نشوء الفكرة القومية

فهناك مجموعتان من الآراء حول نشوء الفكرة القومية  :
الأولى يعتبر أصحابها أن الشعور القومي ظاهرة طبيعية ملازمة للإنسان منذ أن وجد المجتمع البشري وأن بعض سمات القومية قديمة قدم الإنسانية نفسها ، فيذهب كون مثلاً إلى أن  التاريخ على مر العصور شهد بذور الشعور القومي في التمسك العميق من جانب الناس بأرضهم وتقاليدهم والسلطة القائمة في إقليمهم ، ويذهب آرنست باركر في إلى القول بوجود أمم في أوروبا قبل بداية التاريخ المكتوب ( ).
أما أصحاب المجموعة الثانية من الآراء فيذهبون إلى أن القومية ظاهرة حديثة نسبياً لم تعرفها المجتمعات البشرية القديمة فيقول برنارد رسل مثلاً أن معظم الناس في العصر الحديث يقبلون القومية على أنها طبيعية ولا يدركون إلى أي حد هي جديدة ، ولعلها بدأت أول ما بدأت بجان دارك (في حرب المائة عام ) ثم تلاشت في فترة الحروب الدينية وولدت من جديد في عهد الثورة الفرنسية ، وينكر هذا الفريق أن الرومان مثلا كانوا يعرفون القومية أو أن الإغريق كانوا أمة واحدة ( )، ويختلف أصحاب هذا الرأي في ما بينهم حول البدايات الحقيقية للقومية في أوروبا ، فمنهم من يرى أن المشاعر التي ظهرت في أواخر القرون الوسطى في الممالك التي توحدت في أوروبا أو كانت في طريقها إلى الوحدة  داخل حدود إستراتيجية معينة تضم أقواماً تسود بينهم لغة رئيسية واحدة هي البداية الحقيقية لظاهرة القومية .
ومنهم من يذهب إلى أن القومية بدأت تظهر قبل ذلك ، فيذهب أوجست تيري إلى القول أن الروح القومية الفرنسية كانت قد استيقظت فعلا في القرن التاسع الميلادي ، ويعزو لونجتون بداية اليقظة إلى أوائل القرن الثاني عشر ويؤكد رانكه أنها بدأت بعد ذلك بقرن كامل ،أي في القرن الثالث عشر . بينما يؤكد جيزو وميشليه وكثيرون غيرهم أهمية حرب المائة عام في القرنين الربع عشر والخامس عشر ( ).
وربما نجد انه من الصعوبة القول بأن أحد الآراء السابقة أقرب إلى الموضوعية من الآخر فكلاهما يحددان بداية القومية وفق مفهوم مختلف عن الآخر لفكرة القومية نفسها ، فإذا ما قلنا باستحالة قيام الدولة الفرعونية أو البابلية أو الكنعانية على أسس قومية فكيف نفسر أذن الروح الجماعية التي كانت تقود هذه الأقوام للدفاع عن أرضها وسيادتها ضد الغزاة من الأقوام الأخرى وكيف نفسر الصراعات القديمة بين الإمبراطوريات المختلفة وما الدافع الذي كان يقودها في تلك الصراعات ، ألا أننا وبنفس الوقت لا نستطيع القول أن تلك الأقوام كانت تمتلك رؤيا سياسية متكاملة حول مفهوم القومية .
ومن هنا نرى أن فكرة القومية هي فكرة قديمة حديثة إذ أن الحضارات القديمة قد امتلكت شعوريا قومياً - ربما بمفهوم تلك الحقبة الزمنية - وهذا المفهوم اتخذ صور متعددة مثل الولاء للحاكم ، أو التعلق بالأرض ، أو الشعور الجماعي بالسمو على الأقوام الأخرى ، أو الاعتقاد بديانة واحدة ، أو مذهب معين ضمن هذه الديانة .
ويمكن اعتبار ما سبق هو بداية تبلور مفهوم للقومية أو بعبارة أدق (قومية مبتدئة)،
وبما أن التطور التاريخي للعالم قد شمل كل مظاهر الحياة فليس من المغالاة الفكرية أن نقول أن مفهوم القومية قد واكب التطور التاريخي حتى وصل إلى صورته الحالية ، حيث أننا نستطيع القول أن كل ما أضافه مفكري القومية الحديثة هو بلورة مفاهيم موجودة ومطبقة فعلا وتحويلها إلى أفكار نظرية مطالبين بتطبيقها على الواقع ،فباعتقادنا الشخصي جداً فأنهم لم يأتوا بجديد .
