حوارية  الخطاب الديني
تنخرط الرواية على نحو كبير في جدال القوى التاريخية غير مستبعدة جدال أصوات العصر الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية, والرواية تتبع نهجاً حوارياً يتيح لها حركة متنامية انبنت بشكل رئيسي على تصوير الأفكار المتوازية والمتباينة والمتشابكة؛ وهو ما عبرت عنه الدراسة من خلال علاقات طباقية, برزت في إطار جدلي, كانت حدة الصراعات فيه تعلو وتهبط وفقاً لحدة التباين الذي تجسده فكرتان أو قوتان, وهو ما ترك أثره الملموس في خلق وحدة داخلية للبناء العام للأحداث.

توجه الرواية نقداً ضمنياً لتلك الصورة التي تنحي قوى أنثروبولوجية طبيعية, تولد مع الإنسان؛ العاطفة, الشهوة, الحساسية الجمالية, بدعوى أن السعادة الحقيقية تكون في العمل على تجاوز هذه القوى, فالرواية تعلي من هذه القوى, بل وتجعلها شروطاً موضوعية ينشط بها العقل؛ فالسعادة كما يقول كونديرا لا تكون في التسامي والتجاوز, وإنما في الاعتراف بكل ما هو بسيط وضعيف في حياة الكائن الزائل[1]. ومن هنا يخاطب يحيى جمان - التي انتابتها المخاوف حين عزم على دخول الأزهر- بالقول: "...إذا كان الأزهر يعد تلاميذه للإيمان, فإن المؤمن يحب مطلقاً, والكافر يبغض مطلقاً, ومن قل علمه اجتمع فيه بغض وحب, فتأهبي إذا ما ضمني الأزهر, لقلب يفيض محبة وحتى يغرق الربع وصولاً إلى بيت الأزبكية"[2]. لذلك أيضاً لم تُجد تحذيرات الحاج جعفر ليحيى حين خاطبه بالقول: " أنت أزهري, لا تضع نفسك في مثل هذا الموقع, سبق وقلت لك؛ إلا الغواية"[3]. ومن نفس الباب نستطيع أن نفسر ما جلبه مجيء جمان من قاهرة المعز إلى يحيى في الفيحاء من تشكيك بشخصه, فهو في نهاية المطاف رجل بشري مثل الآخرين, له أسراره ونساؤه, وربما خطاياه أيضاً, وليس ملاكاً متطهراً سقط سهواً من السماوات العلى, وما يستحق كل ذلك التبجيل والانصياع الذي يحصل عليه من الأتباع والمتأثرين بسحر كلامه[4].
ومن هنا كثرت المناوشات بين يحيى وأستاذه فيما يتعلق بزينة الله؛ فالأستاذ يرى أن الطيبات للمؤمنين الصابرين أرجئت إلى يوم القيامة, ولم ير يحيى أن الآية تحرم المتع على تلك الصورة[5]. وحين كان أستاذ الزاوية في الأزهر يرى أن " الغناء يصد عن ذكر الله, ويصرف النفس إلى متع الدنيا وشهواتها دون التفكير بالآخرة " مستشهداً بما ورد عن أبي الطيب الطبري: إن علماء الأمصار أجمعوا على كراهية الغناء ومنعوا عنه, بل ويؤكد إجماعاً على تحريم إجارة نائحة أو مغنية, ويدعو" اللهم نعوذ بك من مزامير الشيطان"[6]. يرد يحيى بما يبدو غريباً وجديداً, بينما هو بعث لشيء قديم منسي, فلا بدعة في القول سوى إيقاظ ما كان نائماً في بطون الكتب[7]. لذلك ينقل عن ابن حزم قوله: " إن من نوى باستماع الغناء عوناً على معصية الله, فهو فاسق, ومن نوى ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على خير فهو مطيع ومحسن, وفعله هذا من الحق, ومن لم ينو طاعة ولا معصية, فهو لغو معفو عنه..."[8]. كما يرد على أستاذه في الأزهر استناداً إلى ما خطه الإمام الغزالي في كتابه " آداب السماع والوجد" " البليد الجامد القاسي القلب, المحروم من لذة السماع, يتعجب من التذاذ المستمع, كما تتعجب البهيمة من لذة اللوزينج, لا تدرك البهيمة لذته بطبيعة الحال, وكذلك غلاظ القلوب والعقول, لا يدركون لذة الغناء"[9].
