يكمن الخلل في المنهج الاجتماعي النقدي في مفهوم الماركسية اللينينية او المادية الديالكتيكية وهو المنهج الذي اصطلح على تسميته بـ(الواقعية الاشتراكية) فيما بعد حين اقره اتحاد الكتاب السوفيت عام 1934"(3). وقد لبس المنهج الاجتماعي في النقد لباس العلم والموضوعية بعد ان رأى تين ان الآثار الانسانية خاصة كوقائع ونتاجات "يجب ان تحدد سماتها وتبحث اسبابها لا أكثر. ان العلم حسب هذا المفهوم لا يدين ولا يعفو. انه يتحرى ويشرح ،انه يعمل مثل عالم النبات الذي يدرس باهتمام متساوٍ شجرة البرتقال وشجرة الصنوبر وشجرة الغار وشجرة البتولة . ان هذا المنهج نفسه ضرب من علم النبات لا يطبق على علم النبات وانما على المؤلفات الانسانية"(4). ومن هذا المنطلق اقام تين منهجه النقدي على العوامل الثلاثة : الجنس (العِرق) ، البيئة ، الزمان ، "فهو يزعم ان العِرق له دوره في توريث بعض الخصائص الجماعية ومنه يستنتج اختلاف صور الادب واختلاف خصائصه عند شعراء كل امة على حدة ، فهو يزعم مثلاً ان الشعراء الساميين ينقصهم الخيال الواسع والتعمق في الحكم على الاشياء وان السامية تعوزها الفلسفة والآثار الادبية الممتازة بخلاف الآرية التي تمتاز بالشرائع والقوانين الاجتماعية والفلسفة. ولا شك ان هذه النظرية خاطئة لاعتمادها العرق أساساً متجاهلة عبقريات الافراد وتقاليد الامم والشعوب في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النقد الادبي. اصوله ومناهجه /167
(2) الاسلام والادب/313
(3) د. شلتاغ عبود ، مدخل الى النقد الادبي الحديث /234
(4) كارلوني وفيللو ، تطور النقد الادبي في العصر الحديث /48
تنظيم اساليب الحياة وفق متطلبات يفرضها الزمان والمكان في الغالب "(1). ونجد نظرية الجنس هذه لدى ارنست رينان ايضاً في الاجناس الآرية والسامية ، وقد تاثر بها بعض الدارسين للأدب العربي " فانتهوا إلى تعليل كثير من الظواهر الادبية واللغوية بهذه (السامية) ، فخلوّ الادب العربي من القصة والمسرحية وعدم توفر الوحدة العضوية في شعره وفقر خياله وحسيته وميل لغته إلى الايجاز ، كل ذلك من مخلفات العقلية السامية التي تميل إلى التركيب وتنظر إلى الامور مجزأة على انفراد بخلاف العقلية (الآرية) التي تميل إلى التحليل والنظرة الكلية للوجود ، فتخلصت – بناء على هذا – من هذه العيوب التي علقت بالادب العربي في عصوره كلها كما يزعمون .
   ومن الصور التطبيقية لنظرية الجنس في الدراسة الادبية الدراسات التي عالجت شعر بشار بن برد وابي نؤاس بالرجوع إلى نسبهما الفارسي ، وكأنها وجدت المفتاح السحري لفهم اسرار فن الشاعرين وفهم نفسيتهما، والدراسات التي عالجت شعر ابي تمام وابن الرومي على انهما شاعران من اصل يوناني"(2). والحق انه "ما من سبيل إلى اقامة التاريخ الادبي على نظرية الجنس من الوجهة الفكرية النظرية ، وما من سبيل إلى ذلك ايضاً من الوجهة التطبيقية العملية  فقد اختلطت الاجناس في الوطن الإسلامي اختلاطاً هائلاً مروعاً وتمازجت الدماء تمازجاً واسعاً عريضاً ، فكان من العبث ان تظفر بالدم الصافي والسلالة النقية ، فقد اقبل المسلمون يتصاهرون على أنهم أمة واحدة ويتزاوجون على انهم دين واحد فاتصلت الانساب بين اعماق الصحراء واطراف المدن وبين اصحاب الخيام وسكان القصوروبين العرب والفرس وبين العرب والروم والاتراك والهنود والبرابرة وبين هؤلاء جميعاً "(3) .
