المحكوم عليه " المكلف " :
وهو الذي تعلق خطاب الله تعالى بفعله [1]، وهو المكلف الذي توجه إليه الخطاب .
والتكليف في اللغة : إلزام ما فيه كلفة [2]، أو طلب ما فيه كلفة .
والفرق بين التعريفين : أن الإلزام إنما يكون في الإيجاب والتحريم فقط ، ولا يدخل فيه الندب ولا الكراهة ، فإن التكليف يُشعر بتطويق المخاطب الكلفة من غير خِيَرة منه [3] .
وإن قلنا : التكليف طلب ما فيه كلفة : فإنه يدخل فيه الندب والكراهة ، لأن كلاً منهما مطلوب  ولو من غير حتم وإلزام [4] .
والكُلْفَةُ : المشقة ، ومنه قول الخنساء في رثاء أخيها صخر :
يُكَلّفُهُ القومُ ما نابهم                وإن كان أصغرَهم مولداً
وكلّفه أمراً : أوجبه عليه وفرض عليه أمراً ذا مشقة [5] .
وتَكَلّفْتُ الشيءَ : تجشمته على مشقة ، وعلى خلاف عادة .
والتكلّفُ : كثرة السؤال ، والبحث عن الأشياء الغامضة التي لا يجب البحث عنها [6] ، والمتكلّفُ : المتصنّع [7]، وهو الوَقّاع في ما لا يعنيه [8]، وبه فُسّرَ قوله تعالى : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } (   ص 86 ) .
وفيما يلي بيان لهذا المبحث في المطالب التالية :

المطلب الأول : شروط التكليف :
يشترط في المحكوم عليه شرطان رئيسان[9]  :
الشرط الأول :   قدرة المكلف على فهم دليل التكليف .
الشرط الثاني : قدرة المكلف على العمل بخطاب التكليف ، وهو بالبدن ، بدليل قوله تعالى :       {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (  البقرة286 ) .
 والمقصود بفهم الدليل : تصوّر الدليل وليس مجرد التصديق به ، فقد يكون مصدقاً بالأدلة الشرعية عموماً لكنه لا يفهم مقتضاها ، إذ التكليف إنما يكون بالخطاب الموجه المقصود به الإفهام ، وآلةُ الفهمِ والإدراكِ : العقلُ ، وهو مناط التكليف , ومن لا عقل له فلا فهم لديه ، وتكليفه محال ، ونظراً لأن العقل من الأمور الخفية التي لا تُدركُ بالحواس ، ولتعذر العلم ببلوغ كل شخص المرتبة التي يتعلق بها تكليفه بالأحكام ، فقد أقام الشارع مقامه وصفاً ظاهراً منضبطاً ليكون دليلاً عليه وهو البلوغ ، الذي يُستدل عليه بأمارة حسية ، يُدركها الخاصة والعامة ، وهي الاحتلام عند الرجل  والمحيض المرأة ، وهذا من باب إقامة السبب مقام المسبب .
قال أبو زيد الدبوسي: ( فقام البلوغ شرعاً مقام اعتدال العقل فتوجه لديه الخطاب ) [10]  .  وقال صدر الشريعة : ( ثم لما كان العقل متفاوتاً في أفراد الناس ، متدرجاً من النقصان إلى الكمال والاطلاع على حصول ما ذكرنا أنه مناط التكليف متعذر قدّره الشرع بالبلوغ ، إذ عنده يتم التجارب بتكامل القوى الجسمانية التي هي مراكب للقوى العقلية ومسخرة لها بإذن الله تعالى ) [11] .
 ولذا : فقد ورد في الحديث عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ " ، وفي رواية " وعن المجنون حتى يفيق " [12] . فلا قلم إلا للحساب ، ولا حساب إلا بعد الخطاب .