يطرح هذا الجدل بشأن الغناء سؤالاً وجيهاً وهو: لماذا يسبب الفن فزعاً لخطاب التحريم فيحاول محاصرته ومصادرته؟ وهو ما يجيب عنه نصر حامد ابو زيد بالربط بين الفن والحرية, فالفن هو المجال الأخصب لممارسة الحرية, وحين تصاب المجتمعات بالفزع من الحرية, يكون الفن ضحية هذا الفزع؛ ففي قضية الغناء التي كانت مثار جدل في روايتنا قيد الدراسة, تكون الموسيقى شكلاً من أشكال التحرر من قيود الرتابة, ومن أجل هذه الحرية المبدعة يكره المتشددون الفن, ويضعون في طريقه الأشواك والمحاذير[10]. ولا ننسى في هذا السياق إمكانية للرد على كل من يحرم الموسيقى بما تعتمده الصلوات والأدعية والابتهالات من صيغ شعرية إيقاعية لا يمكن إنكارها في جميع الديانات, ولا ننسى على الأخص صيغة ترتيل القرآن بإيقاعها صيغة شعرية فنية بامتياز, بل إن ترتيل القرآن هو فن موسيقي بامتياز. عدا ذلك فإن الفن هو حاجة إنسانية روحية لا تحتاج إلى إثبات أو تبرير من أي مصدر خارجها [11].
ويغدو من الطبيعي هنا التذكير بأن المدونة الفقهية متنوعة ومتعددة, لكن المؤسسة لاجتماعية والرسمية تختار واحداً من خيارات المدونة الفقهية, واختيارها يقتضي إنكار الخيارات الأخرى مع تجاهل منطقها ورفض حجتها[12]. لذلك يأتي قاضي القضاة ليختار من هذه المدونة حديث ابن عمر إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره, إلا أن يؤمر بمعصية؟...وعدم جواز التطاول على السلطان[13]. فيما يعد سكوتاً على من يعيث فساداً. ويقسم قائلاً: " والله إنه ليس في صالح الأمة مقارعة ولاة الأمور باسم الحق والعدل, ذلك إن الحق والعدل والخير قيم نسبية, وصالح الإنسان فوق كل اعتبار, وصالحه سلامة روحه, وقوت يومه, وأمن معاشه. " أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم, ويمنعوننا حقنا, فما تأمرنا؟ ..اسمعوا وأطيعوا, فإنما عليهم ما حملوا, وعليكم ما حملتم. من خرج من الطاعة وفارق الجماعة, مات ميتة الجاهلية"[14]. أما خيار يحيى فكان مختلفاً, واختار أن يذكر القاضي بقولة أبي بكر: " إن رأيتموني على حق فأعينونني, وإن رأيتموني على باطل فسددوني, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله, فلا طاعة لي عليكم. أو قول عمر: أيها الناس, من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومني"[15].
وتغدو الخيارات السابقة خير ممثل ودليل على أثر السياسة والمصالح في التأويلات والتفسيرات المتعددة للدين, بل إن قراءة متأنية للتاريخ الإسلامي تجعلنا نعيد تأمل التاريخ الإسلامي, بوصفه تاريخاً حرّكته ككل التاريخ الإنساني عوامل متعددة بكل صراعاتها, وهو ما يقتضي تحليلاً ثقافياً ونقداً فكرياً, ينأى عن إسباغ صفة القداسة على هذا التاريخ. وبالتالي يقع على عاتق كل من هو معني بتحليل الخطاب الديني عبر التاريخ أن يفضح الدور الذي لعبه ويلعبه ممثلو هذا الخطاب, وهو ما تحاوله هذه الرواية حين تكشف زيف ادعاءات أولئك الذين ينتقون من التاريخ الإسلامي ما يتماشى مع إيديولوجيتهم, أو حين يدعمون آراءهم وسلطتهم عبر انتقاءات معينة من التراث الديني تهمل ما سواها. ويكون همهم في نهاية المطاف إيقاع الناس في وهم بأن كل خارج عن سلطة المؤسسة الدينية خارج على الإجماع الذي تمثله هذه السلطة بقوة التحالف مع السلطة السياسية[16].
