوضيح 2 / 130 0

Previous Post Next Post