ومن الجدير بالملاحظة أن العقل والبلوغ متلازمان ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فالصبي غير المميز والمجنون غير مكلفين ، لعدم قدرتهما على فهم الأحكام ، ومقتضى التكليف الطاعة والامتثال ، ويشترط في الامتثال القصد ، وشرطُ القصدِ العلمُ بالمقصود والفهمُ للتكليف ، إذ كيف يُقال لمن لا يفهم : افهم ؟ !  وكيف يسمع من لا يسمع ؟!
فالصبي والمجنون وإن سمعا لكنهما لا يفهمان ، وبالتالي لا يتحقق منهما الامتثال ، ولذا انتفى في حقهما التكليف [13] .
وأما الصبي المميز:  فإنه وإن كان يفهم بعض الأحكام ، لكن فهمه قاصر غير مكتمل ، فلا يكون تكليفه على وجه الكمال ، وقد حطّ الشرع عنه التكليف تخفيفاً عنه ، حتى تظهر علامة قدرته على فهم خطاب الشرع ، ويعلم الرسولَ والمرسلَ ، وهي البلوغ [14].
والعقل وحده لا يكفي لوجوب الاستدلال وحصول المعرفة ، بل لا بد أن ينضم إليه الدليل السمعي ، فكم من عاقل قبل ورود الشرع وبعده تغلغل بعقله مضايق الحقائق ، وخفيات الدقائق ، لكنه هلك بغباوته وجهله بأحكام الشرع [15] ؟!
قد يقال : إن كان الصبي والمجنون غير مكلفين : فلم أوجبتم الزكاة في مالهما ، والغرامات في ما أتلفاه ؟
والجواب : لقد ثبت ذلك في حقهما بخطاب الشرع ، وليس من باب التكليف الخطابي لهما ، وإنما من قبيل ربط الأحكام بأسبابها ، بمعنى أن الشارع الحكيم وضع أسباباً تقتضي أحكاماً تترتب عليها تحقيقاً للعدل في خلقه ، ولمراعاة مصالحهم تفضلاً منه ، ولا يعتبر فيها تكليف ، ولا علم ، فكأن الشارع قال : إذا وقع الشيء الفلاني في الوجود فاعلموا أني حكمت بكذا ، كالموت ـ  مثلاً ـ هو سبب انتقال مال الميت إلى وارثه سواء كان الميت أو الوارث عاقلاً أو مجنوناً ، عالماً أو غير عالم ، بالغاً أو غير بالغ [16] .
  وبناءً على ذلك ـ أي على قدرة المكلف على فهم دليل التكليف ـ تتبادر بعض المسائل ، ومنها ما يرد في المطلب التالي :

المطلب الثاني : تكليف الكفار بفروع الشريعة : لا خلاف بين الأمة أن الناس جميعاً مخاطبون بالإيمان الذي هو أصل الشريعة [17] ، فقد جاءت الرسالة للناس جميعاً ، وخالف المعتزلة الإجماع فقالوا بأنهم ليسوا مكلفين بالإيمان[18].
أما الفروع : كالصلاة والزكاة والصيام  والحج : فقد وقع الاختلاف بين العلماء على أقوال :
القول الأول :     ظاهر مذهب الإمام مالك [19] والشافعي وأكثر أصحابه[20] : ذهبوا إلى القول بأنهم مخاطبون بها ، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد [21] ، وعليه الجمهور من الأشعرية  وعامة أصحاب الحديث ، وهو قول العراقيين من أصحاب أبي حنيفة[22] كأبي بكر الرازي ، والكرخي [23] .
 فكما أن الكفار يعاقبون يوم القيامة على ترك الإيمان فكذلك يعاقبون على عدم إتيانهم بالصلاة والزكاة وغيرها . قال إمام الحرمين : ( والذي نراه أن الكفار مأمورون بالتزام الشرع جملة ، والقيام بمعالمه تفصيلاً ) [24] .
وهذه المسألة لا يظهر فيها أثر الخلاف  في الدنيا ، فإن الكافر لا تصح منه العبادة مع كفره ، وإذا آمن لا يخاطب بقضاء ما فات ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً من الدخول في الإسلام .