 وما كان ليحيى أن يجابه مثل هذا الخطاب إلا بقدرة ثقافية كمية, أو فلنقل تراكماً معلوماتياً يمكنه من القياس, ولا يكون القياس بعيداً عن قدرة على تلمس وجوه الشبه والاختلاف. وما كان ليحيى إلا أن يفكر بالمقرئين المجودين, بعضهم يعلي ويخفض في قرار صوته كأنما يوافق لحناً موسيقياً...ثم رق صوته لكل صوت جميل وكلم رفيع[17]. وما كان له إلا أن يتساءل "...كيف لما خلق الله أن يصد عن ذكر الله؟..فيقول له أستاذ العميان في الأزهر: لا يذهبن عالم إلى التحريم والتحليل مطلقاً, كأنه في أول الزمان أو آخره, أو مالك للحقيقة دون سواه؛ فيقع في المحظور"[18].
        كذلك يبرز في الرواية الاجتهاد قبالة التقليد, فالأستاذ يحرم القهوة إذ " أجمع فقهاء استنبول على تحريمها وقرنوها بالخمر" وعلى ما فعلوا وقالوا, نقر ونسير"[19]. والمقلد وفقاً للجوزي " على غير ثقة في ما قلد فيه, وفي التقليد إبطال لمنفعة العقل, لأنه خلق للتأمل والتدبر, وقبيح من أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة"[20]. إلا أننا وفي عصرالتلخيصات وشرح التلخيصات والحواشي وشروح الحواشي, صار من الطبيعي أن يقال هنا إن باب الاجتهاد صار شبه مقفل, ذلك أن العقل الإسلامي النشط الذي كان قادراً على قبول التحديات والاستجابة لها, صار عقلاً يعيش على ما هو مخزون وحسب[21].
علماً أن فعل التحريم غلب عليه منطق إضافي يقضي بضرورة تفادي غضب السلاطين"...فوالله إنهم بفرمان ..يغلقون مسجدنا, ويوصدون أبوابه, ويعطلون فتاوي الشافعية منا لصالح الحنفية من أتباع السلاطين العثمانيين"[22]. وتبعاً للمنطق نفسه وجدنا قاضي القضاة وقد تراجع عن فتواه بشأن التبغ, فبعد تحريمها ووضعها في مصافي الخمر, نجده وقد أصدر فتوى أكثر مرونة تفيد إن تبغ الدخان أمر لم ينزل فيه نص ولا تحريم صريح, وأنه نوع من التلهي لا يضر ولا ينفع[23]. يوضح قاضي القضاة ليحيى مسلكه هذا بالقول: " سنمنع حقنا في الهيمنة إذا ما تركنا الحبال على الغارب لكل مجتهد أو مخالف...واعلم أنه لا يضير الناس بطش قليل, أو فقر قليل, أو دعوة خير على المنابر لإمام جائر, ولكن يضيرهم ضياع سلطة فقهائهم عليهم, وبطش أكبر قد ينزل بهم فيسحقهم"[24]. وهو ما عده يحيى مصالح خاصة بهم لا بالناس.
من هنا يأتي حرص الولاة على جمع علماء يكون سلاحهم " الكلام, وهو أشد من السيف"[25]. فالحاكم- وفقاً لما يورده عبد الرحمن الكواكبي-  يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله, بغرض بناء أوامرهم أو تفريعها على شيء من قواعد الدين[26]. وكان من الطبيعي تحويل الأزهر إلى واحد من معاقل السلطان, فعزل قاضيه وعين آخر مرناً ينفذ مخططاً يقضي بإلغاء صلاحيات شيوخ الأئمة الأربعة يجرة قلم مكتفياً بهيمنة المذهب الحنفي, مذهب السلاطين الأتراك.."[27].
        يمثل يحيى على نحو واضح صيغة إنسانية متوازنة تلجأ إلى قياس مرن لا يلون العالم بلونين متناقضين, تقلب خيارات القلب والعقل, تمزج العشق بجد التعلم, وتعرف أن الكون لا يكون إلا بالقبح والجمال معاً, كما المرء السوي لا يستوي إلا بخير وشر. يقول يحيى:" أما الصالحون فمقامهم بعيد المنال, شاق المسعى, شديد على الإنسان, وما يصله إلا قلة, أما أصحاب النار من المثقلين بالمعاصي, فبعيدون عن أصحاب العلم الذين يتفكرون بخلق الله, وما كان الصحابة والأخيار والتابعون والرهط الأكبر من المسلمين والمؤمنين, إلا من المخلطين, ولسنا بأحسن منهم"[28]. لذلك لم يكن مجلس يحيى مجلس شيخ بأتباع مسيرين, بل كان مجلس اجتهاد وتأمل, يعفي البشر من مهمة توزيع الحسنات والسيئات أو إقامة القصور في الجنة أو المهاوي في الجحيم.
