التركيب التاريخي
إن النقد التاريخي يزود الباحث بالحقائق التاريخية وهي متفرقة وبصيغة مجردة. لذا يكون من اللازم إعادة ترتيب هذه الحقائق وتنظيمها والربط المنطقي بينها بفرضية تعلل الحدث التاريخي وتوضح مجرياته وتعلل اسبابه وتحدد نتائجه.
لابد للباحث التاريخي من الاستناد على فرضية مبدئية يجمع الحقائق وفقها وينظر في مصادر هذه الحقائق بوحي منها. ثم من بعد هذا فإنه ملزم بالرجوع إلى هذه الفرضية المبدئية بعد جمعه الحقائق والقيام بتحليلها ونقدها فيعيد صياغة الفرضية في ضوء ملاحظاته وما توصل إليه في تحليله ونقده.  وهنا لا بد من الإشارة إلى أن طبيعة البحث التاريخي تتطلب الاختلاف في نوعية الفروض وفي كيفيتها. كما صفات الحدث التاريخي وهويته وكونه حصل في زمن مضى وبأنه حدث لا يتكرر وبأن أسباب الحدث التاريخي متعددة العوامل ومتشابكة الأسباب. كل هذا يجعل الفرضية التاريخية للبحث صعبة التقدير والصياغة. لأنها تتطلب من الباحث القابلية على قراءة المعرفة وامتلاك خيال واسع قادر على التحليل والتعليل. وفي كل الأحوال فإن درجة اليقين والمصداقية التي تتوصل إليها الفروض التاريخية أقل من درجة المصداقية التي تتوصل إليها فروض العلوم المجردة.
يذكر علي عسكر (1992) بإن عملية التركيب التاريخي تتضمن جملة من العمليات المتداخلة والمترابطة ترابطا منطقيا لكي تعطي الباحث التاريخي صورة فكرية جلية لكل حقيقة من الحقائق التي اجتمعت عنده. وفيما يلي شرح لعمليات التركيب التاريخي:
(1) قيام الباحث بتكوين صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق المتجمعة لديه. وللهيكل العام لمجموع البحث. بمعنى تكوين صورة عن الواقع الماضي تحدثها مخيلة الباحث التاريخي من منطلق مشابهة الماضي الانساني لحاضره. إلا أن المعطيات الوثائقية المتنوعة تجعلها أكثر وضوحا وتقود الباحث التاريخي إلى أساس جلي وواضح بجمع الحقائق المتوفرة لديه. أي أن الباحث التاريخي يضيف التاريخية وفق كل جزئية من جزئيات ( الصورة المتخيلة).
(2) تصنيف الحقائق بحسب طبيعتها الداخلية حيث تجمع الحقائق الفكرية مع بعضها وكذلك الحال مع الحقائق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد كان المؤرخون القدامى يصنفون الحقائق وفق ظروف خارجية مثل ظروف المكان والزمان وتاريخ مرحلة زمنية معينة أو تاريخ بلد ما أو تاريخ سيرة لشخصية معينة. وقد أتم  المؤرخون وضع هيكل لتصنيف الحقائق التاريخية جمعت فيه طبيعة الظروف الخارجية وخصائص الحقائق التايخية ومظاهر النشاط والفعالية الإنسانية وقد تضمن هذا الهيكل ما يلي:
أ. الظروف المادية. ب. العادات الفكرية. ج. العادات المادية. د. العادات الاقتصادية. هـ . المؤسسات الاجتماعية. و. المؤسسات العامة.
لابد من الإشارة هنا إلى أن أنواع التصنيف الزمني والجغرافي وفق الخصائص ونوعها  متلازمان تلازما منطقيا لا يمكن استقلا ل أحدهما عن الآخر. إنما هي متداخلة فيما بينها. وعندما يضيف الباحث التاريخي حقائقه يجد أن كل عمل انساني إنما هو ظاهرة فردية مؤطرة بعامل الزمان والمكان ولكن هذا العمل الانساني للفرد يشابه أعمالا آخرى له أو تشابه اعملا لأفراد آخرين ينتمون لنفس البيئة أو ينتمون لبيئة أخرى يمكن تسمية هذه الأعمال المتشابهة باسم (العادات) أو (النظم) وهما حقائق جماعية تمتد في الزمان والمكان.
