علاقة حرف الراء بالحاسة الذوقية؟.


من غرائب حرف الراء، أن العربي قد أدخله في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على أهم مصادر الحلاوة التي تذوقها في  صحرائه من تمر وعسل، منها:

الرُّب (عصارة التمر المطبوخ). الرُّضاب (رغوة العسل). الرطب (ثمر النخل إذا نضج قبل أن يصير تمرا). الرمْخ (بسر التمر). البسر (ثمر النخل قبل أن ينضج). التمر.الشَّور (العسل المستخرج من الخلية. الكمر (البسر يرطب بعد سقوطه على الأرض).الضّرَبُ (العسل الأبيض الغليظ). الطَّرم (شهد العسل).

فما تعليل هذه الظاهرة؟.

ان اللسان يتلاعب بصوت هذا الحرف على مثال تلاعبه بحبة التمر، أو بشهدة من عسل.ولذلك فمن المرجح أن يكون العربي قد عبّر في المرحلة الزراعية عن طعم العسل بحركة لسانية إيمائية رشيقة ترافقها حركات بدنية أخرى. وبانتقاله إلى المرحلة الرعوية احتفظ بالصوت المناسب لتكرار حركة اللسان بمعرض التعبير عن مذاقات الحلاوة . وأسقط الحركات  الجسدية الأخرى. وهكذا كانت حركة تلاعب اللسان بالمطاعم الحلوة المذاق فيما أرى، أسبق في الزمان من صوت (الراء). على مثال ما كان تلاعب اللسان باللقمة مضغا وبلعاً أسبق في الزمن من صوت اللام كما مرّ معنا.

ومن غرائب هذا الحرف أيضاً أنه يدخل في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على منابع الحرارة الأصليّة ، التي كان العربي يتعامل معها في الطبيعة . منها:

أرّ النار أرّاً، وأرّثها (أوقدها). أسعر النار (أشعلها). السَّقر (حر النار أو الشمس  وأذاه). الأوار والحرور( حرر الشمس أو النار). الجمر. الحرّ. الرمضاء (شدة الحرّ).الشرار. صهر (اذاب بالحرارة). أضرم النار. كهر الحر (اشتد ، ومنها لفظة كهرباء المحدثة). النار. الهاجرة (نصف النهار عند اشتداد الحر) . وأر (اشتد حرّه).وغرت الهاجرة (اشتد حرها). الرَّضفة (الحجر المحمى بالنار أو الشمس). نجر اليوم وِرَمِهَ (اشتد حرّه). ذمر النار (أوقدها).

وهكذا فان الألفاظ التي تدل معانيها على الحرارة مما لا يوجد فيها حرف الراء، معظمها وصف لها، أو من نتائجها . مثال:

اللهب (ما يرتفع من النار كأنه لسان). . سخن (صار حارا). أجّج النار (ألهبها).أشعل النار (أوقدها وألهبها)...

 أما لفظة الشمس، وان كانت هي المصدر الحراري الرئيس في الطبيعة، فإنَّ حَدْسَ إشعاع نورها وتفشي أشعتها قد غلبا في ذهن العربي على حدس حرارتها. ولعلَّ جذر هذه اللفظة يعود إلى يوم كان الإنسان العربي يمارس العمل الزراعي في أوديته الريَّا قبل أن تتحول ربوعه إلى صحاري، وقبل أن يتحول هو إلى راع يكابد من حرِّ الشمس ما يرهقه.فبدأ بحرف الشين (للتفشي والانتشار) كما سوف نرى في دراسته، وهي في بعض الساميات (شمش).

وما علة هذه الظاهرة من حيث استعمال (الراء) لمعاني الحرارة؟.

من المرجح أن العربي قد استخدم لسانه في المرحلة الزراعية للتعبير إيماء وتمثيلاً، عن تأثر لسانه بالأطعمة والأشربة الساخنة بحركة لسانية ترافقها حركات بدنية مغايرة للتي كانت ترافق حركة اللسان بمعرض التعبير عن الحلاوة . فسقطت هذه الحركات المرافقة أيضاً في المرحلة الرعوية وبقي صوت الراء للحلاوة والحرارة:( الحرف العربي والشخصية العربية ص71-76).

ولكن باعتماد العربي في المرحلة الرعوية صدى الأصوات في النفس للتعبير عن معانيه كما أسلفت في المرجع السابق  قد استثمر خاصية التكرار والتمفصل في صوت (الراء) إلى ابعد الحدود، وذلك للتعبير عما يماثله في الطبيعة من صور مرئية تنطوي على التحرك والتكرار والترجيع، مما ينتمي أصلاً إلى حاسة البصر.( المرجع السابق ص 137-142).

وهنا لابد للقارئ  ان يتساءل عن السبب في تصنيف هذا الحرف ذوقياً ، بينما ظاهرة التحرك والترجيع والتكرار (البصرية) هي الغالبة على معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.

لقد تجاوزت هذا المعيار الكمي وصنفته ذوقياً وذلك للاعتبارين التاليين:

1- لأنه حرف لساني، واللسان هو عضو حاسة الذوق.

2- لأنه أبدع أصلاً للتعبير إيماء وتمثيلاً عن المطاعم الحلوة المذاق والحارة الملمس على مثال ما أبدع حرف اللام بالطريقة ذاتها للتعبير عن عمليات مضغ الأطعمة وبلعها . فرأيت ان أصنفه حرفاً ذوقياً مع حرف اللام لتخصصه أصلاً بطعم الحلاوة دون سائر الحروف.

