إطلاقــات المكـــــروه :
عندما تأتي في أحكام الشرع واستعمالات الشرع في القرآن والسنة أو في استعمالات السلف لفظ المكروه نجد أنها تختلف هذه الاستعمالات عن الذي نبحثه هنا في أصول الفقه وقد تكون على معان أخرى قد تكون أوسع أو ربما تكون أضيق ، فمثلا من إطلاقات لفظ المكروه:
õ أنه يطلق لفظ المكروه ويراد به الحرام أو كما يعبر عنه بالمحظور روى هذا الإطلاق عن الإمام مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله . وهذا غالب في عبارات السلف ، ولماذا كان غالب في عبارات السلف لأنهم كانوا يتورعون ويتحرزون أن يقعوا في طائلة النهي في قوله تعالى +ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام" وأيضا قوله تعالى +ولا تقف ما ليس لك به علم" وخشية منهم أن يقولوا على الله بشي بناء على عدم العلم أو بناء على التردد أو بناء على وجود احتمال عندهم على الحكم فإنهم يقولون بأن هذا مكروه ويقصدون بذلك الحرام . لم يقولوا بأنه حرام . لماذا لأن التعبير بلفظ حرام كان فيه جزم بأن هذا الأمر قد جزم من الله تعالى فتورع عن إطلاق لفظ حرام مباشرة في الفتوى فيلجئون إلى التعبير بلفظ مكروه ليقيهم عن التعبير بلفظ حرام وهذا يعني أننا عندما نقرأ مؤلفات العلماء وفتاوى السلف ينبغي أن نتبين ونركز و لفظ الكراهة والمكروه لأنهم قد يعنون به حرام ، وابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين بين هذا وقال أن هذا كان من أسباب خطأ كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم وأطلقوا لفظ الكراهة . فأتى المتأخرون من أتباع المذهب ونفوا التحريم وقالوا الإمام لا يقول بتحريم . فنفوا التحريم الذي أطلقوا عليه الأئمة الكراهة ، بينما كان مراد الأئمة حقيقة في التحريم وليس الكراهة ، فمثلا الإمام أحمد نقل عنه أنه يقول أكره المتعة والصلاة في المقابر وهما في الحقيقة يحرمان ، وعبر بلفظ أكره يعني من باب التورع في الفتوى . ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال أكره اشتراط الأعجف والأعجف هو الضعيف . قال أكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ لأن الأعجف يعيب واشتراط العيب مفسد فأطلق هذه العبارة ويقصد بها التحريم وليس الكراهة . فينبغي في الحقيقة الوقوف عند كلام العلماء والتأني فيه وعدم الأخذ بالعبارات على إطلاقها لأن العلماء والسلف يطلقون اللفظ ويقصدون به مقصد معين .
õ من أيضاً إطلاقات المكروه في الشرع أنه يطلق على ما نهي عنه نهيا تنـزيهيا وهو المراد هنا والمقصود في النهي التنزيهي والكراهة التنزيهية ما جاء به نهي غير جازم وهو المقصود هنا فيطلق هنا على هذا الأمر وهو الذي نبحثه هنا أو المقصود عند علماء أصول الفقه عندما يطلقون لفظ المكروه. إذا أردنا لفظ المكروه عند الأصوليون انصرف إلى هذا المعنى وهي الكراهة التنزيهية أو الذي نهى عنه الشرع نهيا غير جازم وهو الذي نحن بصدده في أحكام الحكم التكليفي لأن حقيقتا كل قسم من أقسام الحكم التكليفي قد خص باسم قد غلب عليه كالواجب والمندوب والمباح والحرام فيقتضي هذا اختصاص المكروه أيضاً باسم غالب عليه كغيره من الأحكام وهذا الاسم هو لفظ المكروه .
