مراحل البحث التاريخي
إن الهدف من الاستقصاء والبحث التاريخي هو خلق معرفة علمية من الماضي الانساني تستند على التعليل والسببية. أي الاستناد إلى منهجيات وطرائق عقلانية تقود في نهاية الأمر إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التقنية وهي طبيعة الوثائق المستخدمة في البحث ووجودها أو الظروف المنطقية التي تحللها نظرية المعرفة.
إن مراحل وخطوات صنع المعرفة العلمية خمسة:
اختيار موضوع البحث- تقميش المصادر- النقد –التركيب – انشاء الموضوع
أولا: اختيار الموضوع أي اختيار مشكلة أو ظاهرة البحث
إن الاصول الأساسية في اختيار موضوع أو مشكلة البحث هي متشابهة في كافة المناهج العلمية التاريخية والوصفية والتجريبية. والمقصود في مشكلة البحث أو موضوعه هو طرح مشكلة تتعلق بالماضي ويكون لها أهمية واقعية وقيمة وجودية والباحث الجيد هو الذي يعرف كيف يختار المشكلة التاريخية أو الموضوع التاريخي. إذ عليه أن يعطي عناية كبيرة لاختيار المشكلة التاريخية وتحديد موضوعها بدقة. إذ أن مجال المشكلة يجب أن يبقى في حدود معقولة. ويمكن أن تكون أسئلة البحث التاريخي المحددة بدقة  وعناية هي المرشد والموجه الأكبر للباحث لتتبع البيانات ذات العلاقة المباشرة بالإجابة عن هذه الأسئلة. ويمكن أن تصاغ هذه الأسئلة على شكل فرضيات.
إن مشكلة البحث التاريخي يجب أن تنطلق من المبادرة الذاتية للباحث التاريخي كما يجب أن تنبثق من فضوله العلمي الخاص. وأن تكون جديدة في عنوانها ومضمونها. أي أنها مشكلة تضيف دراستها والبحث فيها الجديد من المعلومات والحقائق إلى المعرفة التاريخية سواء أكان هذا في مجال التوثيق أو في مجال التركيب. وقد يقوم بعض الباحثين بمعالجة موضوعات تاريخية تم بحثها سابقا في حالة وجود أصول تاريخية جديدة تسوغ إعادة بحث الموضوع أو المشكلة التاريخية من جديد. وتسليط أضواء جديدة على بعض مناحيه.
يجب أن تكون مشكلة البحث التايخي أو موضوعه بقدر طاقة الباحث على العمل وبقدر قدرته على الحصول على الأصول الضرورية. وأن تكون هذه الأصول قابلة على تقديم ما يوضح المشكلة أو الموضوع ويقدم الحلول لها. كما يجب أن تكون مشكلة البحث التاريخي أو موضوعه أو حدثه بعيدة ما لا يقل عن خمسين عاما عن زمن الباحث.
عند تعيين الباحث التاريخي لمشكلة أو موضوع بحثه يكون في أحد الحالتين: إما أن مشكلة أو موضوع البحث انبثق في ذهنه واتضحت معالمه وحدوده وعندئذ يكون إطارها البحثي قد تحدد مسبقا وبسهولة ويسر. أو أن يكون الباحث في الأصل خالي الذهن عنها أو أن الغموض يكتنفها في ذهنه. عندئذ يلجأ الباحث إلى القراءة والمطالعة حولها لكي يشكل خلفية ثقافية يحدد وفقها موقع المشكلة. ويقوم ببحث عام أولي عن مصادر المشكلة فيستفسر عنها ممن له دراية بها. ومن ثم يقوم بوضع مخطط أولي للمحاور التي سوف يقوم ببحثها ودراستها والاستقصاء عنها وبهذا يتأطر لدى الباحث هيكل وعنوان الموضوع.  

ثانيا: تقميش المصادر أي جمع الحقائق والوثائق وتدوينها
إن الوسيلة الأساسية للإجابة على مشكلة أو موضوع البحث التاريخي هي مصادره. حيث أن جمع المصادر ذات العلاقة بموضوع البحث التاريخي هي من أهم  أعمال الباحث المؤرخ. ويطلق على هذا العمل مصطلح (Heurestique). فالتاريخ يصنع بالوثائق وحيث لا وثائق لا يوجد تاريخ. ولعل أهم خطوة من الخطوات الإجرائية في البحوث التاريخية هي تحديد مصادر البحث. وقد حاول المختصون تصنيف الوثائق والمصادر إلى نمطين:
(1) المصادر الأولية
ويقصد بهذا النمط من المصادر تلك المصادر الأساسية أو الأصلية التي يعتمد عليها في تقييم الأحداث أي المصادر الأولى للمعلومات. بمعنى أن هذه المصادر لم تعتمد على مصادر أخرى لنقل المعلومة. إنما تعتبر أول مصدر للمعلومة. وانواع هذه المصادر عديدة ومنها ما ذكره على سبيل المثال John Best (1990) في مؤلفه عن البحث التربوي: الوثائق والسجلات (المخطوطات) التي كتبها شخص ما وتم حفطها كما هي لكي يمكن العودة إليها والاستفادة منها. ومن المصادر الأساسية ايضا الدساتير والقوانين والقرارات والمحاضر الرسمية للإجتماعات والرسائل الشخصية والخرائط والكتب التي لم تعتمد على مصادر آخرى والرسائل الأكاديمية العلمية والأفلام والصور والرسوم والتقارير والتسجيلات والصحف والسندات والإحصاءات ويضاف إليها ايضا الحفريات والآثار المرتبطة بشخص أو مجتمع معين عاش في فترة زمنية معينة. وهذا النمط من المصادر يعد ضروريا لإثبات مصداقية الحدث التاريخي.