   ومما يتصل بنظرية الجنس هذه ما عرف بالدراسات الانثروبولوجية التي تعنى بالأجناس البشرية  القديمة واديانها واساطيرها وعاداتها وتقاليدها ،"وهي دراسات – على الرغم من جدتها واهميتها – لا نستطيع ان نعطيها الصفة العلمية الحقيقية لانها نشأت في مرحلة سيطرة اوربا على العالم وشعورها بالتفوق على الاجناس والبيئات الاخرى . اذ السمة الغالبة على هذه الدراسات هي انها تدرس شعوباً (بدائية) بالنسبة للشعوب الاوربية المتحضرة . وهذه البدائية ليست محددة بتاريخ معين لكنها شملت شعوباً واجناساً ذات حضارات قديمة ولكن الاوربيين لا ينظرون لها الا من عين التفوق عليها ، بل ان هذه النظرة اعتبرت مسوغاً لا ستعمار هذه الشعوب واذلالها تحت شعار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. احمد رحماني ، نظريات نقدية وتطبيقاتها /120
(2) الادب والصراع الحضاري /72
(3) د. شكري فيصل ، مناهج الدراسة الادبية /93

(تحضيرها) وإلحاقها بروح العصر الحديث الذي يعني مادية اوربا "(1) وقد عني هذا المنهج الانثروبولوجي عناية مركزة بالاساطير والرموز القديمة والتصورات الوثنية البدائية وانعكاسها في الادب . وقد حاول بعض الباحثين تطبيق هذا المنهج في دراسة الأدب العربي وتمحّل في تفسير النصوص من اجل اخضاعها لهذا المنهج " ففي هذا البيت تظهر عبادة الشمس وفي ذاك عبادة الأم وفي غيرهما عبادة الثور الوحشي او عبادة الاعضاء الجنسية للمرأة وهكذا .
   وربما تكون خطورة هذا المنهج في مده وسحبه على الادب في العصر الإسلامي باعتبار ان الصور الوثنية قد انتقلت عبر الشعراء المخضرمين ثم صارت صوراً تقليدية دون ان يلحظ اصلها الأسطوري الوثني "(2) . اما عامل البيئة في نظرية تين ، فيقصد به " الوسط الجغرافي الذي ينشأ فيه الاديب مع امته ليشترك معها في العادات والاخلاق والروح الاجتماعية . ولاشك ان للمكان دوره في التأثير في الادب ولكن ينبغي النظر إلى قدرة الانسان على التأثر بما يقرأ من اشعار للامم الاخرى فيتأثر بها ويحاكيها فتتميز اعماله بعض التميز عن غيره كما حدث في الشعر الحديث حيث مسخت شخصيات بعض الشعراء مسخاً نتيجة تأثرهم بشعراء الغرب مع انهم لم يغادروا مجتمعاتهم جسدياً بل غادروها روحياً ومع ذلك غرقوا في التغريب "(3) وفي هذا دلالة على ما وقع فيه تين من المبالغة في تقدير اثر البيئة في الادب معتقداً " أن الانسان ما هو الاّ أثر من آثار البيئة بمعناها الاجتماعي الواسع وانه لايكاد يفترق عن النبات والحيوان في انتفاء الحول وانعدام     الارادة ، وما يتصل بهذا من ان الفضيلة ليست إلى حد كبير الا نتاجاً لعملية تلقائية مثل الاحماض والقلويات"(4) ، وكان لهذا المنهج اثره في انتشار النظرية الاقليمية التي تبناها بعض النقاد الباحثين في الادب العربي مثل امين الخولي وطه حسين وغيرهما وكان الاستعمار الاوربي يشجع ويساعد على التوجه الاقليمي في الحياة السياسية حيث قسم العالم العربي إلى اقطار بعضها تحت الحماية الانجليزية وبعضها الآخر تحت الحماية الفرنسية ، وكان لذلك اثره في مظاهر الحياة الاخرى : الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والادبية "وهكذا اصبحت الدراسات الادبية توجه إلى دراسة كل قطر عربي وتتوفر على الحديث عن ظروفه الطبيعية والاجتماعية والسياسية ، ليكون الادب حصيلة لهذه الظروف مجتمعة ... والحق ان المنهج الاقليمي ربما انطبق على الاداب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الادب والصراع الحضاري / 83
(2) المصدر السابق /83   
(3) نظريات نقدية وتطبيقاتها /121
(4) الادب والصراع الحضاري /75

الاوربية اكثر من انطباقه على الادب الإسلامي او الادب العربي خاصة ، لما في تلك الآداب من عوامل تشتت واختلاف في اكثر من مجال بينما عوامل الوحدة والتشابه هي العوامل الغالبة في الادب الإسلامي والعربي "(1) وبشكل عام" فليس من الجائز ان يكون اختلاف الاقاليم سبباً لاختلاف اصول الأدب وقواعده ولاسبباً لتعويق الوحدة العامة التي تتجه اليها الآداب والفنون ...
