سبل معرفة الغير
من بين السبل المقترحة لمعرفة الغير هناك "الاستدلال بالمماثلة". ويرتكز استدلال المماثلة على التعبيرات الجسدية الخارجية التي تقوم كوسيط بيني وبين معرفة الحالات الشعورية للغير؛ باعتبار أنني أقوم بنفس التعبيرات الجسدية التي يقوم بها الغير حينما أحس ببعض المشاعر، فأستنتج أن الغير هو أيضا يحس بها حينما يقوم بتعبيرات جسدية مماثلة لتلك التي أقوم بها.
غير أن استدلال المماثلة يطرح كثيرا من الصعوبات، من بينها أن الغير قد يتستر عن مشاعره فيبدي من التعبيرات الجسدية عكس ما يبطنه من حالات وجدانية، كما أنه قد يسيء التعبير عنها، فضلا على أن بأعماق الذات مناطق لاشعورية لا يملك الشخص نفسه معرفة حقيقية بها، فكيف له إذن أن يعبر عنها للآخر بواسطة الإيحاءات الجسدية الخارجية؟!
أمام هذه الصعوبات التي يطرحها استدلال المماثلة، كأحد السبل المقترحة لمعرفة الغير، يقترح ماكس شيلر المعرفة الحدسية المباشرة التي تدرك الغير في كليته.
فمعرفة الغير تتم من خلال الإدراك الكلي الذي يجمع بين إدراك المظاهر الجسمية الخارجية وإدراك الحالات النفسية والفكرية الداخلية.هكذا فمعرفة الغير لا تتم من خلال تقسيمه إلى ظاهر وباطن، إلى جسم وروح؛ بحيث أن الأول يدرك خارجيا، والثانية تدرك داخليا، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير كلا لا يقبل القسمة، ومعرفته لا تتم إلا بوصفه كذلك.
من هنا يرى شيلر أنه لا يمكن تجزيء ظاهرة التعبير لدى الإنسان إلى وحدات صغرى لإعادة تركيبها لاحقا، بل يجب إدراكها كوحدة غير قابلة للقسمة إلى أجزاء. فمعرفة الغير لا تتم من خلال الملاحظة والاستقراء العلميين، لأن نمط معرفة الغير كأنا آخر غير مماثلة لنمط المعرفة المتعلقة بالظواهر الطبيعية، بل إنها معرفة تتم من خلال التعاطف معه، والنفوذ إلى أعماقه من خلال الترابط الموجود بين تعبيراته الجسدية ومشاعره الباطنية؛ فحقيقة الغير تبدو مجسدة فيه كما يبدو ويتجلى للأنا، حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر؛ الباطن يتجلى عبر الظاهر ولا انفصال بينهما.
غير أن العلاقة مع الغير لا ترتد إلى مجرد علاقة معرفية، بل هي أيضا علاقة سيكولوجية وأخلاقية. فعلى ماذا ينبغي أن تتأسس هذه العلاقة؟
Post a Comment