لم يكن يحيى يرى في التعدد إلا تجلياً لوحدة عناصر الكون الفسيح, ومن هنا يسخر يحيى من فكرة التقرب للأولياء في الزوايا والتكايا؛ فالأولياء بشر عاديون انقطع عملهم من الدنيا, ورأى في بناء القباب فوق أضرحة الأولياء بطراً يبتز الناس في معاشهم, وأنه ليس من الإسلام في شيء, وما كرامات الأولياء سوى نبتة مخدرة لتنويم الناس اتقاء لثوراتهم على السلاطين[29]. ومع طلابه الذين يجلس إليهم يدعوهم إلى التفكر بالخلق للوصول إلى الإيمان, ويقول: " ما أنا بأعلم من أصغر طالب إذا تفكر وتدبر, لا أداري عقله كما لو كان قاصراً أو عبداً مسيراً, إنما خلق الله على شاكلته روحاً حرة تختار فعالها, وتستزيد من علمه الذي أشاعه في الهواء والماء وكل عنصر كوني"[30]. وهو ما لاقى قبولاً وهوى في قلوب الصبية والشباب المتحلقين حوله, إذ كان بشكه أكثر بلاغة من الشيخ المفوه الذي يعرفونه ويمتلك حقائق اليقين, يسردها بين حضرة وأخرى؛ فقد تأمل يحيى الدنيا دون خوف منها أو طمع فيها أو زهد, وكان يعبر عن أغوار عميقة لم يكن بوسع هؤلاء الشباب أن يعبروا عنها جهاراً, أو أن يجدوا من يتعهدها أو حتى يعترف بوجودها[31].
وعلى الرغم مما ينتابه من حالات صوفية يسترخي فيها جل جسده, ويتركز فكره في حقيقة الكون والإله فإنه  ".. سيشمر ساعديه للعمل, وقد خبروا المتصوفة متعطلين منصرفين إلى نجواهم...كان يقطف الزهر, ويعبئ الأشولة, وينقل العربات المدولبة بين الأشجار إلى الفابريكة.." [32]. ويفصح عن ذلك بأبيات تفسر نهج الصوفية:
ليس التصوف لبس الثوب ترقعه
                ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
ولا صياح ولا رقص ولا طرب
                ولا تغاش كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر
                وتتبع الحق والقرآن والدينا
ويؤمن بقولة ابن العربي: أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني[33].
وما كان لثلة السلطان سوى رفض ما يمثله يحيى, بل إن أستاذه في الأزهر ما عاد يرغب في استقباله, وكان واضحاً أنه لن يجيزه. وفي الفيحاء يستنكر الشيوخ ترويجه للفتاوي دون إجازة من شيخ. فما كان ليروق لهم أن  يجترح إلى اجتهاداتهم اجتهاداً جديداً, وفي كثير من الأحيان وجدنا العيثاوي قاضي القضاة- على علمه بحفيظته الواسعة لكتاب الله ورسوله- يرفض على نحو قاطع ما يأتي به يحيى متعللاً بسلف صالح " كان ذا همة عالية, تبين لهم الحلال من الحرام, ونجوا من الفتن, ونالوا المراتب العلية, لكننا في زمن, لا ترخى فيه المرس للعامة..وينقل عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قوله: " لا تنابذوا بالسيف ما أقاموا فيكم الصلاة, وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه, فاكرهوا عمله, ولا تنزعوا يداً من طاعة". غافلاً عن قول علي لعثمان عن النبي أيضاً : " يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر, فيلقى في جهنم, فيدور فيها كما يدور الرحى, ثم يرتطم في غمرة جهنم"[34]. ويصبح لافتاً في هذا السياق ما يغلب على قول كثيرين ممن يفتون, بأن الفتوى هي رأي الدين, وهي حكم الكتاب والسنة, وهي ما يقول به السلف الصالح. وهو تغليب تظهر الرواية ما يخفيه من حرص بالغ على تشييد صيغ دفاعية تحاول حماية النظام التفكيري, عبر محاولة ربط المتلقي وجدانيا بتجارب أسلافهم ممن أخذوا الدين مأخذاً إنسانياً, مما يفضي إلى مقاومة التغييير إلى درجة التوجس من الكلمة ذاتها والتشكك في نية قائلها[35].