õ من إطلاقات لفظ المكروه في الشرع أيضاً يطلق المكروه ويراد به ما وقعت الشبهة في تحريمه ، وإن غالب الظن حله . فإذا وقعت شبهه في تحريمه فإنه يقال بعضه ويطلق عليه مكروه مع أن الغالب أنه حلال ، لكن البعض يطلق عليه مكروه مع أنه حلال إشارة لأن هناك شبهة في تحريمها . مثل أكل السبع وشرب يسير النبيذ فمثل هذه حصل شبهة في تحريمها . طبعا أكل لحم السبع بناء على الذين قالوا بهذا القائلين تحريمهما جاء بخبر أحاد وخبر الآحاد يفيد الظن . فقالوا أن هناك شبهه في تحريم أكل لحم السبع وأيضا هناك من يقول بيسير النبيذ وأنه قيل بتحريمه قياس على الخبر الوارد بشأنه النص وأيضا تحريمه في شبه ولذلك قالوا بأنه مكروه .
وقصدهم بذلك وقعت شبهه في تحريمه ...
õ الإطلاق الرابع للمكروه هنا أنه يطلق في الشرع (يطلق المكروه ويراد به ترك ما مصلحته راجحة ) كترك المندوبات فالمندوبات مصالحها راجحة على تركها أو فعلها بغير مصلحه راجحة على تركها . فيطلق بعض العلماء على ترك المندوب مكروه مثل ترك صلاة الضحى . قال بعضهم ما حكم ترك صلاة الضحى يقول بعضهم مكروه . وهذا الإطلاق ما عبر عنه بعضهم بخلاف الأولى كما سيأتي الكلام عنه بأذن الله تعالى.
ختاما في إطلاقات المكروه ينبغي أن أنبه إلى أن اصطلاح الحنفية قد اختلف عن اصطلاح الجمهور في إطلاق لفظ مكروه .
فالجمهور إذا أطلق لفظ مكروه عندهم ينصرف إلي المكروه كراهة تنزيهية كما ذكرنا قبل ذلك . والمقصود بالكراهية التنزيهية عندهم يعني ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم . لأنهم لا يسمون بهذا الاسم غير هذا الأمر . وإن كانوا لا يخالفونا في إطلاقه أو جواز إطلاقه على الحرام كما قلنا إن بعض السلف كان يطلقه علي الحرام . لكن إذا أطلق عند الجمهور يقصدون به ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم .
أما الحنفية فإذا أطلقوا لفظ المكروه فيقصدون انه ينصرف إلي المكروه كراهة تحريمية. ويخصون المكروه الذي يبحثه الجمهور هنا المكروه تنزيلا. والمقصود بالمكروه تحريما عند الحنفية هو ما طلب الشارع تركه طلب جازما .لكن بدليل ظني وسيأتي الكلام علي أن هذا نوع من أنواع الحرام عند الحنفية كما سيأتي الكلام عن أقسام الحرام .وإذا أرادوا أن يتكلموا عن المكروه الذي هو ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم . فإنهم يعبرون عنه بلفظ المكروه تنزيلا .
فإذن عندنا الجمهور اصطلاحهم في المكروه يختلف عن اصطلاح الحنفية . فالجمهور إذا عبروا بلفظ المكروه يقصدون بذلك ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم . الحنفية إذا عبروا بلفظ المكروه فيقصدون بذلك ما طلب الشارع تركه طلبا جازما . ويقصدون بذلك المكروه كراهة تحريمية . أما إذا أرادوا أن يتكلمون عن المكروه الذي يتكلم عنه الجمهور فإنهم يسمونه مكروه تنزيها وهو ما طلب تركه الشارع طلبا غير جازما . هذا يسمونه مكروها تنزيها يخصونه بهذا الاسم . فإذا أطلقنا لفظ مكروه عند الجمهور يقصدون به المكروه كراهة تنزيهيه الذي طلب الشارع تركه طلبا غير جازم . وإذا أطلق لفظ المكروه عند الحنفية في أصول الفقه ما يقصدون به ما طلب الشارع تركه طلبا جازما . بدليل ظني ، ويخصونه باسم خاص وهو المكروه تحريما كما سيأتي الكلام عنه بعد ذلك .
أما إذا أراد أن يعبروا عن المكروه الذي تكلم عنه الجمهور فيسمونه مكروه تنزيها .