فالفواكه حلوة الطعم التي لاراء في أسمائها ، إما هي مقتبسة من الشعوب الأخرى وإما أن أسماءها مستوحاة من شكلها مثال (تين- عنب- أجاص- خوخ- تفاح- موز- بطيخ). ولا يجرح هذا التصنيف أن يستخدمه العربي في مرحلة رعوية لاحقة للتعبير إيحاء عن التحرك والتأوُّد والتكرار.

وعلى الرغم من ذلك كله ، إذا لم يقتنع القارئ، بهذين الاعتبارين ، فلا اعتراض لي على نقله إلى زمرة الحروف البصرية لخاصية الحركة والتكرار في صوته، حيث أثَّر في معظم معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.

وهكذا إذا أضيفت المصادر التي تدل معانيها على الستر والخفاء، والحلاوة والحرارة موضوع الفقرات السابقة إلى الجداول أعلاه ، فإن نسبة تأثير حرف (الراء) في المصادر التي تنتهي به ترتفع من (62% إلى5،70%) مما يؤهل هذا الحرف إلى الدخول في زمرة الحروف القوية الشخصية.

ولئن كان ثمة ثلاثة عشر مصدراً للأصوات والمشاعر الإنسانية في المصادر التي تبدأ بالراء وأربعة وعشرون في المصادر التي تنتهي به، فإن معانيها كما لحظنا سابقاً تتوافق مع خصائصه الصوتية في الحركة والتكرار مما لا يؤثر فى التزامه الطبقي في حالة اعتباره من الحروف البصرية.

ليصبح حرف الراء بذلك من أقوى الحروف شخصية ، وأشدها التزاماً.

ومما يلفت الانتباه في حرف الراء وما أكثر ما لفت انتباهي ، ان العربي قد كره ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد (لر، رل) . وذلك للتنافر الصميمي في خصائصهما : فالراء للتمفصل،- واللام  للالتصاق. كما مر معنا.

كما لم أعثر في المعجم الوسيط على حرف (الراء) في لفظة ثلاثية تبدأ باللام، ولا على اللام في لفظة تنتهي بالراء.

ولئن كان ثمة كثير من الألفاظ التي تبدأ بحرف الرّاء وتنتهي باللام ، بفاصل من حرف كما في (ربْل، رتل، رطل، رجل، رمل...) فذلك لأنَّ العربي يستسيغ ان يبدأ كلامه بالمتحرك وان ينتهي بالساكن، أما العكس فلا. فالراء بتمفصله وتكراره يمثل الحركة ، واللام بالتصاقه يمثل السكون والاستقرار . ومنه يتضح أن لفظة (بلور) ، من (بلر) ليست عربية ترجيحاً . فالذوق العربي كَرِه على العموم ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد، لا للتعذر وإنما للاستثقال . وذلك على مثال الحال بين حرفي (الباء والميم)، كما سيأتي.

استطراد


لا يبعد ان تكون المرأة بحكم اختصاصها ( المنزلي ) قد اهتدت في المرحلة الزراعية إلى الأصول  الحركية لهذا الحرف للتعبير به إيماء وتمثيلاً عن معاني (الحلاوة والحرارة) مترافقة مع الحركات الأخرى المناسبة، مما يفسح المجال للاعتراض على تصنيفة (إيحائياً).

والرّد على ذلك بأن حرف (الراء) هو بهذا الصدد كبعض الحروف الأخرى التي عبر العربي بها عن معانيه (إيماء وإيحاء) على حد سواء ، مثل أحرف (الباء، والجيم، والشين والطاء) كما سيأتي. ولكنها صُنِّفت جميعاً في زمرة الحروف الإيحائية، لغلبة هذه  الخاصية فيها على (الإيمائية)، ولأنها لم تستوف مقومات شخصيتها (الإيحائية) إلاّ في المرحلة الرعوية. وذلك على العكس من أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال ) التي استوفت مقومات شخصيتها الإيمائية في المرحلة الزراعية ، ثم جاءتها الخصائص الإيحائية لاحقاً. ولا عبرة لكثرة ما أُبدِع من المصادر الجذور التي شاركت الأحرف الإيحائية في تراكيبها، مادامت معاني معظمها قد التزمت بخصائصها الإيمائية.

تعقيب لابد منه:


لقد تبين لي في دراستي (إطلالة على الأعجاز اللغوي في القرآن) أن للراء. وظائف أدبية أخرى قد تعشقها الشعراء الأصلاء فأقبلوا عليها واستثمروا الكثير من خصائصها ووظائفها.  فكان نصيبها من قوافيهم أكثر من أي حرف آخر.

أما القرآن الكريم فقد استنفد خصائص (الراء) ووظائفها جميعاً في (قوافي) آياته ومفرداته وسوره )مما لا نظير له في أدب أو شعر . ومما يدهش حقاً ان يستخدم القرآن خصائصها الحركية للقيام- بالغالبية العظمى من المعارك التي خاضها مع الكفار والمشركين في الكثير من آياته وسوره. لتبلغ (الراء) أوج فروسيتها في المعارك السبع التي خاضتها سورة (القمر) بزعامتها كقافية لآياتها جميعاً البالغة (55) . (الإطلالة ص -153-157).


Previous Post Next Post