وقك لا يكتفي الباحث لالتاريخي بالمقارنة بين أحداث زمن وآخر في بيئة واحدة بل يبحث أوجه الشبه والخلاف بين الظاهرات المختلفة في بيئات مختلفة وفي أزمنة مختلفة أو متشابهة. لكي يقف المؤرح في نهاية الأمر على محاور التشابه في بعض الظاهرات على مستوى المجتمعات البشرية كلها مما يدفع المؤرخ إلى وضع (التعميمات) التي تجعل الصياغة  التاريخية أقرب غلى الصياغة العلمية المحددة بالقانون.   
(3) يملك المؤرخ والباحث التاريخي المحاكمة أو ما يدعى بلء الفجوات والثغرات التي يجدها في هيكل التصنيف لأنه لا يتمكن من ملء هذه الثغرات بالملاحظة المباشرة قياسا بالبحاثة في العلوم المجردة ولتحقيق عامل المحاكمة هناك منهجيتان:
أ. المنهجية السلبية
المنهجية السلبية تعني الاعتقاد بأن الحدث التاريخي الناقص حدث لم يقع وحتى تكون المحاكمة سليمة لابد من التأكيد على الا تكون هناك وثائق تشير إلى الحدث الناقص. وعلى أن الحدث التاريخي الناقص لابد من ملاحظته وتدوينه لآهميته. كما أن الاجتهاد السلبي ليس بالإمكان استخدامه إلا في حالتين:
i. إذا كان هدف المؤلف للوثيقة التاريخية التي لم تذكر فيها الحقيقة. هو أن يذكر بدقة وانتظام جميع الوقائع التي هي من نوع الحقيقة والتي كانت على صلة شديدة بها.
ii. أن تكون الحقيقة أو نوعيتها كان لها تأثير كبير في فكر المؤلف للوثيقة حتى اصبحت جزءا من مفهومه الفكريز كأن تفتقد ظاهرة فكرية بارزة لدى مؤرخ عرف بدقته في تقصي الحقائق بكل دقة وعناية. مثال هذا عدم إشارة الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) إلى فرقة دينية ما ظهرت في فترة سابقة لوجوده قد يكون في هذا الدليل على عدم وجودها لأن الشهرستناني كان معروفا عنه في كتابه هو التقصي عن كافة الملل وعن كافة النحل التي ظهرت في زمنه.
ب. المنهجية الأيجابية
تعتمد هذه المنهجية على استنتاج حقيقة لم تشر إليها الوثائق التارخية من حقيقة أثبتتها تلك الوثائق. ويستند الاجتهاد الإيجابي على فرضيتين: الأولى فرضية عامة منبثقة من كليات عامة مستمدة من التجارب الإنسانية. والفرضية الثانية فرضية خاصة مستخلصة من الوثائق التاريخية. والمؤرخ للتاريخ عادة يبدأ بالفرضية الخاصة أي بالحقائق المنبثقة من الوثيقة التاريخية.  مثال هذا مدينة ما تحمل اسما عربيا ولكن الوثائق لا تشير إلى من قاموا ببنائها. فإذا تمكن البحاثة التاريخي من الوقوع على الفرضية العامة القائلة بأن اسم مدينة ما هو غالبا ما يكون مقترنا بلغة الأمة التي أنشأتها فإن بإمكانه عندئذ استنتاج الحقيقة بأن من بنى تلك المدينة هم العرب لأنها تحمل إسما عربيا.