ثم إن الإيمان شرط في صحة الأداء منهم لا في صحة التكليف [25].

القول الثاني :   وفرّق قوم بين الأمر والنهي ، فقالوا : يجوز التكليف بالمنهيات ، لأن المقصود منها الترك ، وهو حاصل بدون نية التقرب ، خلافاً للمأمورات ، إذ إتيانها يتطلب نية التقرب ، وهي لا تُقبل مع الكفر . فأداء الواجب لا يصح مع الكفر ، وقضاؤه غير لازم بعد الدخول في الإسلام ، وهذا دليل عدم وجوبه في الذمة أصلاً  [26]، وهذا قول آخر للحنبلية ، وأصحاب الرأي [27] وبعض الشافعية [28] .
وبناءً على هذا يعاقب الكافر على ترك الإيمان ، وعلى فعل المحرمات ، ولا يعاقب على ترك الواجبات .

القول الثالث :    وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة [29]، وهو قول للمعتزلة [30]، وقال به الشيخ أبو حامد الإسفراييني [31] .
ومما يترتب على هذا : أن الكفار يعاقبون على ترك الإيمان ، ولا يعاقبون على ترك الواجبات ، ولا على فعل المحرمات .
القول الرابع :    وثمة قول رابع وهو [32] : أن المرتد مخاطب بفروع الشريعة ، دون الكافر الأصلي ، إذ الفرق بينهما واضح ، وهو مؤاخذة المرتد بسابقة التزامه بالإسلام وأحكامه ، ولهذا يلزم المرتدَ قضاءُ ما فاته في الردة من العبادات ، ولا يلزم الكافر ذلك .
  والذي يترجح في النفس : أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كما هم مخاطبون بأصولها ، ومما يدل على ذلك :
 1 . عموم الآيات القرآنية الآمرة بالعبادات ، والناهية عن المحرمات ، والداعية إلى عبادة الله وحده ، ومن ذلك قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } (  البقرة21 ) ، وسائر الخطاب الوارد بلفظ الناس ، وهو عام في المؤمنين والكفار ، بل هو في الأصل للكفار ، لأن العالم كلَّهم كانوا كفاراً قبل ورود الخطاب ، فلما ورد لم يرد إلا على كافر ، فهدى الله سبحانه وتعالى لاتّباعه بعضاً دون بعض ، والعبادة التي أمر الله بها التذلل بمتابعة مرسوم الشرع من أمر ونهي [33] .

2 .  إذا ثبت أن الكفار معاقبون على ترك الإيمان إجماعاً ، فلتصح معاقبتهم على ترك العبادات كالصلاة إذا مضى من الوقت ما يسع الفعل ، وعلى ترك الصوم والزكاة والحج .

3 .  لئن كان المسلم معاقباً على ترك الواجبات ، ولو كانت فريضة من الصلاة واحدة ـ إلا أن يتغمده الله برحمته ـ ، فالكافر أولى بالمعاقبة على تركه كل الصلوات ، فهل من اللائق أن الكافرَ الذي لم يُصَلّ لله فريضةً واحدةً في مأمن من المؤاخذة على الصلاة ؟! بل : هل يُترك الذي منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه ، وحال بين الناس وعبادة ربهم  دون أن يعاقب على فعله ؟!
والمسلم الذي كَنَزَ الذهبَ والفضةَ ، ولم يخرج زكاة ماله قد توعده الله بالعذاب الشديد {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } (  التوبة35 ) ، وكذا من يأكل الربا ، أو مال اليتيم ظلماً ، أو أموال الناس بالباطل ، وما شابه ذلك ، هل هؤلاء معاقبون ، أما الكافر الذي أكل الربا ، وأموال الناس بغير حق ، وأخذ المال من غير حِلّه ، ولم يؤد حق الله تعالى في ماله ، ومات على ذلك ، فلا حرج عليه ، ولا عقاب على ما كان منه ؟!