(2) المصادر الثانوية
هذا النمط من المصادر هو عبارة عن مصادر للمعلومات التاريخية غير مباشرة أي أن مصدر المعلومة في هذه المصادر لم يشارك في الحدث أو الظاهرة التاريخية. إنما نقل المعلومة عن شخص آخر يمكن أن يكون قد رواها أمامه حيث أن الأول لم يرها ولم يلاحظها بشكل مباشر لأنه ليس عنصرا مشاركا فيها. ومن أمثلى المصادر الثانوية الكتب المجموعة أو المحررة والكتب المؤلفة اعتمادا على مرجع أخرى ودوائر المعارف والدوريات الفصلية.
وهناك تصنيف آخر للمصادر والوثائق التاريخية جاء على ذكره بعض المؤرخين والذي لا يختلف في مضمونه عن التقسيم والتصنيف السابق وعلى الشكل التالي:
(1) الوثائق المكتوبة أو المطبوعة
تشكل الوثائق المكتوبة المخطوطة ميدانا واسعا حيث تشمل وثائق الأرشيفات التي تعني المحفوظات الحكومية وأرشيف المنظمات المختلفة في المجتمع مثل سجلات الجمعيات والنقابات والاحزاب السياسية...الخ. كما تشمل المدونات الإعلامية مثل النشرات والصحف والدوريات المتنوعة واإذاعة. والتقارير السرية الحكومية والخاصة. كما تشمل ايضا المؤلفات الأدبية والجغرافية والعلمية المجردة والفلسفية والفنية والتاريخية وكل ما تم تدوينه من المعارف ذات القيمة والأهمية. كما يشمل ه1ا النمط من المصادر المكتبات التي يبحث المؤرخ فيها عما يلي من الأمور:
(أ) البيبيلوغرافيا (Bibliographic)
وتعني  في معناها العام مجموع ما تم نشره عن موضوع محدد. وتعني في معناها الخاص علم المؤلفات الخاصة بحقل معين من المعرفة وما نشر منها. وهي إما وضعية أو نقدية أو تحليلية. والبيبيلوغرافيا هي أداة البحث الأولى حيث قد يلجأ الباحث التاريخي إلى البيبيلوغرافيا التاريخية دون غيرها.
(ب) الإنسكلوبيديا ( Encyclopidia)  والآرشيف (Archives)
قد تضم المكتبة بعض وثائق الآرشيف وبعض الوثائق الأركيولوجية (النقود) وبعض الموسوعات العامة (Encyclopidia) والتي تعني كتب المعارف العامة. وكل هذه المصادر تعين المؤرخ التاريخي في بحثه بما تزوده به من المعلومات ذات العلاقة والتي يستعين بها عند التحليل والمقارنة والعرض.
(ج) أدوات العمل (Research Working Tools)
إن من أدوات العمل البحثي معاجم الأعلام ومعاجم اللغات والأطالس التاريخية والأطالس الجغرافية والخرائط. هذا بالإضافة غلى الأدوات المادية الضرورية للبحث التاريخي مثل القارئات (المايكروفيلم) والمصورات (فوتوغرافي) وبعض المواد الكيمياوية المساعدة.
(2) الوثائق الأخرى (Miseellaneaus)
وتعني المخلفات المحسوسة وتشمل الآثار التي تختلف عن الأحداث مثل المباني والطرق والجسور والبقايا الأنسانية والصور والوسائل الناطقة مثل الأشرطة المسجلة والسجاد والأقمشة والفنون. ثم يتبع هذا المخلفات الأثرية التي تحفظ في المتاحف الفنية والتاريخية والعلمية وتهتم جميع هذه المتاحف بالبحث التاريخي.



(3) الرواية الشفوية المباشرة ( The direct verbal narrative)   
 تعني الرواية الشفهية المباشرة اقوال الأفراد والأشخاص ذوات الثقة والعدل الذين شهدوا وعايشوا الحدث التاريخي بأنفسهم وسمعوا عنه مباشرة. وقد يقوم الباحث بالاستعانة الباحث بشهادات أفراد لم يروا الحدث التارحي بأنفسهم ولكنهم سمعوا عنه من أشخاص آخرين شاهدوه مباشرة وعايشوه أو قد قرؤا عنه في مصادر مفقودة. هذا وتعد الرواية الشفوية المباشرة أحد اهم مصادر البحث التاريخي حيث يقوم الباحث التاريخي بالاتصال بالأشخاص الذين عايشوا الحدث التاريخي وشاهدوه واشتركوا فيه بشكل فعلي بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريقة الكتابة إليهم. بعد أن يكون الباحث قد أعد مجموعة من الأسئلة الشاملة لكي تطرح عليهم وقد تكون الإجابة شفهية أو تحريرية. وهنا لابد من خضوع هذه المصادر المعرفية المنقولة بالرواية الشفوية المباشرة لنقد الباحث التاريخي من حيث سلامتها الجسمية والنفسية والعقلية والأهواء والميول والعواطف الذاتية والشخصية.
Previous Post Next Post