الأوضاع الثقافية في القدس بين المماليك والعثمانيين:
عاشت القدس عصرها الذهبي في مجالات الثقافة العربية والإسلامية أيام الحكم المملوكي، ودخلت القدس في حوزة المماليك سنة 651 هـ/1253م. وحظيت باهتمام ملحوظ وقام سلاطينهم بزيارات عدة للقدس، وكان الظاهر بيبرس في طليعة السلاطين الذين اهتموا بالمدينة، فقد زارها مرتين، كما زارها السلطان قلاوون والناصر محمد بن قلاوون والأشرف قايتباي وأقاموا بها منشآت دينية ومدنية عديدة، فقد وُجِدَ بالقدس عدد كبير من مؤسسات التعليم المتخصصة والعامة،  وعاش فيها عدد كبير من كبار العلماء.([1])
وازدهرت الحركة الثقافية في المساجد والمدارس والكتاتيب، وبعض المؤسسات العلمية كالمشافي ( البيمارستانات) وغيرها، أما الموضوعات العلمية والتدريس فكانت جلها ينصب في نطاق الثقافة العربية والإسلامية وتركزت حول الدراسات القرآنية وعلم الحديث، واللغة العربية وآدابها، وكتب التاريخ والتراجم والسيرة، والعلوم الرياضية كالجبر والهندسة والفلك. وغدت القدس أيام المماليك من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي، فكان يفد إليها الدارسون (الطلاب) والمدرسون( المعلمون) من مختلف الأقطار. ([2])  
وحظيت علوم اللغة العربية باهتمام خاص في القدس، وتركزت عناية العلماء على دراسة كتب الأدب والنحو والصرف والبلاغة، وكان من هذه الكتب "الكتاب" لسيبويه، و"الإيضاح" في النحو لأبي علي الفارسي، وكتاب "الجُمل" لعبد القادر الجرجاني و"ألفية بن مالك" و"شذور الذهب" لابن هشام،  وكان كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي مع كتب محي الدين بن عربي أهم كتب التصوف التي دُرسَّت في القدس.([3])
وقد زاد اهتمام المماليك بالقدس فجعلها السلطان برقوق نيابة مستقلة سنة 1393م، تابعة للسلطان في القاهرة مباشرة، بعد أن كانت تابعة لنيابة دمشق، وبنيت فيها منشآت تعليمية بلغت زهاء خمسين مدرسة وسبعة ربط وعشرات الزوايا، فكانت أروقة الحرم القدسي والمدارس التي أُقيمت هي مراكز الحياة الثقافية والتعليمية، وكانت منظَّمة إلى أبعد الحدود، فقد كان في كل مدرسة هيئة تدريسية يقف على رأس السُلم الوظيفي شيخ المدرسة ثم يتبعه المدرسون فنوابهم وأخيراً المعيدون.([4])
والتحق الطلاب في القدس في المدارس التي يحبونها، وانكبوا على نوعية الدراسة التي توافق هواياتهم، واختلفت مدة الدراسة من تخصص إلى آخر، ويحصل الطالب على شهادة الإجازة بعد انتهاء دراسته بتوقيع شيخه، وقد تكون الإجازة عامة أو متخصصة بفن من الفنون، وكان لهذه الإجازات مكانة محترمة في المجتمع المقدسي، وقد اُشترط للوصول إلى مرتبة المشيخة العلم الغزير والسمعة والسلوك الحسن, والقدرة العلمية على التدريس، وكان أمر التعيين في هذه المرتبة العلمية محصوراً بالسلطان, ويتم بمرسوم صادر عنه، كما كان الشيخ العالم يتقاضى راتباً محدداً من أموال أوقاف المدرسة التي عُيَّن فيها.([5])
أما المدرَّس فقد كان يدَّرس أكثر من مقرر بشرط الحصول على الإجازة في التدريس فضلاً عن السمعة الحسنة والمقدرة العلمية والعطاء، وأما المعيد فقد كان يتولى إعادة الدرس الذي ألقاه المدرس، ويشرح ما صعب فهمه على الطلاب. لذا كان من شروط تعيين المعيد القدرة على توصيل المادة إلى الطلاب مع حسن الخلق.([6])
أما أهم المدارس في القدس في العصر المملوكي فهي المدرسة الصلاحية التي أنشأها السلطان صلاح الدين سنة 1192م، وكانت أعظم معاهد العلم في القدس، وظلت كذلك لقرون طويلة، وكانت تُدرس مختلف العلوم الإسلامية والفنون درّس فيها كبار العلماء والقضاة من أمثال القاضي محي الدين الغزي، وكذلك الشيخ جمال الدين الباجريقي من الموصل، وشهاب الدين الحلبي، وتسلم التدريس والإعادة في الصلاحية عدد كبير من مشاهير العلماء، كان لهم دورهم الكبير في الحركة الثقافية في القدس وقد تمكن عدد من المعيدين من الوصول إلى المشيخة.([7])
وكذلك المدارس الكريمية والعمرية والبكرية والمأمونية والرشيدية والسلطانية. والتي أدّت دورها الهام في نشر الثقافة والفكر في القدس وفي كل أرجاء فلسطين، بل عم نفعها معظم بلاد الشام وامتد أثرها إلى مصر كذلك.