   وفحوى هذا كله للادب العربي في العصر الحاضر ان يكون أدباً واحداً كيفما تعددت الأقاليم لأن توحيد الأدب في اللغة الواحدة والى الوجهة الواحدة ومن ينبوع الثقافة الواحدة هو حقيقة اثبت من حقيقة الأقاليم"(2) وبهذا تتبين خطورة هذا المنهج من حيث اهماله لنفسية الاديب واخضاعه لحتمية البيئة وجبريتها وتجاوزه للعوامل الحضارية والدينية الواحدة بين البيئات المتعددة .
    ويتصل بهذا خطر عامل الزمان في نظرية تين وما يتضمنه من اثر التقلبات السياسية والاجتماعية والثقافية "كما الحال في الفرق بين الزمان الذي نشأ فيه شعراء الجاهلية والزمان الذي عاشه الشعراء بعد مجيء الإسلام . 
   ولكن من زاوية اخرى ينبغي الانتباه إلى ان الغربة الزمانية قائمة كذلك قيام المكانية اذ نجد بعض الشعراء الذين يتمسكون بالقديم ويتعبدونه بالقراءة ولا ينصرفون إلى حوادث زمانهم الفنية والاجتماعيةكشعراء عصرهم ، فإنهم يظلون غرباء ويعيشون خارج زمانهم "(3). وهكذا لم يكن تين موفقاً كل التوفيق في نظريته القائمة على العوامل الثلاثة اذ لم تكن لديه الموهبة الادبية الصافية ولم يستطع ان يتفهم الجليل والرائع في الادب " ولم يكن يستطيع أن يفهم أن سر الادب انما يختبيء في الكلمات المتلألئة المضيئة. أو هو كانت لديه نواة هذا الفهم ولكنه لم ينمها ولم يفسح لها المجال للظهور بما اتبع من نظرية صارمة في نقده "(4) كانت سبباً في فشل النظريات والمناهج المتفرعة عنها والمتأثرة بها ، والمنضوية جميعها تحت شعار المنهج الاجتماعي في النقد الادبي متذرعة بما قرره (علم الاجتماع) من قواعد ونتائج اصطبغت بصبغة العلم والموضوعية .
   والحق ان هذا العلم كغيره من العلوم الانسانية لم يكن يقينياً في قواعده ونتائجه ولم يخلُ من اهداف ســياسـية وعنصـرية وطبقـية ، فهــو" علـم قــائم علــى اختلافــات حضــارية فــي الفهــم لطـبيعة الحــركة الاجتمــاعية للانســان وبالتالــي فـان اخضـاع الادب وتفســيره علــى ضــوء قواعد هذا العلم وحده فيه تضييق لدائرة الفهم الادبي ومصادرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق /77
(2) المصدر السابق /77
(3) نظريات نقدية وتطبيقاتها /121
(4) احمد امين ، النقد الادبي2/403
لقيمة العمل الفني نفسه ... والملاحظ على الدراسات الادبية التي خضعت لعلم الاجتماع واطلق عليها بعلم الاجتماع الادبي انها تحتشد بالحديث عن الانتاج والسوق والبيع والشراء والجمهور وسوسيولوجية القراء وهكذا . 