والمصطلح الذي عرفناه بأنه ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم في هذا تنبيه في هذا المقام ينبغي الانتباه له . ومحل البحث هنا في القسم الرابع في المكروه والمقصود به المكروه عند الجمهور والمقصود المكروه تنزيها عند الحنفية بمعنى ما طلب الشارع تركه طلبا غير جازم يسميه الجمهور مكروه للإطلاق ويسميه الحنفية مكره تنزيها بالتقييد.
ç هناك مسألة أخيره في هذه الحلقة الكلام على حكم المكروه أو حكم المكروه إطلاقا عند الجمهور والمكروه تنزيها عند الحنفية.
ونقول في حكمه أنه لما كانت صيغة النهى في المكروه عند الجمهور أو المكروه تنزيها عن الحنفية صيغه غير جازمة. فإن حكمه لابد أن يكون أخف من حكم النهي إذا كانت صيغته جازمة. وهو ما يسمى بالحرام . ولذلك قال العلماء في حكم المكروه وهو مكروه تنزيهيا.
عند الحنفية : قالوا بحكمه أولا : يثاب المكلف إذا تركه بقصد الامتثال . ثانيا : إذا فعل المكلف لا يعاقب على فعله كما يعاقب على فعل المحرم أو المكروه تحريما عند الحنفية . وإنما يكون فيه لوثه . ولهذا يسمى مخالفا ومسيئا وغير ممتثل . ولكن لا نقول أنه مستحق للعقاب . بخلاف المحرم أو المكروه المحرم . وكما يرى بعض العلماء تخصيص الإساءة لفاعل الحرام والمكروه تحريميا .
إلا أن شيوع استعمال الفقهاء كلمة إساءة على المكروه تنزيها أيضاً جعلتنا نثبت الإساءة هنا بحكم المكروه . ونقول إن الإساءة تختلف شدة وضعفا . فهي في ارتكاب المكروه عند الجمهور أو المكروه تنزيها عن الحنفية أخف منها في ارتكاب المحرم أو المكروه تحريما .
ولا خلاف في درجات الإساءة. هذا كله إذا كان الحكم السابق تارك للمكروه يستحق الثواب إذا تركه بقصد الامتثال وفاعله لا يستحق العقاب . وإنما نسميه مسيئاً أو مخالفاً أو غير ممتثل فلا يستحق العقاب .
هذا كله إذا كان ارتكاب المكروه غير ناشئ عن الاستصغار والاحتقار للحكم الشرعي . أما من ارتكب مكروهاً مع الاستخفاف والاحتقار في الأحكام الشرعية . فإن هذا ينقلب فعله إلى أن يكون حراما ويأثم على هذا ويستحق العقاب على هذا . كما لو ترك الإنسان مندوبا من المندوبات مع الاستخفاف بحكمه . فإذا ترك الإنسان المندوب مع الاستخفاف به فإن هذا ينقلب فعله إلى كبيرة من الكبائر.
الشاطبي رحمه الله أضاف إلى حكم المندوب إن الفعل إذا كان مكروه بالجزء فإنه يكون ممنوع بالكل . مثل له بلعب الشطرنج والنرد بغير مقامرة. فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة فلم تقدح في العدالة فإن داوم عليها قدحت في عدالته . فتكون مكروهه بالجزء ممنوعة بالكل .
هذا ما يتعلق بحكم المكروه وهو أخف درجه من حكم المحرم .ولكن لا نهون من حكم المكروه كما ذكرنا سابقا في حكم ترك المندوب . وكذلك في حكم المكروه نقول أن تاركه يستحق الثواب إذا تركه امتثالا , وتاركه لا يستحق العقاب من حيث الأصل . مثلا لو أن إنسان فعل مكروه يقصد الاستحقار الاستخفاف بحكم الشرع والتهاون بها فأنه قد يلحقه ذنب وعقاب وأثم على هذا . فينبغي على الإنسان أن يحذر من الإسراف في ارتكاب المكروهات والاستحقار بأحكام الشرع لأن هذا قد يلحق به ذنب وقد يلحق به قدح وقد يوصف الشخص بالإساءة . هذا ما يتعلق بحكم المكروه وبه أيضاً نختم على مسائل المكروه . ولا يزال الحديث موصول في الحلقة القادمة ...