البناء الفني للقصيدة الجاهلية
   القصيدة التي ورثناها عن العصر الشعري الجاهلي نهاية ناضجة لمحاولات أوليّة سبقتها، وأدَّت إليها. وأن هذا النموذج الشعري ظلّ طوال العصر صورة مرتبطة برسوم وتقاليدَ فنيةٍ تحكّمتْ في أكثر القصائد التي استحقت الذّيوع والانتشار فيما بعد، وان تلك الرسوم غدت تقليداً لا يكاد شاعر جاهلي يتخلّى عنه إلاّ لضرورة فنيّة، أو موضوعية.
   ولقد ظلّ هذا النّمط الشعري بصياغاته وتراكيبه التي تداولها الشعراء مثار حيرة حقيقية سواء في فهم البواعث وتحليل الظواهر، أم في إدراك الصّلات الفنيّة التي تتحكم في أقسامه، وتوجهها عبر البناء الشعري للقصيدة.
   وقديماً أراد ابن قتيبة أن يحسم الأمر، فنقل عن بعض أهل الأدب أنّ مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الدّيار والدّمن والآثار،  فبكى وشكا، وخاطب الرّبع واستوقف الرّفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدّة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبّابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، ويستدعي به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل.... فإذا علم أنّه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقّب بايجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسّهر، وسرى الليل وحرّ الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرّجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير، بدأ في المديح..... ( ).

وسواء أكان هذا الرأي الذي أورده ابن قتيبة يمثل خلاصة رأيه الشخصي، أم يمثل رأياً تبنّاه بعد أن سمعه من غيره، فانه يكتسب أهمية من ناحيتين:
1- أنه نظر إلى القصيدة نظرة شاملة، وسعى إلى تفسير بنائها.
2- لم يَرَ في موضوعات القصيدة من طلل، ونسيب، ورحلة، وغرض موضوعات منفصلة متباعدة ، بل رأى فيها نوعا من الترابط ، يمكن أن يطلق عليه "الوحدة الفنية" وان لم تفلح تلك الروابط التي افتعلها بين أجزاء القصيدة في إظهار نوع من الوحدة، يمكن أن يسوّغ اعتبار القصيدة عملاً متكاملاً.
   ويبدو أنّ هذا المذهب في فهم تطور العمل داخل أقسام القصيدة كان يمثل خلاصة اتجاه استقرائي أقرّه القدامى ، وتداولوه دون إثارةِ اعتراضاتٍ جادّةٍ عليه( ).
   أما المحدثون من الباحثين فقد أثاروا جملة مناقشات في محاولات جديدة لفهم بواعث الظاهرة، وتفسير أبعادها، فأشاروا إلى قصور استقصاء نص ابن قتيبة للنّماذج( )، وخفّة أثر تحليله النفسي لانفعال الشاعر ذاته( )، واختلفوا بعد ذلك في اتجاهاتهم لتفسير أبعاد النمط الشائع للقصيدة الجاهلية وبواعثه، فأشار بعضهم إلى النماذج التراثية التي استهوت الشعراء عبر العصر كلّه( )، وتمسّك فريق آخر بالإشارة إلى أثر استقرار الظرف البيئي في استقرار النمط( ).




وذهب فريق ثالث مذاهب تحليلية نفسية ( )، غلا بعض أصحابها حتى كاد الشّاعر الجاهلي يبدو في تفسيرهم مفكراً وجودياً معاصراً( ). على أن من الباحثين من بنى تحليله على استقراء واقع الشاعر الجاهلي. فقّرر أن النموذج الشعري ظلّ موزعاً بين ذات الشاعر التي تحتل انفعالاتها لوحات المدخل وبين الواجبات القبلية التي تشغل الغرض الرئيس من النموذج عادة، وانتهى من ذلك إلى أن القصيدة الجاهلية قسمان: ذاتيّ وغيريّ. وأن هذا النمط هو الذي شغل الدّواوين عبر العصر كلّه( ).
   ونحن لا نريد أن نفتح باباً لمناقشة هذه الآراء، ولكننا نزعم أن تفسير ابن قتيبة يظل ممثلاً لأول محاولة علمية لفهم نمط القصيدة العربية، وتحليل بواعثه.أما قصور الاستقصاء فيه فانه لا يغضّ من قيمة تحليله للعلاقة بين الشاعر ،وبيئته، وجمهوره عبر قدرته الإبداعية على تهيئة الجو النفسي الملائم للغرض الرئيس من قصيدة المديح.
   أما مذاهب المحدثين فإن أغلبها يمثل اجتهادات منطلقة من وجهات نظر افتراضية، ظلّ فيض الشعر الجاهلي قادراً على مدّها بالشّاهد الملائم على اختلاف اتجاهاتها وتباينها.
   والذي نراه أنّ أهم خطوة لفهم نمط القصيدة الجاهلية تكمن أولاً في النظر إليها على أنها تمثل وحدة عضوية، لا ينبغي التورّط في فصل مدخلها عن غرضها، ولا النظر إليها على أنها مجموعة أغراض، يربط- أو لا يربط-بينها جسور لفظية اصطنعت لأداء مهمة شكلية.