فلو تناولنا أي دراسة قومية حديثة لوجدنا أنها تدعو إلى فكرة قديمة كمثال يجب الإقتداء به أو محاكاة فكرة لأقوام أخرى ،وعلى سبيل المثال ،كان ميكافيللي يستوحي أفكاره في الدعوة إلى الوحدة الإيطالية من التاريخ العظيم للإمبراطورية الرومانية وأمجاد روما ، بينما استوحى الفرنسيون أفكارهم القومية من مملكة الغال القديمة وأمجاد شارل مارتل ، واستوحى الألمان و الإنجليز أفكارهم من ممالك  القبائل الجرمانية القديمة ،وركز القوميون العرب في أفكارهم على التاريخ المجيد للعنصر للعربي ابتداء بالوحدة العربية الأولى في معركة ذي قار، واستكمالاً في بناء الإمبراطورية العربية العظيمة من الصين شرقاً حتى فرنسا غرباً ، بينما ركزت الحركة الصهيونية الحديثة في دعوتها إلى وطن قومي،على أمجاد دولة اليهود القديمة وأمجاد الملوك داود وسليمان ،وهناك أيضا الدولة الإيرانية التي قامت على الأمجاد الفارسية القديمة وحاولت أحياء صراعها القديم مع الإمبراطورية العربية في حربها مع العراق ،وأيضا الدولة التركية الحديثة التي تستمد بعدها القومي من أمجاد آل عثمان ومحاولتها إعادة استعمار الدول العربية ، ونرى أيضا أن بعض القوميات الحديثة التشكيل فعلا ،قد اضطرت إلى محاكاة القوميات الأخرى كنموذج لوحدتها القومية وذلك لافتقادها  البعد القومي التاريخي وأكبر مثال على ذلك القومية الأمريكية الحديثة التي تبنت الأفكار القومية للثورة الفرنسية كأساس لانطلاقها .
وهذه الأمور يمكن اعتبارها مدخلاً للفصل الثاني من هذا البحث والذي يتناول أثر البعد القومي في تشكيل العلاقات الدولية عبر التاريخ .
وبناءاً على ما سبق لا يستطيع أحد إنكار قِدم مفهوم القومية بغض النظر عن مفهومه في تلك الحقب من الزمن ، ولكن تبلور بعض المفاهيم الحديثة كمبدأ السيادة والكيان السياسي ومفهوم المواطنة ، ومفهوم سيادة الشعب ،قد ساهم بفرض مفاهيم حديثة للقومية أي بمعنى القيام بعملية تحديث لهذا المفهوم وللسلوكيات الدولية الناتجة عنه لتوائم متطلبات التقسيمات الدولية الحديثة ،حيث ظهرت فكرة الدولة التي تعتمد أساسا على وجود مجموعة من الأفراد يعيشون على أرض معينة وتحت سلطة معينة تحكمها مجموعة من  المبادئ كالحرية والديمقراطية والمؤسسات السياسية وسيادة القانون والمشاركة الشعبية ، وبذلك تحولت معظم القوميات القديمة إلى دول قومية تسعى إلى تنظيم علاقاتها مع بعضها البعض ضمن إطار من التفاعل الدولي يؤدي بالتالي لخدمة الأهداف القومية لهذه الدول .
ومهما كان الاختلاف في تحديد قدم أو حداثة مفهوم القومية فإننا في هذا البحث لسنا معنيين بتحديد تاريخ محدد لبدء هذا المفهوم بقدر ما نحن معنيون بتحديد دور هذا المفهوم وأثره في تطور العلاقات الدولية وهذا الأمر لا يحتاج إلا لملاحظة نوع السلوك الدولي في أي زمان والحكم عليه إن كان يجوز وصفه بأنه نابع من بعد قومي أم لا وذلك باعتقادنا يساعد بالضرورة في تحديد البعد الزمني لهذا المفهوم .




Previous Post Next Post