ولا يكتفي العيثاوي بإنكار حق الرعية في انتزاع ما أراده الله بتحكيم أحدهم على البلاد والعباد, بل نجده يخاطب يحيى بالقول: " واعلم أن نفس ذات الحضرة السلطانية مقدسة وغير مسؤولة أمامك أو أمامي, وإذا ما ذهبنا إلى التقريع واستعداء العامة, فإننا نقود الناس إلى فتنة..."[36]. وهو ما يعززه شيخ آخر بالقول: " وأن تكون الناس تحت حاكم فاسد لزمان طال أو قصر, لخير من فراغ يوم بلا قائد, فيقع نزاع وتراق دماء"[37]. وعليه  فإن " من صار خليفة بإرادة الله حلت طاعته وحرمت مطاولته"[38]. وهو ما يتصدى له يحيى, الذي لم يتورع عن التعريض بالفتاوي التي تناقض العقل, ولا تتوافق وقيم الخير والعدل التي شاءها الله للبشرية لخنوع أو جهالة أو مطمع في منصب أو أعطيات, حتى جعلوا الدين سيفاً في غمد السلطان, وخيمة تحجب شمس الحقيقة[39].
        وللكواكبي رأي غاية في الحصافة في هذا الشأن, فنجده يقول: إن التعاليم الدينية تدعو البشر إلى خشية قوة عظيمة هائلة لا تدرك العقول كنهها, تتهدد الإنسان بكل مصيبة في الحياة وبعد الممات كما عند النصارى والإسلام, تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول, وهؤلاء المهيمنون على الأديان يرهبون الناس من غضب الله وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم, ويذهب إلى أن عوام البشر ينجرون ويلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق, وبين المستبد المطاع بالقهر, " فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم, والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال. ويزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب, وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر. حتى يقال إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله"[40].
وبدا للعيثاوي أن الزمن لا يحتمل رجلاً يقلب فكره على نار الشك, ويقف نداً للسلطان, لذلك كان لا بد من تكفيره وإيقاع القصاص به و استئصال جذوره التي تفتن الأمة, وجاء إجماع الشيوخ ممن توجه إلى المحكمة بأن الرجل استحق أكثر من حقه من اهتمام العامة, ولم يخفوا تخوفهم من ذلك الالتفاف الغريب حوله, والمصطبة التي تدبج فيها الفتاوي ويجرؤ أصحابها على الفقه, ويختلط فيها كبارات المدينة بأشقيائها وومسلميها بذميها[41]. وتنقل الروائية عن كتاب ( خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي) قول قاضي القضاة: "...لأني تأملت كفريات هذا الملعون وإعلانه بها, وقد قبضت عليه واستودعته البيمارستان دون السجن, خوفاً من أن تغلب العامة علينا وتستخرجه, خصوصا وقد بلغني أن بعض أكابر الجند وأشقاهم يعتقده"[42]. وكان لا بد من  توجيه رسالة لكل من تسول له نفسه بالجرأة على التفقه والفتوى.
مما سبق نجد أن الرواية تضعنا أمام صورة ثقافية عامة, يمثلها قاضي القضاة ومن اجتمع معه في المحكمة من شيوخ ومعلمين, ترى أن الفقه الإسلامي متحجر ومتشدد وانغلاقي, ويقوم على الرأي الواحد, ويسد الذرائع, ويغلق باب الاجتهاد, ويخاف من الاختلاف, ويقنن الفتوى ويحصرها بكبار وليس لسواهم القول ولا التفكر, ومن هو خارجهم فهم العوام والصغار. قبالة صورة أخرى ترى أن الفقه هو ثقافة في الرأي والاختلاف[43]. فهناك متغيرات كبرى تتغير بها الآراء الفقهية, ومعها تتغير الفتوى, وبالتالي يكون الأصل في الفتوى هو التغير وليس الثبات.
