مفهوم الهزل :
   الهزل ضد الجد  ، وهو أن لا يراد باللفظ معناه الحقيقي ولا المجازي [1] .
 وقال فخر الإسلام في تفسيره : هو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له  ، وهو ما ذهب إليه النسفي [2] ، إذ الألفاظ موضوعة أصلاً للدلالة على معانيها الحقيقية , ولكنها قد تُستعمل في معاني مجازية ، والتصرفات الشرعية ألفاظ وصيغ موضوعة لأحكام تترتب عليها ويلزم معانيها بحسب الشرع ، فيكون المقصود بالهزل عدم إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي باللفظ ، وبالتالي عدم إفادته الحكم الشرعي .
فالهازل يعلم ما يقول ، ويتكلم بالصيغة مختاراً وبرضاه ، لكنه لا يقصد موجب ما ينطق به ، ولا يريد للحكم أن يترتب على قوله ولا أن يثبت ، بل ولا يرضى به ولا يختاره .

شرط الهزل : لا يشترط في الهزل أن يكون مذكوراً في العقد ، بل يشترط ذكره باللسان صريحاً قبل العقد ، كأن يقول لزوجته ممازحاً إياها أو هازلاً : أنت طالق 0

المطلب الثاني : أثر الهزل على الأهلية :
لا ينافي الهزل الأهلية [3] بشقيها الوجوب والأداء ، فالهازل حي حياة مستقرة ، ومدرك لما يقول ، ولا منافاة لاختيار المباشرة ، لكنه لا يرضى بأثر قوله ، ولا يرغب فيه ، مع قيام صورة السبب .

المطلب الثالث :  أنواع الهزل وحكمه : 
تنقسم تصرفات الهازل باعتبار الاختيار والرضا إلى [4] : إنشاءات ، وإخبارات واعتقادات :
فالإنشاءات : إحداث حكم شرعي ، كالبيع والطلاق والعتاق واليمين .
والإخبار : هو القصد إلى بيان الواقع .
والاعتقادات : ما ليس مقصوداً به بيان الواقع مما ليس إنشاءً .
حكم الهزل في هذه الأنواع : 
أولاً :   الهزل في الاعتقادات : هو كفر وردّةٌ عن الدين ، والهزل لا يمنع ترتب أثره عليه ، فمن نطق بكلمة الكفر هازلاً فقد أصبح مرتداً بها ، مع أنه قد يزعم أنه لم يقصد الردة ولا يرضاها لنفسه ، إذ إن الاستخفاف بالإسلام والنطق بكلمة الكفر مختاراً غير مكره عليها كفر لقوله تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ {65}    لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (   سورة التوبة  66 )  ، فقد وصف الله سبحانه وتعالى الهازئين بالكفر ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الهازل يكفر بذات الهزل لا بما هزل به ، وهو من أمارات تبدل الاعتقاد [5] ، ولذلك لا يجوز أن يقال إنه لم يقصد الردة ، ولم يبدل عقيدته  فلا عبرة لما قال ، إذ مبدأ الهزل في العقيدة محرم ، فهو استخفاف بالله وآياته ورسوله ، وقد نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر بن العربي قوله [6] : ( لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفر ، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو العلم والحق ، والهزل أخو الباطل والجهل ) [7] .
ولو أسلم هازلاً فيصح إسلامه ، لأنه إنشاء لا يقبل الرد ، ترجيحاً لجانب الإيمان ، إذ الأصل في الإنسان أن يؤمن بالله ، ويصدق بما جاء من عنده ويعتقده [8]  .
ومن جانب آخر فقد مضى أن الكافر لو أُكره على الإسلام ونطق بالشهادتين صح منه ، ويعتبر مسلماً [9] ، وهو أسوأ حالاً من الهازل ، إذ المكرَه نطق بها دون إرادة منه واختيار ، ومع ذلك اعتُبر مسلماً ، والهازل حرٌ مختارُ لما قال ، وليس مكرهاً على النطق ، فهو أولى بأن يترتب على قوله أثره .
ثانياً :الهزل في الإنشاءات :  وهو أن ينطق بشيء فيترتب عليه أثر شرعي والتزام تجاه غيره ، كالبيع والإجارة والطلاق والعتاق واليمين : وهو قسمان :  منها ما لا يحتمل الفسخ ، ومنها ما يحتمل :
أما ما لا يحتمل الفسخ :    فهو الذي لا يبطل بالهزل ، ولا يؤثر فيه ، وقد لا يقابله مال : كالطلاق ، والعتاق ، واليمين ، والنذر ، والعفو عن القصاص ، ومنها ما يترتب عليه مال كالنكاح ، وتعتبر تصرفاته صحيحة نافذة [10] ، وتترتب عليها آثارها الشرعية ، لوجود سببها وهو التلفظ بإرادته واختياره ، مع علمه بما يقول ، ولا وزن لعدم قصده الحكم ، بل التصرف صحيح والهزل باطل ، لقوله r [11] : " ثلاث جدهن جدّ ، وهزلهن جد ّ النكاح والطلاق واليمين " ، وفي رواية " والرجعة " بدل اليمين [12] ، ولأن الهازل راضٍ بالسبب لا الحكم ، والحكم في هذه الأسباب لا يحتمل التراخي والرد ، بل يجب ضرورة عقب النطق من غير تأخير، ألا ترى إلى فساد نكاح المجنون لفساد كلامه ، بينما كلام الهازل صحيح ، فنكاحه صحيح [13] ، وكذلك طلاقه .
أما ما يحتمل الفسخ : كالبيع والإجارة وما شابه ذلك فقد اختُلف فيه :
فقال الشافعية بمؤاخذة الهازل بما صدر عنه من عقد [14] ، إلزاماً له بظاهر قوله دون اعتبار لقصده ، تلافياً للاضطراب في العقود ، ولكي لا يزعم بعضهم أنه لم يكن جاداً فيما التزم به .
وذهب الجمهور من الحنفية [15]، وهو المعتمد من مذهب المالكية [16] ، والمشهور في مذهب الحنابلة [17] إلى بطلان ونفي أن يكون للهزل أثر في إنشاء الالتزامات كالعقود ، لأن الأساس فيها هو القصد والإرادة ، فلما انتفى القصد انتفى أثر التصرف [18] 0
ثالثاً : الهزل في الإخبارات ـ وهي الإقرارات ـ :  فهذه يبطلها الهزل [19] سواء كانت إخباراً عما يحتمل الفسخ كالبيع والنكاح ، أو لا يحتمله كالطلاق والعتاق ، وذلك لأن الخبر يعتمد صحة المُخْبَر به ، وتحقق الحكم الذي صار الخبر عبارة عنه وإعلاماً بثبوته أو نفيه ، والهزل يتنافى مع ذلك ، ويدل على كذب ما أقر به الهازل ، فلا عبرة له ولا اعتداد به .
وخلاصة القول: الهزل في الاعتقاد كفر ، لأنه متعلق بحق الله تعالى ، ويحرم الاستهزاء بالله وآياته ورسله ، وتترتب على الهازل الآثار التي على الجادّ .
وأن الهزل في إنشاء النكاح والطلاق والعتاق واليمين غير معتبر ، وتصرفات الهازل فيها صحيحة ونافذة ، لأن هذه حقوق لله تعالى .
وأما حقوق العباد ، وما يجرونه من عقود مالية : فالهزل فيها متصور ومحتمل ، وقد يقر به العاقدان ، وأما الهزل في الإقرارات : فهو باطل ، لظهور الكذب فيها .