3 .  يقال لمن فرق بين ترك المأمورات وفعل المنهيات : على أي أساس أقمت قولك ؟ وما الذي استندت إليه في ما ذهبت إليه ؟ أفيسعفك نص أو إجماع أو دليل معتبر؟
فليس في الشرع ما يدل على هذا التفريق الذي كان من أصحاب هذا الرأي .
 وعبادة الله تعالى تكون بفعل المأمورات وترك المنهيات ، وكل قول أو فعل يحبه الله ودعا إليه ، ففعلُه طاعةٌ يؤجر عليها العبد ُ ، وكل قول أو فعل يبغضه الله ولا يحبه ونهى عنه ، فتركُه طاعةٌ .
4 .  الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس هي عبادته سبحانه ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (  الذاريات56 ) ، والكافر من الإنس ، فهو إذن مطالب بعبادة الله ، والقول بأنه غير مخاطب بفروع الشريعة يقتضي إما :
  أ )    القول بأنه ليس من الإنس أصلاً ولا هو من الجن ، وليس الأمر كذلك ، فهو قول باطل .
 ب )   أو القول بأن ثمة دليل أسقط عنه التكليف ، أو فرق بين الأمر والنهي ، وينبغي أن يكون في درجة الدليل الذي أثبت التكليف على المسلم ، وليس هناك ما يدل على ذلك .
ج )   أو القول بأنه لا تكليف بالفروع أصلاً إلا على المسلم ، فلا إيجاب على الكافر ولا تحريم ، أو أن الخطاب لم يتوجه إليه ، فلا حكم لفعله ، وهذا القول منقوض ، وإلا كيف وعد اللهُ الكفارَ نارَ جهنم ؟! {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ   قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } (  المدثر42 ـ 43 ) ، ومعلوم أنه لا عقاب إلا على ترك واجب أو فعل محرم .

قد يقول قائل : فلم لم يجب على الكافر إن أسلم قضاء الفوائت التي مضت حال كفره ؟
وجواباً عليه :
1 .   إن هذا من رحمة الله بعباده ، فقد يكون ما فات كثيراً ، ولا طاقة له على القضاء .
2 .   في ذلك ترغيب للكفار بدخول الإسلام .
3 .   ورود الدليل في سقوط المؤاخذة ، ومنه قوله تعالى : {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } (  الفرقان70 ) ، وقول رسول الله r " الهجرة والإسلام يجب ما قبله " [34] .
4 . عدم صحة العبادة من الكافر إنما كان لفقدان الشرط وهو الإسلام ، وهذا لا ينفي توجه الخطاب ، كالمحدث لا يصح منه فعل الصلاة ، ولا يدل على أنه غير مخاطب بها .
وأما القضاء فإنما يجب بدليل غير الأمر وذلك لم يوجد [35] .
ثم إنه لم يرد أن أحداً من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أُمر بقضاء ما فاته حال كفره ، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم رسول الله r به ، لكنه لم يفعل ، فدل ذلك على عدم لزومه .
فالكافر يعاقب يوم القيامة لأنه كفر بالله ، ويعاقب لأنه لم يصلّ ، ولم يزكّ ، ولم يصم ، ولم يحج ، ويعاقب لشربه الخمر ، وأكله الربا ، إفساده في الأرض ، وقتله نفساً بغير حق ، ولأنه لم يتحاكم إلى شرع الله ، وغير ذلك .
ومن هنا يتضح لنا مفهوم قوله تعالى  : {أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } (  هود20 ) ، ومضاعفة العذاب إنما يكون بسبب تضاعف الإثم بفعل المحرمات وترك الواجبات .