ويبدو لنا حرص الشيوخ على إقصاء يحيى عن الاجتهاد بحجة أنه عامي أمر فيه نظر, فالشاطبي ينفي أن يكون الاجتهاد للعالم وحسب, ونقصد بالعامي كل من ليس بعالم دين, ولكنه يريد أن يتفقه في أمر دينه, ويغدو من المقبول آنئذ أن نتيح له فرصة الاستماع أو حتى قراءة آراء متعددة, يأخذ بالترجيح في ما بينها, فأمام كل اختلاف يلزم المرء بالاجتهاد معملاً مبدأ الترجيح قبالة ما يقف عليه من آراء تستدعي الموازنة بينها[44]. ويبدو من المعقول الحكم على الفتاوي التي اجتمع عليها ثلة من الشيوخ بأنها ذات طابع ظرفي, يعود إلى تخوف نسقي من المتغيرات, كما حصل مع العيثاوي قاضي القضاة الذي انتابه خوف ملح على زوال سلطته الدينية, وهو ما دفعه إلى المواجهة بالتحصن العقلي عبر النص الشرعي, متوسلاً في ذلك خطاباً دينياً يوحي بأن من يخالف الرأي المطروح هو مخالف للكتاب والسنة, وخارج عن الصراط المستقيم, كذلك يأتي التحصن وراء فكرة الكبار وأهل الحل والعقد والخبرة, وبالتالي ما كان ليحيى أن يفتي وهو الصغير الغر الذي لم يتوفر له التاريخ والتواتر اللذان يمنحان صاحبهما قوة معنوية توصله لتلك الحصانة التي يمتلكها العيثاوي أو حتى الميداني, وبالتالي تنتفي صلاحيته أن يكون مرجعاً وسنداً في الرأي والقول.
يحضر يحيى في روايتنا قيد الدراسة ضمن رؤية منفتحة يصنعها الاجتهاد حسب مؤهلات المجتهد, ووفقاً لمعطيات الكتاب والسنة, إلا أنها دعوى للجميع لا يختص بها أحد, ومن هنا لم ير يحيى أن لأحد ما حق احتكار المعنى والمعرفة الوحيدة؛ فالفتوى معنى بشري متعدد ومتغير وهي وجهة نظر تتأثر ظرفياً وعلمياً وعقلياً وشعورياً. وتتواءم على نحو كبير وفكرة التغيير, ذلك أنها أساليب الإقناع والمثاقفة وحرية الاستماع والتساؤل, ومن ثم حرية القرار. وهو ما لا يجد قبولاً لدى فئة أخرى, تتبنى مشروع حجب الفتوى وقسرها, و تتلبس بلبوس حراسة الدين من الدخلاء وصغار المفتين المتطاولين على كبار العلماء[45]. وتقنع بالسند الثابت وحده, دون نظر في المتن, لذلك وصف الميداني يحيى بأنه " مثل كل أرباب القراءة الذين لا يقنعون بالسند الثابت وحده"[46].
وُينقل عن كتاب عنوانه ( ولا يزالون مختلفين)  للشيخ سليمان العودة أن أكثر الناس علماً وتقوى وأقربهم إلى مصادر الشرع هم من تروي الكتب تنوع وجهات نظرهم, حتى إن الذين لا يختلفون حقا هم الأميون, وكلما صار المرء عامياً في مسألة من المسائل مالت نفسه للأخذ بالرأي الواحد القاطع فيها, وصار يخاف من تعدد الآراء. كما يشير سليمان العودة إلى أن رافضي الاختلاف هم الذين يؤججون الخلاف, وفي المقابل فإن المتعاملين مع الخلاف تعاملاً منهجياً هم الأقرب إلى تحييد مغبات الفرقة والتناحر[47].
مما سبق نجد أن الرواية لاحقت زمرة من الفقهاء, همها تحويل البشر إلى قطيع ثقافي مستلب الإرادة وتجعله في حالة من التسليم المطلق, وهو ما يتم على نحو مخطط له من خلال قسمة البشر  بين فئة هي أهل الحل والعقد, وفئات هي العوام التابعة والمستسلمة[48]. أما الفئة الأولى فتحصر الفتوى بمرجعيات شخصية أو مؤسساتية تجعل كلام المفتي بمثابة رأي الدين, ومن ثم تمنحه درجة مكافئة لمقام المقدس الديني بحيث تكون مخالفته مروقاً وضلالاً. وهي حريصة على أن تلغي  فكرة الاجتهاد لأن التقنين تقييد فكري وقسر ذهني, يكفل لها الأمن والحماية. وهو ما ينجم عنه سلطة فئوية تحتكر وحدها الحقيقة, وتقمع ما سواها.  فيها حجر على الفكر, يخالف معاني الحرية والمساواة[49].