وحتى تكون االنتيجة سليمة وصحيحة وثابتة لابد من شرطين أساسين:
(1) أن تكون الفرضية العامة صحيحة. أي أن يكون الارتباط شديد الوثاق. بين الوافعتين التاريخيتين. فإذا تحقق هذا الشرط يكون قد توفر للبحث التاريخي (قانون). ولكن بما أن معالجة الوقائع الإنسانية لا يمكن أن تحصل بقوانين فرضية مستخلصة من تعميمات ناقصة. تكون هذه القوانين الفرضية قوانين قريبة من الحقيقة بالنسبة إلى مجموعة محددة من الوقائع التاريخية. ولكنها ليست حقائق صحيحة بالمطلق. ففرضية ارتباط اسم المدينة بالشعب المؤسس لها التي ذكرت سابقا ليست صحيحة على الدوام ومن ثم لابد من توفر شروط أخرى لكي تكون الحقيقة سليمة تماما.
(2) أن تكون لدى البحاثة التأريخي معرفة تفصيلية عن الحقيقة الخاصة. ففي مثال المدينة السابق ذكره يجب على الباحث قبل أن يصدر الحكم حول من أسس المدينة أن يدرس الظروف المختلفة المحيطة بالمدينة مثل موقعها وعادات شعبها وتطورها التاريخي. بعبارة أخرى يجب على الباحث الاعتماد على مجموعة من الظواهر والتفصيلات ذات العلاقة لا أن يعتمد على ظاهرة واحدة. خاصة أن الفرضات العامة مستنتجة في الغالب من معلومات الإنسان عن الحياة الاجتماعية وهذا النوع من المعلومات الإنسانية يحتمل عنصر الشك.
ولابد في هذا المجال من التأكيد على أمرين: أولا ضرورة التروي في استنتاج الاجتهاد التاريخي وعدم الاعتماد على تعميمات ضعيفة الأدلة فقيرة البراهين. خاصة بأن الاجتهاد التاريخي لا يقود إلى نتائج وحقائق قاطعة وإنما يقود إلى نتائج تقريبية. ثانيا لايجوز الخلط بين الحقائق المطلقة التي تم التوصل إليها من الوثائق التاريخية وبين الوقائع التي تم استنتاجها من خلال الاجتهاد. وفي هذه الحالة على المؤرخ أن يذكر بصراحة أن ما توصل إليه إنما هو اسنتاجه الذاتي وعليه أيضا أن يبين رأيه في مصداقية ذلك الاستنتاج.       
(4) ربط الحقائق التاريخية: (التعليل)
ربط الحقائق التاريخية بعضها ببعض هي أساس العملية التركيبية وهي نتائجا النهائية. ويقود مبحث الربط بين الحقائق التاريخية إلى عنصر مهم من عناصر منهج البحث التاريخي وهو عنصر (التعليل) والذي يعني استقصاء الأسباب والعلل. فالتعليل والتسبيب يشكل الخطوة الأخيرة في منهج البحث التاريخي. فالتعليل يقود إلى استنتاج القوانين التي تكشف النسيج الذي يشكل ماضي الأنسان في دوافعه وروابطه. إذ أن سرد الاحداث التاريخية وفق التسلسل الزمني أو وفق التصنيف النوعي مهما كانت موضوعيته ليس إلا تقويم زمن تسلسلي (Cronology) لا يتمكن من تفسير واقع الانسان وفعالياته المختلفة. فلابد من اعتماد الروابط المنطقية ضمن تلك الاحداث. والتساؤل عن اسباب ازدهار الحضارات البشرية ثم اندثارها. فالسببية والتعليل هو العنصر الأساس المعتمد في تقرير درجة العلمية التاريخية.
إن اهتمام المؤرخين بسببية الأحداث مرجعه إيمانهم بأن التاريخ ليس مجرد أحداث  ولكنه يستند كبقية العلوم الآخرى إلى فرضية مسبقة هي أن هناك قوانين تسير نظام الأحداث على الشكل الذي تجري فيه. فعنصر الزمان والمكان والفردية ليست وحدات مستقلة مشتقة بعضها من بعض. كما أن الواقعة التاريخية ليست واقعة فردية. فكل شيء في هذا الكون يتم وفق مخطط منطقي عام تحصل الحداث بموجبه. إذ ليس هماك صدفة في التاريخ وليست هناك علل مبدئية لحوادثه وهذه العلل الأولية ليست إلا أسبابا ظاهرية.