   وقد ضاع العمل الادبي نفسه ، والجدير بالدارس الادبي ان يجعل العمل الادبي نصب عينيه مستعيناً بالعلوم الاخرى لفهمه ما وسعته هذه الاستعانة ولا يكون هو والعمل الذي بين يديه وسيلة لتطبيق نظريات خارجة عن العمل نفسه "(1) ولا ضير في المنهج الاجتماعي اذا استخدم "بالحدود التي تفهم الصلة بين الاديب ومجتمعه وتستعين بفهم المجتمع وتياراته على فهم الظاهرة الادبية ولكنه حين يشتط ويتعسف ويصبح وسيلة دعائية سياسية او حزبية ويقسر الادب على ان يكون صدى لعملية الانتاج والقوى الاقتصادية فانه يضر بالادب والنقد وينتهي بهما إلى (اكليشهات) تقال في نقد كل اديب فيفقد النقد روعته واصالته وفنيته "(2) . ولعل اهم ما يستعين به الناقد من اثر المجتمع في دراسة العمل الادبي هو الجانب الثقافي الغالب على ذلك المجتمع في مرحلة من مراحل التاريخ ، فلهذا العنصر الثقافي اهميته الكبيرة في طبع الاديب بطابعه وتلوين فنه وتوجيهه بحيث يمكننا ان نعرف خصائص ادبه من خلال خصائص تلك الثقافة التي طبعت شخصيته وفكره منذ نشأته وتعامله مع مجتمعه الذي هو خلاصة تلك الثقافة التي اصبحت منهجاً لدراسة الادب فيما سمي بنظرية الثقافات التي جرى تطبيقها على دراسة الادب العربي تطبيقاً معيباً لتركيزه على المؤثرات الخارجية في الادب العربي وتضخيمها على حساب القيم الذاتية النابعة من حضارة الامة وعقيدتها الاسلامية .
   ونجد مصداق هذا التطبيق المنحرف لدى الدكتور طه حسين في دراسة البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر في مقدمته لكتاب (نقد النثر) المنسوب لقدامة بن جعفر حيث راح الدكتور "يضفي على اثر الثقافة الهلينية اليونانية هالة من السحر ويضخم من تشبع الكتّاب والشعراء والنقاد والبلاغيين بها وينتهي إلى النتيجة التي رسمها مسبقاً او قل رسمت له وهي ان الثقافة اليونانية قد طبعت العصر العباسي كله بطابعها وتركت آثارها واضحة على اغلب الادباء "(3) وبهذا الاسلوب يُغفل اثر الثقافة الاسلامية في ادب المجتمع الإسلامي ويتخذ بديلاً عنها ثقافة اليونان الوثنية جرياً على منهج رسمه الغرب الاوربي لمستشرقيه وتلامذتهم بأن يطبعوا الشرق الإسلامي بطابع الغرب وان يردّوا كل فضل ومزية فيه إلى الاصل الاوربي المبدع! ولو وجه هذا المنهج " لدراسة اثر   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي /167-168
(2) مدخل الى النقد الادبي الحديث /235
(3) الادب والصراع الحضاري /74
الإسلام وكتابه الاكبر في صياغة العقل الإسلامي والادب الإسلامي لوجدنا آثاراً دراسية غير التي رأينا ولرأينا نتائج غير النتائج التي رأينا خاصة على ضوء منهج النظرية الثقافية التي تتسق في كثير من خطوطها مع وجهة النظر الاسلامية في رصد الروح الحضارية الاسلامية في كل ما ينتج في المجتمع الإسلامي من فكر وادب وفن وعلم"(1) وإن قصّر العديد من الدراسات في الميدان التطبيقي لهذا المنهج حيث عني بالجانب العقلي واثره في الادب واهملت الناحية النفسية والشخصية لدى الاديب المبدع وانتهى الامر إلى ان يساق الادباء كلهم في طريق واحد تحت تأثير الثقافة الموحدة دون اهتمام بالاثر الفردي في التعامل مع تلك الثقافة وتطويعها لاسلوب الاديب الخاص وقدراته الفنية المتميزة .
