نظام الأمن الجماعي، طبقاً لأدبيات العلاقات الدولية

لا شك أن السلام والأمن الدوليين هما مطلبان أساسيان لجميع الوحدات السياسية في العالم والتي نشأت معالمها المعاصرة نتيجة لمعاهدة ويستفاليا (Westphalia) في عام 1648م. فمنذ ذلك الوقت وحتى بداية الحرب العالمية الأولى كانت الآلية العسكرية المنظمة للنظام الدولي، هو ما يعرف بنظام  "توازن القوى" (BALANCE OF POWER) الذي تطورت مفاهيمه بشكل واسع منذ أن ظهرت استخداماته الأولى في القرن السابع عشر في أوروبا.
         تكاد تجمع الأدبيات التي تناولت مفهوم توازن القوى على أنه الأداة أو الآلية (ميكانيزم) التي تستطيع الدول من خلاله أن تنظم صراعات القوة فيما بينها بحيث تضمن استمرار النظام الدولي القائم على مبدأ التعددية  (MULTI-STATE SYTSTEM) وبالتالي حماية استقلالها من خلال الحيلولة دون ابتلاع كيانها القومي من جانب قوى دولية متفوقة عليها. إلا أن هذا المفهوم سرعان ما ثبت فشله في حماية السلام والأمن الدوليين مع أولى الشرارات التي انطلقت مؤذنة باندلاع الحرب العالمية الأولى.
         ولقد تميزت الممارسة السياسية الدولية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين بالتساهل والمرونة وعدم الوضوح بالنسبة لشكل النظام الدولي المطلوب. والذي كان مرده في الغالب إلى الحذر الشديد بين مختلف المحاور السياسية والعسكرية، الأمر الذي لم يبرز فيه نظام دولي يعتمد عليه في الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين، بالرغم من تأسيس عصبة الأمم كمنظمة دولية من مهامها الأساسية الحفاظ على الأمن والسلام في العالم. إلا أن ذلك النظام كان نظاماً هلامياً لم يستمر طويلاً لذلك فلا غرو أن نجده ينهار بعد سنوات معدودة من تأسيسه، مفرزاً متغيرات كبرى تمخضت عنها أحداث جوهرية كبرى لعل من أهمها قيام الحرب العالمية الثانية.[1]
         إضافة إلى ما سبق فقد كان من أهم نتائج النظام الدولي القائم وقتئذ تعزيز دور الأيديولوجية في السياسة الدولية، بالإضافة إلى بروز لاعبين جدد في السياسة الدولية.  ولذلك فقد اعتبرت تلك الحقبة بمثابة مرحلة انتقالية بين نظامين متباينين في التنافس الاستراتيجي، سرعان ما انتهت بحلول نظام الأمن الجماعي (Collective Security) الذي ظل يحكم العلاقات الدولية لفترة طويلة من الزمان.
         يهدف نظام الأمن الجماعي، طبقاً لأدبيات العلاقات الدولية، إلى الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي أو الإخلال بتركيبته التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية، أو تبديل هذه التركيبة في الاتجاه الذي يحقق مصلحة دولة أو مجموعة من الدول على حساب دول أخرى.  ولذلك فإن آلية المحافظة على الأمن والسلام الدوليين في هذا النظام كان يتم من خلال اتخاذ إجراءات وتدابير دولية جماعية كقوة ضاغطة ورادعة ضد محاولات دولة أو مجموعة من الدول لتغيير شكل النظام الدولي القائم.[2]
         لقد كانت الاستراتيجية التي يقوم عليها مفهوم نظام الأمن الجماعي مبنية على فرضية أن القوى الرادعة للعدوان في المنتظم الدولي لابد لها أن تكون متفوقة عسكرياً حتى تستطيع القيام بردع العدوان أياً كان مصدره، وأياً كانت القوى التي يتحرك في إطارها، حتى في ظل وجود التناقضات الأيديولوجية والاختلافات العرقية، أو التباينات في التوجهات السياسية والتباعد الجغرافي بين القوى المتحالفة الرادعة للعدوان،ولقد أثبت هذا النظام نجاحه من خلال انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور. إلا أن ما تبع تلك الحقبة من انقسام في النظام الدولي إلى معسكرين متصارعين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق واشتعال الحرب الباردة بين الكتلتين، أدى إلى إصابة نظام الأمن الجماعي بما يشبه الشلل وأوجد ثغرات أمكن لكثير من الدول المعتدية الدخول من خلالها لتحقيق بعض أهدافها العدوانية.[3]
         إن مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وإن كانت مرحلة قصيرة، إلا أنها عززت نظام الأمن الجماعي وجعلت العدوان مهما كانت مصادره يواجه بالقوة الجماعية للمجتمع الدولي، الأمر الذي فرض على الدول التي كانت لديها نوايا عدوانية إعادة النظر في حساباتها حول استخدام القوة والعنف في علاقاتها الدولية.  هذا ما يفسر التوجه الجديد في النظام الدولي والذي واكبته مجموعة من المتغيرات لعل من أهمها انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحول النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية تقف على قمة الهرم فيه الولايات المتحدة الأمريكية.
         لقد أثبتت ردة الفعل الدولية تجاه الكثير من الأحداث والمستجدات التي مرت على العالم خلال فترة الثمانينيات ، وما بعدها تصميم دول العالم  على ترجمة مفهوم "الأمن الجماعي" إلى علاقة عمل ناجحة ودائمة يتم من خلالها التحرك جماعياً ضد أي خطر يهدد الأمن والسلام الدوليين.  آخذاً بالاعتبار مجموعة المتغيرات الأمنية والمصالح الذاتية للدول والتي غالباً ما تكون في مقدمة العوامل التي تفرض على الدول تدعيم مفهوم الأمن الجماعي، بل والمشاركة في ردع العدوان. ولقد تأكد ذلك جلياً من خلال مساهمة دول العالم في التصدي للعدوان العراقي على دولة الكويت، والذي عبرت عنه تلك الدول بصور مختلفة. وسوف تتمحور دراستنا هذه حول تفسير موقف دول العالم وردة فعلها تجاه هذا العدوان.

[1]  حول نظام توازن القوى أنظر:
Hans J. Morgenthou. Politics Among Nations: The Struggle for  Power and Peace. (New York: Alfred A. Knopf, 1978).   Robert Gilpin.  War & Change in World Politics. (Cambridge University Press, 1981).  Ole R. Holsti (ed.) Change in the International System. (Boulder, Colorado: Westview Press, 1980).
 إبراهيم أبو خزام. الحرب وتوازن القوى: دراسة شاملة لنظرية توازن القوى وعلاقتها الجدلية بالحرب والسـلم. (الأهلية للنشر: عمان، الأردن، 1999)  .
[2] إسماعيل صبري مقلد. العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات (جامعة الكويت، 1971):185
[3] المرجع السابق ص. 187-193
Previous Post Next Post