وهنا يبرز مفهوم الحاكمية[50] في أوضح صوره, حين يتواجه يحيى وسلطة تضع الضوابط والمعايير, وتستند إلى بنية تحتية عميقة فحواها أن الحقيقة واحدة لا تتغير في المجتمع وفي الثقافة, وكان منطلقها وعمادها على الأغلب حصانة شرعية عليا مُنحت إليها من منطلق تعاملها مع خطاب مقدس, يحقق المراد الرباني في الكتاب والسنة. وهو ما قابله يحيى بعقل يرى أن الرأي معنى بشري غير محصن من الخطأ, لذلك كان يحيى أعظم ممثل لحالة معرفية وأخلاقية لا يبلغها إلا قلة من الناس, ويصح وصفه بأنه حالة ثقافية وصورة ذهنية وذوق معرفي يصل فيها المرء إلى نقد ذاته والتعرف على نفسه حق التعرف حتى ليعرف كم هي ناقصة وقاصرة وعاجزة[51].
يبرز التجديد في هذا النص باعتباره سيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية, وهو بالتأكيد ليس مجرد حالة فكرية طارئة, وإنما هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التي ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصة. وبالتالي بدت لنا شخصيات بعينها معطلة للفكر, إذ تكتفي بترداد وتكرار ما سبق قوله, رافضة الخروج من أسوار التبعية السياسية والفكرية. وكانت هذه الشخصيات على الأغلب تجسيداً حقيقياً لما عرف باسم الاستخدام النفعي للدين, وهو أمر قديم جديد, كان وما يزال من أهم التحديات التي تواجه المجتمعات العربية الإسلامية, حين برزت فيها فئة ضالة حولت الإسلام إلى أداة من الأدوات, واختزلته في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية[52]. 
وهو أمر ينبثق عنه بالضرورة ترسيخ لسلطة رجل الدين والمؤسسة الدينية, فيجتمع السياسي والديني في قبضة واحدة, فيصبح المخالف مارقاً وخارجاً عن إجماع الأمة, ومهددا لوحدتها. وما كان ليحيى في سعيه إلى تحريك عقله بالتحدي إلا أن يجابه بتهمة التكفير[53], ذلك أنه رفض الإذعان تحت زعامة طاعة الله الذي يمثله جماعة تحتكر الإسلام, وتحصر النقاش في بعض القضايا الدينية داخل دائرة أهل العلم حتى لا تتشوش عقائد العامة, أو لا يصيبها الفساد, وهي دعوات في ظاهرها-كما يقول أبو زيد- الرحمة والحق وفي باطنها السوء والباطل[54].
نخلص إلى القول إن الإسلام تجربة تاريخية تعلمنا أن التمسك به كدين ومعتقد دون العمل على تجديده من أجل أن يلبي طموحات هذه المجتمعات ويجيب على التحديات التي تواجهها من شأنه أن يؤدي إلى سجن الفرد[55], ومن هنا لم يكن يحيى ليقف موقف المتفرج إزاء المعاني التي طرحها السلف بحجة أنهم كانوا الأقدر على الفهم من الأجيال التالية لأنهم أقرب زمنياً لفترة العصر الذهبي, أو لأنهم كانوا أكثر تقوى منا نحن المعاصرين[56]. فهو كما رأينا في محور سابق خلاصة تكوين معرفي مدرب على أهمية إثارة الأسئلة, وتقليب الاحتمالات الممكنة, والتفكير في الأجوبة قبل اختيار أحدها, والاستعداد للتخلي عن قناعته إذا ثبت له عدم دقتها, والأهم من ذلك عدم قبول الرأي الشائع من دون فحص ونقد. بما يتوافق ومنهج الشك والمراجعة, وبما يتسم به من تكريس لمنطق الحوار العلمي بعيداً عن آراء مضللة تدعو إلى محاكاة الماضي باعتباره زمن الانتصارات المطلقة.

[1] الكردي, محمد, فن الرواية عند ميلان كونديرا, مجلة فصول, العدد 66, ربيع 2005, ص115-116.