   وهذا الاهمال للجانب الفني من العمل الادبي هو شأن معظم المناهج النقدية(العلمية) التي يصعب بل يستحيل تحقيقها في مجال الادب لانها تقتضي تحكيم منهج من ميدان خاص بمنهج من ميدان آخر. وتتجلى صعوبات هذا التحكيم على الصعيدين النظري والتطبيقي فيما سمي بالنقد النفسي او المنهج النفساني في نقد الأدب ،اذ" ان النقاد النفسيين قلما استطاعوا ان يهضموا أو يتمثلوا السيكولوجيا بنحو ذكي ، ومن ثم فإن الباحثين ذوي المعرفة المتخصصة قلما اتجهوا إلى التعامل النقدي مع النص بحس فني ، بل اتجهوا بحسهم العلمي الذي ينهى عن التفاعل مع النص بما انه يتطلب الباحث الادبي لا العالم"(2) ولذلك تحولت النصوص الادبية بين ايديهم إلى وثائق نفسية تعنى باقتناص السمات العصابية لأصحاب هذه النصوص بعد ان يتحولوا إلى مجموعة من المرضى الخاضعين لنظرة سوداوية تحملها الاتجاهات التحليلية في ذهابها إلى ان العصاب وليس الاستواء هو الطابع الغالب للبشرية وان الفرق بين العصابي والسوي من الناس ليس اكثر من اختلاف بالدرجة لابالنوع , وعلى هذا فإن عملية الربط بين النص وكاتبه – في هذا الاتجاه – لاتتجاوز اظهار السمات العصابية للكاتب (3) اذ ان "المحلل النفسي لايهمه في النص جانبه الادبي وإنما هو يبحث عن أمور التحليل فقط . 
   فهو اذاً محلل وليس بناقد ادبي , ولا أدلّ على ذلك من انه قد يقف الوقفة الطويلة عند اثر أدبي لايستحق الاهتمام يمرّ به الناقد الأدبي مرّ الكرام إن لم يفضح ضعفه "(4) ومن ثم تستوي الاعمال الفنية جيدة ورديئة من حيث دلالتها النفسية في إطار المنهج النفسي الذي يُعنى بعملية الابداع أو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق /75
(2) محمود البستاني ، في النظرية النقدية /129
(3) ينظر: الاسلام والادب/305
(4) مقدمة في النقد الادبي /428
شخصية الاديب أو نفسية المتلقي ولكنه يظل غير قريب من الاثر الفني نفسه , بل يتخذ النتاج الأدبي والفني وسيلة لغاية اخرى بعد أن يخضعه إلى قواعد وقوانين علم النفس أو العلوم الطبيعية والبيولوجية (1) . والحق أن عدم الحياد بفرض الحقائق الخارجية على الادب يشكل خطورة على طبيعة الادب وسرّ تكوينه وطريقة إحساس الاديب بعمله .
   وعملية التفسير النفسي ليست عملية آلية يقدر عليها كل ناقد بمجرد أن يعرف ما عقدة أوديب مثلاً أو ما مركب أورست . وان العناصر السيكولوجية ليس لها إلاّ دخل جزئي في الأثر الادبي , ومما ينتقص تذوقنا للأدب مغالاتنا في اعتماد الاصداء النفسية حتى تصبح اكثر إيغالاً في الحقيقة من سائر عناصر الفن (2) , ولهذا يواجه منهج التحليل النفسي للأدب انتقادات كثيرة تكشف عن آثاره السلبية في ميدان النقد "ذلك أن دراسة عملية معقدة غامضة كعملية الابداع الفني بوسائل تجريدية وفرضيات تخمينية يكون مآلها التعقيد والغموض ايضاً . ثم إن هذا المنهج سلب أهم حق للأعمال الادبية والفنية وهو الحق الجمالي والاجتماعي حين حصر اهتمامه في دراسة شخصيات الفنانين على حساب الاثر الفني , فكانت المعالجة في النهاية معالجة كلينيكية أو عيادية لأن الاساس الذي انطلق منه اساس طبي "(3) . والأنكى من هذا أن ترتكز الدراسات النفسية على الشخصيات الشاذة والمصابة بالأمراض النفسية والعقد "ومن عجب أنها تعترف أن هذا المنهج لايصلح لدراسة الأسوياء من الشعراء والفنانين . ووراء هذا ما وراءه من اعتبار هؤلاء الشاذين قدوة الفن وقبلة المبدعين .