المطلب الثالث : تكليف الغافل :
والمقصود بالغافل : من لا علم له بالخطاب كالناسي حال النسيان ، والنائم حال النوم ، والسكران حال السكر ، والمغمى عليه حال الإغماء ، أو من كان مخدراً حال تخديره ، فهؤلاء وأمثالهم لا يعقلون في حال معاناتهم وغياب عقولهم ، ولو قلنا : إنهم مكلفون فكأننا نقول لهم : اسمعوا وامتثلوا بما يقال لكم ، وهم في حقيقة أمرهم لا يعقلون .
قال ابن قدامة  : ( والناسي والنائم غير مكلف ، لأنه لا يفهم ، فكيف يقال له افهم ؟ وكذا السكران الذي لا يعقل ) [36] . وقال ابن جزي في بيان شروط التكليف : ( وهي : العقل ، والبلوغ ، وحضور الذهن ، وعدم الإكراه ، والإسلام ، أو بلوغ الدعوة ) [37] ، ثم قال : ( حضور الذهن للتحرز من الناسي )  .
وقد يكون ثمة اختلاف في هذه المسألة ، وهو مبني على الاختلاف في التكليف بالمحال ، ولئن كان العقل شرطاً في التكليف ، فكيف نكلف من لا يستطيع فهم الخطاب ، ولا هو في وعي يمكنه من فهم المقصود ؟ !
ثم كيف ذهب بعض العلماء إلى القول بوقع طلاق السكران ، وتحميل النائم غرامة ما أتلف وهو نائم ؟
وللإجابة عن ذلك يقال : هذا الأمر يقتضي التفريق بين التكليف بالمحال ، وتكليف المحال .
فالتكليف بالمحال : هو أن يكون الخلل راجعاً إلى المأمور به ، وأما تكليف المحال : فهو أن يكون الخلل راجعاً إلى المأمور كتكليف الغافل .
فمن الأول : كما لو قيل للمكلف : صم يوم أمس ، أو امش في الهواء ، أو ارفع الجبل بيديك ، فهذا محال أن ينفذه المكلف ، وليس الخلل في المأمور ، إذ هو عاقل بالغ ، ولكنه يعود إلى المأمور به ، وهو عدم القدرة على الامتثال .
ومنه : كما لو قيل للأعمى : انظر ، أو للأبكم : تكلّم ، أو لمقطوع الرجلين : امش ، فهؤلاء لا يمكنهم الامتثال ، لا لأنهم لا يفهمون ما توجه إليهم ، ولكن لعجز في ذواتهم ، ويستحيل عليهم امتثال الأمر .
وبذلك يلاحظ أن المحال قد يكون مُحالاً [38] :
·        لذاته : أي ممتنعاً عادة وعقلاً ، كالجمع بين النقيضين ، كالسواد والبياض .
·        لغيره : أي ممتنعاً عادة لا عقلاً : كالمشي في الهواء ، والطيران من الإنسان .
·        وقد يكون ممتنعاً عقلاً لا عادة : كالإيمان لمن علم الله تعالى أنه لن يؤمن .
     والتكليف بالمحال جائز عند الأشعري ، وأكثر الأصحاب من الشافعية ، واختاره الزركشي [39] .
ومنع معتزلة بغداد [40] ، والآمدي [41] ،  وإمام الحرمين [42] التكليف بالمحال لذاته دون المحال لغيره ، وهو ما ذهب إليه ابن السبكي ، فقد قال بعد استعراض الأقوال في المسألة : ( والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات ) [43] .
ومن الثاني : كما لو قيل للمجنون : تفكّر ، أو للصبي : اعقل ، أو للناسي تذكّر ،  فكيف يمكن تكليف من لا عقل له ، أو من هو غافل عما خوطب به ، أو من لا علم لديه بما هو مأمور به ؟ ! 
فالعجز في الأول لعدم القدرة ، وفي الثاني لعدم العلم ، وكل من القدرة والعلم شرط في التكليف .