حظيت مدينة القدس باهتمام العثمانيين، وأطلقوا عليها اسم (( القدس الشريف)) نظراً إلى أهميتها الدينية والاقتصادية، وفتحت معركة مرج دابق عام 1516 أبواب القدس أمام السلطان سليم حيث زار القدس، ورحب أهلها بالسلطان العثماني الجديد وتحسنت الأحوال في القدس تحسناً كبيراً في عهد ابنه السلطان سليمان القانوني(1520-1566) وتطور الاقتصاد وازدهرت التجارة حيث فرض العثمانيون القانون والنظام في فلسطين وتمت السيطرة على تخريب البدو للمناطق الريفية وقُسمت فلسطين إلى ثلاث مناطق ( صناجق) تشمل القدس ونابلس وغزة وكانت جميعها جزءاً من ولاية دمشق في عهد السلطان سليمان الذي اهتم بالقدس اهتماماً خاصاً وأقام فيها منشآت، منها سور القدس الذي دامت عمارته خمسة أعوام، ومساجد وأسبلة، وعمَّر كذلك قبة الصخرة، والمدرسة الرصاصية ورمم القلعة وبنى (( محراب النبي)) غربي الصخرة.([8])
وكانت زوجة السلطان سليمان واسمها روكسلانة وهي يهودية من أصل بولوني قد اتخذت في القدس عام 1551 تكية هامة هي تكية خاصكي سلطان، والتي شملت مسجداً ورباطاً ومدرسة وخاناً ومطبخاً يزود طلبة العلم والمتصوفين والفقراء بوجبات مجانية.([9])
وتفيد الإحصاءات المتوافرة أن عدد سكان فلسطين قد تضاعف ووصل إلى نحو 300 ألف نسمة خلال القرن الأول من حكم العثمانيين، وشهدت فلسطين ازدهاراً زراعياً وتجارياً ملموساً، ونشطت حركة الحج نتيجة لاستتباب الأمن على الطرق، غير أن ذلك كله لم يدم طويلاً، وبدأت تظهر منذ مطلع القرن السابع عشر علامات الضعف على الدولة العثمانية بعد وفاة سليمان القانوني وتسلط قادة الجيوش (الانكشارية) على السلطة، وهذا انعكس على القدس والحياة الثقافية والتعليمية فيها، إذ إنّه بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي أخذت مدارس القدس التي أنشأها الأيوبيون والمماليك تضمحل بسبب اضمحلال العقارات الموقوفة عليها، ووصلت حالة الشعب المعيشية في هذا القرن إلى أدنى مستوى على الرغم من ظهور عدد من العلماء البارزين.([10])
ويعزو المؤرخ سهيل زكار حالة التراجع في الحياة التعليمية إلى (( أن القدس قد تأثرت كثيراًَ بعد استيلاء العثمانيين عليها، لأن مصر وبلاد الشام، كانتا مركزاً لجميع أوجه نشاطات الحياة في أثناء العصر المملوكي، وتمثلان المرجعية العربية والإسلامية، وتمتلكان جميع الإمكانات و((الكوادر)) الغنية والعلمية والإدارية لكن بعد الاحتلال العثماني فقدتا معظم ذلك، حيث ذهب كثير من الفنيين والحرفيين المهرة إلى الأستانة، ونُهبت المكتبات ودور العلم، ونقلت معظم كنوزها التراثية والثقافية إلى استانبول حيث خلاصة الذخائر العربية والإسلامية وجَّل مخطوطات المكتبة العربية وبذلك تكون قد انتقلت بلاد مصر والشام من القلب إلى الهامش، فكان الانحدار المروع بعد الازدهار الثقافي، وانتشر الجهل والأوهام والأمية، وأصيب العقل العربي بالبطالة))([11])
على أن الأمر لم يتوقف في مجال الحياة التعليمية والثقافية تماماً، إذ إنَّ ما بقي من مدراس ومساجد وخاصة المسجد الأقصى المبارك، وقبة الصخرة المشرفة، ثم المؤسسات التعليمية الصوفية من خوانق وربط وزوايا، وإلى جانب المؤسسات التعليمية كانت هناك مكتبات عامة وخاصة، وفي مقدمة المكتبات العامة- من حيث الأهمية – تأتي مكتبة المسجد الأقصى، أما المكتبات الخاصة فتتمثل في مجموعة الكتب التي أقتناها وأفاد منها كبار العلماء، وقد أسهمت جميعها مع حركة الترجمة والتعريب في بناء الحياة الثقافية لأهل القدس خلال العصر العثماني.

[1])) - سهيل زكار، القدس في التاريخ من العصر المملوكي حتى العصر الحديث، الجزء السادس، منشورات القيادة الشعبية- طرابلس،2000، ص16.
([2]) - كارين أرمسترونج، القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني، دار سطور للنشر- القاهرة، 1998، ص509.
([3]) - سهيل زكار، المرجع السابق، ص96
([4]) - عبد الجليل عبد المهدي، المدارس في بيت المقدس، عمّان 1981، ص113.
([5]) - القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، القاهرة، المطبعة الأميرية، 1920، ج5 ، ص464.
([6]) - ابن واصل الحموي، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب – القاهرة 1953، ج4، ص208.
([7]) - عبد الرحمن العليمي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل- عمان1973، ج2، ص114
([8]) - مصطفى الدباغ، المرجع السابق، ص9.
([9]) - كارين أرمسترونج، المرجع السابق، ص528.
([10]) - عمر سعادة، فلسطين في التاريخ الإسلامي، دمشق، دار الفكر2008، ص129.
([11]) - سهيل زكار، المرجع السابق، ص164.

Previous Post Next Post