   ويحق لنا هنا ان نتساءل عن هذا العلم الذي لايصلح إلاّ للحالات (العيادية) وتضيق فروعه وقوانينه عن تفسير الاستقامة والاستواء في الطبيعة البشرية"(4), وأساس هذا الانحياز إلى الحالات الشاذة هو ما رآه فرويد أن الفنان شخص عصابي يمارس احلام اليقظة معتمداً على خيالاته العائدة إلى تجارب الطفولة وعقدها الجنسية المكبوتة في اللاوعي ويتخذ هذا الفنان من الابداع وسيلة لحماية نفسه من الانهيار النفسي سالكاً طريق التسامي الاخلاقي ليكتسب عمله الفني شرعيته الاجتماعية, وعلى هذا فمن وظيفة النقد الادبي أن يقف على مكبوتات الاديب وصور تجليها في عمله الفني وذلك عن طريق التحليل النفسي(5). ولكن آراء فرويد في هذا المجال لم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي /165
(2) ينظر: د. عز الدين إسماعيل ، التفسير النفسي للأدب /217
(3) زين الدين المختاري ، المدخل الى نظرية النقد النفسي/16
(4) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي /166
(5) ينظر: رنيه ويلك ، اتجاهات النقد الرئيسية في القرن العشرين . ضمن كتاب : مقالات في النقد الادبي/155-159
تكن صحيحة صحة مطلقة ولذلك لم يسر تلامذته على نهجه تماماً "بل ذهب بعضهم إلى مخالفته صراحة ففي سنة 1908 ظهركتاب لتلميذه اوتورانك الذي تناول مسألة الابداع الفني مؤكداً ان الفنان له نشاط معين وهو ليس بحالم ولا عصابي ونشاطه هذا يبعد به عن أن يكون مريضاً مرضاً نفسياً مثلما ظن فرويد. فالمريض او العصابي يؤثر العزلة باعتبارها تهرباً من مواجهة الواقع بينما نجد الاديب والفنان كليهما يرغبان في الاندماج بمحيطهما الاجتماعي عن طريق النتاج الادبي والفني، ساعيين فوق ذلك إلى احراز النجاح والتفوق وكل ابداع أدبي أوفني في رأي اوتورانك يصاحبه الجهد الذهني وتصاحبه المعاناة والعصابي لا يستطيع ابتكار الاعمال الفنية الخالدة التي تحتاج إلى مثل هذا "(1)، وخالف يونج آراء استاذه فرويد ايضاً فرأى ان الفنان " ليس امرءاً مريض الاعصاب بل هو في الحقيقة بكونه فناناً اهم بكثير من المريض في اعصابه .
   بل ان يونج يعلي من شأن الشاعر عرضاً في مقالته (السيكولوجيا والشعر) التي نشرت في مجلة (فترة الانتقال) حين يقول انه انسان جماعي ، انه الحامل المشكّل للنفس الانسانية الحيوية لا شعورياً ، ومع هذه الفكرة تتمشى فكرة اخرى وهي ان الفن في الجملة فعالية مستقلة ذاتياً لا نعرف عن اصلها شيئاً أي هو تعبير يعيا على براعة العلم تفسيره ، وكل ما يستطيعه التحليل النفسي ان يدرس المقدمات ويصف عملية الخلق وصفاً دون ان يفسرها "(2). والحق ان "فرويد نفسه يعترف بأن التحليل لا يستطيع أن يقول الكلمة الاكيدة إزاء نصوص الفن والادب وازاء عملية الخلق الادبي وانه يلقي السلاح ازاء المواهب الضخمة "(3) وقد عدّ الادباء الكبار محللين نفسيين قبل وجود التحليل النفسي.