وبناءً على هذا فإنه :
1.    لا يصح تكليف الصبي ، أو المجنون ، أو الغافل ، أو الناسي ، أو النائم ، وكذلك السكران لعدم قدرتهم على فهم التكليف [44] .
2.    لا يصح التكليف بالمحال ، إذ لا يُتصوّر وقوعه من المكلف ولو كان عالماً ، وقادراً في ذاته على الامتثال ، لكنه عاجز لعدم إمكان وقوع المأمور به .
وأما الذين فرقوا بين التكليف بالمحال ، وتكليف المحال ، فقالوا بأن التكليف بالمحال هو الذي لا يمكن تحقيقه ، أما المحال ـ المأمور ـ فالأمر في حقه مختلف ، إذ هو مخاطب بالأحكام الشرعية ، وإلا : كيف يؤمر النائم أو الناسي بقضاء ما فاته من صلاة ؟ [45]
وهم بذلك فرّقوا بين الأول والثاني ، إذ لا فائدة في الأول ، ولكنها معقولة في الثاني ، مع أن الجميع متفق على عدم وقوع الفعل في الحالين .
 واعتبر ابن السبكي القول بتكليف الغافل قولاً مزيفاً ، وخلافاً للصواب [46] .
ومن الجدير بالملاحظة أن موضوع الخلاف إنما هو في الحكم التكليفي الذي يترتب عليه أمر ونهي ، ويترتب عليه ثواب وعقاب ، فعلاً أو تركاً .
أما الخطاب الوضعي : فيترتب عليه ربط الأحكام بأسبابها ، فهذا يصح تكليف الغافل به ، بمعنى ثبوت الفعل في الذمة [47] ، وبالتالي يؤمر بقضاء الفوائت ، ودفع بدل المتلفات ، لوجود أسبابها وإن لم يوجد التكليف بالفعل لوجود المانع وهو الغفلة .

[1] ) التفتازاني ، التلويح على التوضيح  2 / 156 0
[2] ) إمام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه 1 / 88 ، ابن قدامة ، روضة الناظر 1 / 136 0
[3] ) إمام الحرمين ، البرهان 1 / 88 0
[4] ) الشنقيطي ، نشر البنود على مراقي السعود 1 / 19 0
[5] ) مجموعة من المؤلفين ، المعجم الوسيط 2 / 795 0
[6] ) الزبيدي ، تاج العروس باب كلف 0
[7] ) الشوكاني ، فتح القدير 4 / 447 0
[8] ) الزبيدي ، تاج العروس ، باب كلف  ، الفراهيدي ، العين 5 / 373 0
[9] ) الدبوسي ، تقويم الأدلة  / 420 0
[10] ) المرجع نفسه / 420 0
[11] ) صدر الشريعة ، التوضيح لمتن التنقيح ، مطبوع بهامش التلويح للتفتازاني 2 / 160 0
[12] ) أبو داوود ، سنن أبي داود ، كتاب الحدود ، باب المجنون سرق أو يصيب حداً حديث رقم 4398 ، والبيهقي ، معرفة السنن والآثار ، باب فرض الحج على من استطاع إليه سبيلاً 6 / 346 ، قال النووي في المجموع 3 / 7 صحيح 0
[13] ) ابن قدامة ، روضة الناظر 2 / 137 0
[14] ) ابن قدامة ، روضة الناظر 1 / 137 – 138 0
[15] ) البخاري ، كشف الأسرار 4 / 385 0
[16] ) الدومي ، عبد القادر ، نزهة الخاطر العاطر 1 / 138 0
[17] ) إمام الحرمين ، البرهان 1 / 92 ، ابن التلمساني ، شرح المعالم  1 / 342 ، السمرقندي ، ميزان الأصول / 190 ، الباجي ، الإشارة في معرفة الأصول ، / 174 ، القرافي ، شرح تنقيح الفصول / 162 ، السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج 1 / 134 0
[18] ) ابن التلمساني ، شرح المعالم  1 / 342 0
[19] )  الباجي ، الإشارة في معرفة الأصول  / 174 ، القرافي ، شرح تنقيح الفصول / 162 0