[1] ) صدر الشريعة ، التوضيح لمتن التنقيح 2 / 187  0
[2] ) النسفي ، شرح المنار 2 / 979 0
[3] ) البخاري ، كشف الأسرار 4 / 499 0
[4] ) التفتازاني ، التلويح 2 / 187 ، ابن أمير الحاج ، التقرير والتحبير 2 / 194 0
[5] ) التفتازاني ، التلويح 2 / 191  0
[6] )  القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 9 / 189 0
[7] ) نزلت هذه الآيات في غزوة تبوك في ركب من المنافقين كانوا يسيرون مع النبي r فقالوا : انظروا هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر ! فأطلعه الله على ما في قلوبهم وما يتحدثون به ، فقال " احبسوا علي الركب " ، فقال لهم قلتم كذا وكذا " فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب ، يريدون أنهم غير مجدّين ، ورسول الله r يقول أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ 0
انظر : القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 9 / 189 ، الطبري ، جامع البيان 10 / 172 – 173 0
[8] ) التفتازاني ، التلويح 2 / 191   0
[9] ) انظر ص ( 311 ) 0
[10] ) السرخسي ، أصول السرخسي 2 / 285 ، ابن القيم ، إعلام الموقعين 3 / 276 ، الزركشي ، المنثور 2 / 391 0
[11] ) الحاكم ، المستدرك على الصحيحين 2 / 216 ، الصنعاني ، سبل السلام 3 / 176 ، الطحاوي ، شرح معاني الآثار 3 / 98 0 ( صحيح ) 0
[12] ) الترمذي ، سنن الترمذي 3 / 490 ، وقال ( حسن غريب ) ، وانظر : الزيلعي ، نصب الراية 3 / 293 ، اللخمي الإشبيلي ، مختصر خلافيات البيهقي 4 / 209 ، الشوكاني ، نيل الأوطار 7 / 20 0
[13] ) البخاري ، كشف الأسرار 4 / 499 0
[14] ) النووي ، المجموع 9 / 316 ـ طبعة دار الفكر 1997 م 0
[15] ) الكاساني ، بدائع الصنائع 5 / 176 ، الزيلعي ، البحر الرائق 6 / 99 ، ابن عابدين ، حاشية ابن عابدين 5 / 275
[16] ) عليش ، منح الجليل شرح مختصر خليل 3 / 269 0
[17] ) المرداوي ، الإنصاف 4 / 266 ، ابن تيمية ، الفتاوى الكبرى 3 / 150 ، ابن اللحام ، القواعد والفوائد الأصولية / 84 ، البهوتي ، كشاف القناع  3 / 150 ، ابن مفلح ، الفروع 4 / 36 0
[18] ) البهوتي ، كشاف القناع 3 / 150 0
[19] ) الكاساني ، بدائع الصنائع 7 / 341 ، الزرقا ، المدخل الفقهي العام 2 / 856 ـ 857 0

Previous Post Next Post