   وصرح بأنه يفيد منهم في علمه ونظريته وانه منهم بموقف التلميذ من استاذه . وفي هذا الشأن يؤكد فرويد تفوق الشعراء المبدعين بقوله : انهم معلمونا في معرفة النفس لانهم ينهلون من ينابيع لم نتوصل بعد إلى تمهيدها امام العلم (4). ورغم هذا الاحتراس فقد وقع فرويد في مطب المبالغة في تقدير اثر اللاشعور والدافع الجنسي في الفن إلى درجة دفعت بألمع تلاميذه إلى مخالفته "فهذا الفرد آدلر صاحب مدرسة علم النفس الفردي يخالف استاذه فرويد في ان تكون الغريزة الجنسية السبب الوحيد لظهور الامراض العصابية والباعث الاول على الفن . ويرى ان الشعور بالنقص هو السبب الرئيسي في نشأة العصاب وان الباعث الاساسي على الفن هو غريزة حب الظهور او حب السيطرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. ابراهيم محمود خليل ، النقد الادبي من المحاكاة الى التفكيك /58-59
(2) ستانلي هايمن ، النقد الادبي ومدارسه الحديثة 1/246-247
(3) مقدمة في النقد الادبي/428
(4) مجموعة من الباحثين ، مدخل الى مناهج النقد الادبي /71
والتملك . على ان آدلر مع هذا لم يتعمق السياق الاجتماعي بتناقضاته وبقي عنده محصوراً في غريزة حب السيطرة والظهور والتعويض والرغبات اللاشعورية والطابع البيولوجي الوراثي . ومن هنا لم يُحدث اهتمامه بالجانب الاجتماعي انقلاباً في حركة التحليل النفسي"(1). وكذلك كان يونج "يأخذ على فرويد مبالغته في ان تكون الطبيعة الجنسية العامل المطلق في اللبيدو، وشعر ان تفسيره للاحلام والرمز كان ضعيفاً جداً "(2) فاتجه إلى القول بنظريته المعروفة في اللاوعي الجماعي والنماذج العليا والتي انتقدها ستانلي هايمن بقوله : "ان الطبيعة الجماعية التقريرية لسيكولوجية يونج هي اعظم شيء فائدة للنقد الادبي ولكنها ايضاً تتضمن أعظم الاخطار عليه . اعني ما فيها من ميل لإعلاء شأن اللاعقلانية والتصوف وذاكرة الجنس .
   أي تلك الاشياء التي جعلت يونج جذاباً لدى المفكرين النازيين والفاشيين "(3)، كما انتقدت مود بودكين نظريته في (النماذج العليا) فقالت :"منطوق نظرية يونج يصرح مؤكداً ان هذه النماذج تورث في انسجة الدماغ . ولكن ليس لدينا هنا أي برهان على هذا التقدير، أما يونج نفسه فيعتقد انه وجد البرهان على الانبعاث التلقائي لهذه النماذج القديمة في الاحلام والاوهام عند افراد لم يجدوا طريقهم إلى المادة الثقافية التي تتجسم فيها هذه النماذج . 
   غير انه من العسير تقويم هذا البرهان وبخاصة اذا تذكرنا ان كثيراً من المادة القديمة يتشكل وينبعث بصورة مدهشة في حالات الغيبوبة فاذا رددته إلى اصوله وجدته انطباعات حسية حدثت في حياة هذا الفرد او ذاك ثم نسيها "(4). وهكذا بقيت آراء فرويد بين أخذ وردّ من اتباعه وخصومه وأصبح " لدى كل مذهب من مذاهب علم النفس الحديثة مايقوله عن الأحوال النفسية التي ينشأ فيها الفن . اما الفرويديون فيعتقدون بقيام العلاقة بين الفن والمرض العصبي ، واما اتباع يونج فقد وجدوا في الآثار الادبية صوراً عليا وأصداء لأساطير عريقة تتردد في حياة البشر . وقد الحق بهاتين النظريتين ما لايحصر من التعديلات والزيادات . وقد شاعت الفكرة التي تقول ان الفنان مريض مصاب بالعصاب مختل الاتزان وان الفن نتاج جانبي لهذا المرض والاختلال وراجت تلك الفكرة كثيراً خلال المائة والخمسين سنة الماضية . ويبدو ان علم النفس الحديث قد مدها بالمسوغات "(5). والواقع ان هذا العلم يواجه مشاكل كبيرة تتعلق بمصداقية بعض النتائج المقررة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المدخل الى نظرية النقد النفسي/14
(2) مقدمة في النقد الادبي/429
(3) النقد الادبي ومدارسة الحديثة 1/249
(4) المصدر السابق 1/254
(5) ديفيد ديتش ، مناهج النقد الادبي بين النظرية والتطبيق/537

فيه والتي وصفت بأنها علمية ، والحق انها لم تكن علمية يقينية " خاصة ذلك الاتجاه الذي يضخم من اثر الغريزة الجنسية ويعد عنصر اللاشعور في النفس الانسانية يشكل تسعة اعشار النفس الانسانية ،بينما لا يشكل الشعور او العقل الا عشراً وبهذا تخضع النفس الانسانية إلى نوع من الجبرية او الحتمية بما يقربها من السلوك الحيواني غير المسؤول لان الانسان – والحال هذه – مسوق او مجبر بدافع من هذه الغريزة حسب ما تقرره النظرية الفرويدية "(1) التي هي في موضع ردّ من قبل علماء نفس آخرين "وربما تعرضت إلى نقض تام فيما يلي من الأيام .