[2] الرواية, ص180.
[3] الرواية, ص193ز
[4] الرواية, ص379.
[5] الرواية, ص197.
[6] الرواية, ص194.
[7] الغذامي, عبد الله, الفقيه الفضائي: تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, 2011, ص56-57.
[8] الرواية, ص196.
[9] الرواية, ص197.
[10] أبو زيد, نصر حامد, التجديد والتحريم والتأويل, مرجع سابق, ص91.
[11] المرجع نفسه, ص97, ص105.
[12] الغذامي, عبد الله, الفقيه الفضائي, مرجع سابق,ص56-57.
[13] الرواية, ص356.
[14] الرواية, ص357.
[15] الرواية, ص358.
[16] انظر أبو زيد, نصر حامد, التجديد والتحريم والتأويل, مرجع سابق, ص60, 66, ص86-87.
[17] الرواية, ص194-195.
[18] الرواية, ص196.
[19] الرواية, ص199.
[20] نقلاً عن القرضاوي, الحلال والحرام, ص9.
[21] أبو زيد, نصر حامد, التجديد والتحريم والتأويل, مرجع سابق, ص152.
[22] الرواية, ص199.
[23] الرواية, ص340.
[24] الرواية, 359.
[25] الرواية, ص200.
[26] الكواكبي, عبد الرحمن, طبائع الاستعباد ومصارع العباد, منشورات الجمل, ألمانيا, 2006, ص24.
[27] الرواية, ص211.
[28] الرواية, ص334.
[29] الرواية, ص212, 214, 215.
[30] الرواية, ص258.
[31] الرواية, ص287, 288.
[32] الرواية, ص326.
[33] الرواية, ص332.
[34] الرواية, ص407.
[35] الغذامي, عبد الله, الفقيه الفضائي, مرجع سابق, ص42.
[36] الرواية, ص407.
[37] الرواية, ص408.
[38] الرواية, ص408. 
[39] الرواية, ص408.
[40] الكواكبي, عبد الرحمن, طبائع الاستعباد ومصارع العباد, مرجع سابق, ص21, 22, 24, 27,
[41] الرواية, ص282.
[42] الرواية, ص383.
[43] الغذامي, عبد الله, الفقيه الفضائي, مرجع سابق, ص6.
[44] المرجع نفسه, ص13. وانظر الشاطبي, 4-392.
[45] المرجع نفسه, ص36-37, ص52.
[46] الرواية, ص426.
[47] الغذامي, عبد الله, الفقيه الفضائي, مرجع سابق,, ص72, 76.
[48] الغذامي, عبد الله, النقد الثقافي, الشعرنة, الفصل الثاني. مرجع سابق.
[49] الغذامي, عبد الله,الفقيه الفضائي, مرجع سابق, ص90, 91, 92.
[50] وهو المفهوم الذي يتخلل الخطاب العام, وإن تم التعبير عنه بمصطلحات أخرى مثل" الثوابت الاجتماعية, والثوابت الأخلاقية, والثوابت الدينية. انظر أبو زيد, نصر حامد,التجديد والتحريم والتأويل, مرجع سابق, ص94.
[51]الغذامي, عبد الله, الفقيه الفضائي, مرجع سابق, ص147.
[52] أبو زيد, نصر حامد, التجديد والتحريم والتأويل, مرجع سابق, ص21-22, ص24.
[53] ومن هنا يقول نصر حامد أبو زيد: التكفير هو النهج الكاشف عن مخاصمة التفكير والانقلاب ضده. ولا غرابة في ذلك, فالمفردتان اللغويتان فكر وكفر تنتميان إلى مادة لغوية واحدة من حيث أصل الاشتقاق, وهكذا ينقلب التفكير إلى تكفير. انظر كتابه التجديد والتحريم والتأويل, ص33.
[54] المرجع نفسه, ص34.
[55] المرجع نفسه, ص31.
[56] وهو ما يجيب عليه بأنه ادعاء غير علمي ويفترض أن المعرفة تقف عند نقطة لا تتبدل ولا تتقدم, وهو يتجاهل حقيقة أن فكر السلف متاح لنا إضافة إلى ما واكبته البشرية من تراكم معرفي لم يكن متاحاً للسلف. انظر كتابه التجديد والتحريم والتأويل, مرجع سابق, ص39.
Previous Post Next Post