[20] ) الشيرازي ، التبصرة في أصول الفقه / 80 ، إمام الحرمين ، البرهان 1 / 92 ، الغزالي ، المنخول / 31 ، ابن السمعاني ، قواطع الأدلة / 170 ، ابن التلمساني ، شرح المعالم  1 / 341 ، السبكي ، رفع الحاجب 2 / 46 ، الزركشي ، سلاسل الذهب / 151 ، السراج الأرموي ، التحصيل من المحصول 1 / 321 ، السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج   1 / 134 0
[21] ) الفراء ، العدة في أصول الفقه 2 / 358 ، ا بن قدامة ، روضة الناظر 1 / 19 ، الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 205 0
[22] ) اللامشي ، كتاب في أصول الفقه / 105 0
[23] ) السمرقندي ، ميزان الأصول / 194 , الإسمندي ، بذل النظر / 192 ، ابن قدامة ، روضة الناظر 1 / 19 0
[24] ) إمام الحرمين ، البرهان 1 / 93 0
[25] ) إمام الحرمين ، البرهان 1 / 92 ، ابن قدامة ، روضة الناظر 1 / 19 0
[26] ) إمام الحرمين ، البرهان 1 / 93 ، ابن التلمساني ، شرح المعالم  1 / 342 ، القرافي ، شرح تنقيح الفصول / 162
[27] ) الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 205 0
[28] ) السبكي ، رفع الحاجب 2 / 46 0
[29] ) السمرقندي ، ميزان الأصول / 194 ، اللامشي ، كتاب في أصول الفقه / 105 0
[30] ) الفراء ، العدة في أصول الفقه 2 / 360 ، ابن التلمساني ، شرح المعالم 1 / 342 0
[31] )  الشيرازي ، التبصرة / 80 ، السمعاني ، قواطع الأدلة / 171 ، الأرموي ، التحصيل من المحصول 1 / 321 ،  السبكي ، رفع الحاجب 2 / 46 ، السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج 1 / 134 0
[32] ) الطوفي  شرح  مختصر الروضة 1 / 206 0
[33] )  الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 209 ، الأرموي ، التحصيل من المحصول 1 / 322 0
[34] ) الأصبهاني ، معرفة الصحابة ـ باب من اسمه عمرو 14 / 166 0
[35] ) الشيرازي ، التبصرة في أصول الفقه / 83 0
[36] ) ابن قدامة ، روضة الناظر 2 / 139 0
[37] ) ابن جزي ، تقريب الوصول إلى علم الأصول / 104 0
[38] ) ابن السبكي ، جمع الجوامع ، انظر حاشية العطار 1 / 368 ـ 369 0
[39] ) الزركشي ، سلاسل الذهب / 136 0
[40] ) البصري ، المعتمد 1 / 178 / 179 0
[41] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1 / 191 0
[42] ) إمام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه 1 / 103 0
[43] ) ابن السبكي ، جمع الجوامع 1 / 370 ـ 371 ، الزركشي ، سلاسل الذهب / 136 0
[44] ) السمعاني ، قواطع الأدلة / 189 ، الأنصاري ، فواتح الرحموت 1 / 169 ، الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 188 0
[45] ) الأصل فيه قوله r  " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها " رواه البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب الصلاة ـ باب من     نسي صلاة 1 / 155 ، ورواه مسلم ، صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب قضاء الصلاة الفائتة ، انظر صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 193 0
[46] ) هذا ما ذكره عنه الشيخ محمد بخيت المطيعي في تعليقه على شرح الإسنوي على منهاج الأصول ، انظر : سلم الوصول لشرح نهاية السول 1 / 316 0
[47] ) المطيعي ، سلم الوصول لشرح نهاية السول 1 / 316 0


Previous Post Next Post