   ومن المعروف أن ما قيل عنه انه (حقائق) علمية في ميدان النفس الإنساني ، كان وراءه(هوى) الإنسان وميوله وأغراضه ، وهذا شأن ما سمي بالعلوم الانسانية كلها وهي العلوم التي لم ترق إلى مستوى العلوم البحتة في مصداقيتها وإلزام البشر في الأخذ بها "(2) والذي نطمئن إليه "هو أن النفس الانسانية أعم وأشمل وأضخم من علم النفس ومما توصل إليه حتى الآن ، بل من المؤسف أن الوجهة التي سار عليها هذا العلم كانت وجهة في غير الاتجاه الصحيح ، وجهة تبتعد بهذه النفس عن بارئها ومنشئها من جهة وعن حقيقته التكوينية من جهة أخرى "(3) ورغم ذلك فقد" فهم بعضهم أن علم النفس قد أحاط بالنفس الانسانية خبراً من جميع جهاتها وان فروضه وتعليلاته قد صارت حقائق مسلماً بها ويمكن تطبيقها على كل شخصية فردية .
   وهذا وهم كبير. كما أن بعضهم لم يتنبه إلى أن عمل الاديب غالباً مضاد في طريقته لعمل المحلل النفسي، فالمحلل النفسي يميل لتحليل الشخصية إلى عناصر متفرقة ليسهل عليه فهمها وتحليلها ، والأديب ميال إلى تركيب العناصر المفردة ليكوّن منها شخصية ،والشخصية دائماً اكبر من مجموعة العناصر المفردة المكونة لها لما يقع بين هذه العناصر من التفاعل ولأن المحلل النفسي لا يستطيع أطلاقاً أن يصل إلى جميع العناصر المكونة للشخصية ... فالاديب يدرك الشخصية الانسانية كلاً مجتمعاً لا تفاريق مجزأة وتنطبع في حسه وحدة تتصرف بكامل قواها في كل حركة من حركاتها . والاعتماد على التحليل النفسي وحده يخلق مضحكات في بعض الاحيان لانه يجرد الشخصيات من اللحم والدم ويحيلها افكاراً وعقداً "(4). ولهذا فان التحليل النفسي للادب ليس مجرد تطبيق للمنهج الطبي وانما ينبغي ان يكون بمثابة إضاءة للمنافذ نحو فهم الاعمال الادبية وتوسيع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدخل الى النقد الادبي الحديث/240
(2) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي/166
(3) الادب والصراع الحضاري /80
(4) النقد الادبي . اصوله ومناهجه/214


المادية الجدلية
المادية التاريخية
نظرية المادية التاريخية
ماهي الشيوعيه

دائرة الاتصال بها . ففهم النص الادبي يجب ان يتم على انه اثر من آثار الادب وليس مجموعة من الاعراض المرضية حتى وان كانت هذه الاعراض تشكل العصاب أو النرجسية ذلك ان الفنان"ككل شخص آخر قد يعاني من حالة مرضية وقد يتألم بسبب أو بغيره , لكنه ليس مجنوناً . حتى عندما يكون الفنان عصابياً لايكون لعصابه أي دخل في قدرته على الابداع الفني لأنه حين يبدع يكون في حالة من الصحة واليقظة النفسية الواعية بكل ما في الواقع من حقيقة "(1) بل يكون في حالة من التوازن والهدوء لايستطيع الانسان العادي الوصول اليها كما قرر ذلك ريتشاردز متجنباً ما وقع فيه السابقون من اقطاب التحليل النفسي للادب "بإشارته إلى حرص الفنان على تحقيق التوازن بين دوافعه هو ودوافع القاريء الممكنة أو المحتملة وبغير هذا التوازن يتعذّر التوصيل مثلما يتعذر التفاهم بين اثنين يتكلمان لغتين مختلفتين .

Previous Post Next Post