الجذورالغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف العربية
1-في المرحلة الغابية:

كان أبناء الجزيرة  العربية يعتمدون في هذه المرحلة التي امتدت حتى الألف(12) ق.م الأصوات الهيجانية والحركات  العفوية للتعبير عن حاجاتهم المحدودة. وهذه الطريقة هي ألصق الطرق ببدائيتهم. قد ورثنا عنها يقينا أحرف (الهمزة والألف والواو والياء).
2-في المرحلة الزراعية:

قد اعتمد أبناء الجزيرة العربية في هذه المرحلة التي امتدت من الألف(12) حتى الألف(9)ق.م كيفية النطق ببعض أصوات الحروف العربية للتعبير (إيماء وتمثيلاً) عن حاجاتهم ومعانيهم. قد ورثنا عنها أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال) بترجيح شديد.
3-في المرحلة الرعوية:

لقد اعتمد العربي في هذه المرحلة التي امتدت منذ الألف (9)ق.م حتى العصور الجاهلية الأولى صدى أصوات الحروف العربية في النفس للتعبير(إيحاء) عن شتى الحاجات والمعاني. وهذه الطريقة هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في دنيا التواصل اللغوي، فلم يعد لها مثيل في أي من لغات العالم. قد ورثنا عنها باقي الحروف. ولاعبرة لاحتمال انتماء أصول بعضها إلى الغابية أو الزراعية كما في الحروف (ب-د-ت-ش-خ.......) مادامت لم تستوف خصائصها الإيحائية وشروطها الثقافية إلا في المرحلة الرعوية. ونظراً لأن تراثنا اللغوي قد أُبدِع خلال المرحلة الرعوية على شفق الشعر وفي ضوء الخصائص(الإيحائية)، فقد غابت الخصائص (الإيمائية التمثيلية) للأحرف الزراعية حتى عن القائلين بفطرية  اللغة العربية من علمائها. كما غامت عليهم الخصائص (الهيجانية) للحروف(الغابية)، فلم ينتبه إليها إلا قلة قليلة منهم في لمح عابرة، وبقليل من الدقة أغلب الأحيان.
وهذه الطريقة (الإيحائية) لم يتوصل إليها الإنسان العربي في المرحلة الرعوية إلاّ بعد أن بلغ مستوى ذهنياً متميزاً في رقيه الاجتماعي والثقافي ولاسيما الفني، وبعد معاناة طويلة مع أصوات الحروف ومعانيها، وتحت رقابة مقولة (لافن بلاأخلاق، ولا أخلاق بلا فن) دامت آلاف الأعوام(انظر مقدمة الدراسة).
ولذلك فإن استنباط معاني اللفظة العربية من صدى أصوات أحرفها في النفس يتطلب منا نحن بالمقابل مستوى مماثلاً في الرقي ولاسيما في الملكة الفنية (الذوقية)، وطول معاناة مع أصوات الحروف ومعانيها. وقلّما يتوافر ذلك لغير نفرٍ من هواة اللغة العربية ، من مريدين وأساتذة، ممن يتحلون برهافة الأحاسيس، وشفافية المشاعر، على كثير من الصبر الجميل .
فخاصية الشدّة في صوت (الدال) مثلاً، وخاصّية التحرك والترجيع والتكرار في صوت (الراء)، وخاصيّة الانبثاق والنفاذ والصميمية في صوت (النون)، وخاصيّة الاهتزاز والاضطراب والتشويه في صوت (الهاء) ، وخاصية الصلابة والصقّل والصفاء في صوت (الصاد)، وما إلى ذلك من خصائص أصوات الحروف، لا يستطيع القارئ أن يعيها ، ولا أنْ يعيَ العلاقة بينها وبين معاني الألفاظ التي تشارك في تراكيبها، إلاّ بعد تأمل هادئ عميق ومعاناة طويلة. 
ولعلّ بعضاً من دكاترة اللغة العربية من خريجي المعاهد الغربية قد استعظموا على الإنسان العربي، الضارب في مجاهل الأرض والتاريخ أن يبلغ ذلك المستوى الثقافي الرفيع في صناعة الأصوات للتعبير عن معانيه بهذه الطريقة الأسطورية ، خلافاً لما هو واقع الحال في اللغات الغربية الراقية وما استقر عليه آراء علمائها.
فلقد أنكر محمد المبارك خريج معهد السربون في باريس على الحرف العربي خصائصه الإيحائية بضعة عشر عاماً أمضاها في تدريس اللغة العربية والتأليف فيها، قبل أن يعترف بذلك صراحة كما جاء في كتابه ( خصائص العربية (ص260-263).
على أن أصحاب المدرسة اللغوية القديمة القائلين بفطرية اللغة العربية، وما يستتبع ذلك من أنّ أصوات الحروف في اللفظة العربية توحي بمعناها، لم يدعموا رأيهم هذا بالبراهين الإحصائية القاطعة على وجود علاقة إيحائية بين أصوات الحروف العربية ومختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية.
فإذا كانت معاني الألفاظ تتردد بداهة بين ما يدل على ملموسات وذوقيات وشميات وبصريات وسمعيات ومشاعر إنسانية ، فإنه لابد لأصوات الحروف أن توحي إذن بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن صوت الحرف في اللفظة العربية يصبح رمزاً على معنى، لتتحوّل اللفظة العربية بذلك إلى مجرد مصطلح على معنى كما يدّعي أصحاب المدرسة اللغوية الاصطلاحية. أما إذا كانت أصوات الحروف العربية صالحة فعلا للإيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية (لمس-ذوق- شم- بصريات-سمعيات)، وبمختلف المشاعر الإنسانية، فإن الأصوات نفسها لابد أن تكون صالحة أيضاً للإيحاء بالأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. فالحروف العربية قبل أن تنتمي إلى القطاع اللغوي تنتمي أصلاً إلى القطاع الصوتي.
وإذن، لابد أن يكون ثمة نظام فطري معين يحكم العلاقات الكائنة بين الحواس الخمس لمسيّها وذوقيّها وشميها وبصَرَيّها وسمعيّها.
ولقد جهدت طويلا في الكشف عن هذا النظام الذي يعتبر الحجر الأساس في وجهة نظري هذه حول خصائص أصوات الحروف العربية الإيحائية، فخصصت له هذا الفصل.
وكيما يتابع القارئ بشيء من السهولة هذه الدراسة في الأبواب والفصول التالية، لابدّ له أن يستوعب أولا كل ما جاء في هذا الفصل من أسس يزوّد بها ذاكرته ومخيلته لمواجهة ماسيعترضه من مسائل جديدة غير مطروقة.

Previous Post Next Post