ولعل قيمة السببية والتعليل في المنهجية التاريخية تستمد قيمتها أيضا من مشكلة (الاحتمال والصدفة). فهناك كثير من الأمور التي هي خارج حدود الانسان وإرادته. ومن هنا كان التعليل التاريخي ليس محاولة للكشف عن (السبب) ولكنه محاولة للكشف عن تلك المجموعة المركبة من الأسباب والعوامل الكامنة في كل حدث تاريخي. وهكذا فإن المشكلات الكبيرة التي تحيط بمفهوم السببية التاريخية دعت الكثير من المؤرخين تجنب مصطلح (السبب) ولكن مع هذا لابد من التعليل التاريخي لأن المقصود من السببية التاريخية هي تفسير الحدث التاريخي.
يصنف Walsh  (1985)  مفهوم التعليل التاريخي إلى مفهومين: المفهوم الأول هو البحث عن المعنى في التاريخ وذلك عندما يبحث المؤرخ في معنى (حادث) أو في معنى (مجموعة أحداث) في بيئة معينة مثل تساؤل المؤرخ العربي عن أسباب الفتوحات الإسلامية الأولى. فالبحث هنا يجري في مجموعة من الأحداث المحددة في الزمن وإلى حد ما في المكان وهذا هو عمل المؤرخ كما يراه Walsh)) وهنا يمكن للمؤرخ أن يحقق مبتغاه بالوسائل التالية:
أ.   أخذ ما ذكر في ألأصول التاريخية نفسها عن مثل تلك الأسباب.
ب. قيام المؤرخ بتحليل كل عنصر موجود في الحدث التاريخي على حدة.
ج. وضع بعض الفروض التي يتصورها المؤرخ من ظواهر الحقائق  ومحولته إثبات أو نفي هذه الفروض وفق ما يملك المؤرخ من حقائق.
إن تحليل عناصر العلاقات في الحدث التاريخي لاستخلاص أسبابه يستدعي من الباحث استخدام منهجية المقارنة آخذا بنظر الاعتبار ما يلي:
أ.   إن دراسة تاريخ الإنسان دراسة معقدة بسبب تعقيد الانسان ذاته.
ب. إن الاحداث التاريخية تخضع إلى مجموعة عديدة ومختلفة من الاسباب.
ج. إن الاحداث التاريخية مؤطرة بعامل الزمان والمكان.
 وأما الناحية الثانية في دراسة التعليل التاريخي هي البحث في معنى التاريخ ككل. إذ يؤمن (Walsh) بأن دراسة معنى التاريخ ليس من صميم عمل المؤرخ لأن التساؤل عن معنى التاريخ ككل هو سؤال فوق التاريخ. فالتاريخ بمعناه الحقيقي –لديه- هو انصباب جداول عديدة من الآمم والعادات والحكومات والصناعات والأفكار والإرادات في تيار واحد.
إن المذاهب الفلسفية المعاصرة في تفسير فلسفة التاريخ عديدة وأهم هذه المدارس الفلسفية ما يلي.
أ.   مذهب البيوغرافي (التراجم) الذي يرى في التاريخ دراسة لسيرة الأشخاص.
ب. المذهب العلمي الذي يرى في التاريخ دراسة لتطور الانسان من الناحية العلمية التقنية.
ج. المذهب الاقتصادي الذي يرى التاريخ كفاح إنساني ضد الاستغلال الطبقي.
د. المذهب الجغرافي الذي يرتبط بالمذهب الاقتصادي فيرى أعمال البشر مسيرة بالجوع المادي والموقع الجغرافي.
هـ . المذهب الاجتماعي الذي يرى بأن أصل المجتمع البشري وبنيته ونشاطاته المتعددة إنما هي نتيجة الأسباب الطبيعية والحيوية العاملة جميعا في موكب تطوري
واحد.
و. المذهب المثالي الذي يرى بأن تقدم الفكر البشري هو تاريخ الجنس البشري.
ز. المذهب التركيبي الشامل الذي يرى بأن الاسهمات التي تقدمها المذاهب الفلسفية في تفسير التاريخ ليست لها قيمة ما لم تنصهر في نظرة عالمية للتاريخ.
Previous Post Next Post