   لقد كان الشّاعر الجاهلي خلال عمله الإبداعي مشدوداً إلى إطار نفسي يحدّد طبيعة تطور القصيدة كلها ونمائها بغض النظر عن اختلاف التفاصيل، وتعدد وجوه القول داخل كلّ قسم من أقسام الإطار الموروث ،الذي لا تمثل صيغه وموضوعاته في نظرنا غير مستلزمات فنية، كانت لها بواعثها البيئية القديمة في أولية الشعر، ثم غدت نمطاً فنيّاً، وصنيعاً يألفها الذوق الجاهلي ويتقبلها. ولهذا اتخذها الشعراء منفذاً للتعبير عن الذات في صراعها مع الحياة المضطربة، ثمّ هيأوا منها منطلقاً نفسياً ملائماً للدخول في تفاصيل الغرض.
   لقد تحدّدت صيغ مدخل القصيدة الجاهلية الموروثة عبر ثلاث مراحل متلازمة:
الأولى- الافتتاح الذي يعالج فنون الطلل ،والظعن ، والنسيب، والخمر، والشيب والشكوى ،وما إلى ذلك من صور، ظلّت البيئة الجاهلية تغذيها وتمدها بالتفاصيل المتجددة، وظل الشاعر يتخذها منفذاً تعبيريا لحديث النفس في تأملها للماضي وأحلامه الضائعة.
الثانية- الرّحلة:
   وقد تختلف وجهات نظر المحدثين بعد ذلك في طبيعة الدّوافع النفسية والفنية لانتقال الشاعر من حديث الطلل والمرأة إلى حديث الرّحلة التي تشخص الناقة فيها عنصراً مشاركاً للشاعر في خوض رحلة أسطورية تحفّها المخاطر، ويكتنفها المجهول.
   والناقة هي وسيلة الشاعر وأداته التي يستعين بها على بلوغ الهدف من موقف الصراع، ولهذا فإنه يفرغ لوصفها، الذي يستمدّ عمقه من تحفّزه الذاتي، واستعداده الفني لمتابعة تفاصيل مظهرها الذي طال تأمله له، وامتزجت له في نفسه عوامل الألفة والإعجاب والمنفعة( )".
   ولقد ظلّ الشاعر الجاهلي يتابع هذه التفاصيل التقليدية، ويحاول أن يضيف إليها جديداً. وليس معنى الجديد هنا أن الناقة كانت تكتسب أوضاعاً مادية جديدة، وإنما كان استشراف الشاعر هو الذي يقرر الأبعاد المتجددة لتفاصيل مظهر وسيلته الخاصة في صراعه مع واقعه اليومي( ).
   أما انتهاء تفاصيل مشهد الناقة إلى تشبيهها بثور الوحش، أو حمار الوحش، أو الظليم، فانه قد يستقطب قناعة ساذجة برغبة الشاعر في تشخيص سرعة ناقته فحسب، بيد أن الأمر يظلّ أعمق من هذا التصوّر في الاستيعاب والتعبير، فقصص الوحش تمثل من الناحية الفنية آثاراً لجهد واعٍ، ومتابعة متأنية بتحوّل مجرى التشبيه خلالهما إلى عناية خالصة بالمشبه، حتى يخيّل إليك أن التشبيه مجرد جسر للصورة التي يفرغ الشاعر لمتابعتها في هذه القصص المنتشرة في الدواوين الجاهلية بشكل لافت للنظر.
   ويبرز مشهد الحمار تعبيراً عن صور صراع متميزة تتخذ مجراها عبر أداء فنيّ للتفاصيل التقليدية، فتبدو الخضرة الربيعية والمياه التي يردها الحمار وأتانه (أو أتنه) أول المشهد تشخيصاً حيّا لمرحلة ما قبل الصراع التي تتمثل في حياة الشاعر نفسه استقراراً وسكناً إلى مجرى حياته مع الذين تربطه بهم وشائج وجوده الاجتماعي. ولكن الموارد لا تلبث أن تجفّ، وتغدو الخضرة هشيماً وعندئذ يواجه الحمار تحدي البحث عن مورد جديد، وتقف الأتن منتظرة، حتى ينجلي الموقف عن تذكره عيْناً نائية يصبح الرّحيل إليها رمزاً للبحث عن الاطمئنان المفقود.
   وتتدفق مشاهد الرحيل لتمثل صراع الحمار مع أتنه النافرة، وهو يزجيها إلى هدفه، حتى إذا لاح له الماء أقبل ملهوفاً ليلقي أكارعه فيه، بعد أن تحقق الحلم بالوصول، ولكنه ما يكاد يطمئن إلى موضعه حتى ينبري له القدر في هيأة صيّاد جائع يرسل سهماً ينذره بخطر الموت. وهنا يفزع هو وأتنه إلى نجاء مجدّ لا هوادة فيه، ويكون الشاعر عند ذلك قد استوفى صور تجدّد صراع الإنسان الذي لا ينتهي إلى غاية، حتى يرغمه القدر على رحيل جديد.
أما مشهد الثور فانه يقدم صيغة فنية قد توافق صيغة الحمار من حيث قدرتها على تصوير مراحل الصراع المتجدد، ولكنها تخالفها في طبيعة التفاصيل المؤدية إلى منح المشهد مناخاً نفسياً متميزاً. فالثور يواجه صراعه منفرداً لا يقف إلى جانبه من يلوذ به، أو يحتاج إلى حمايته، وبذلك يتجه المشهد إلى منح الشاعر فرصة الايحاء بمواقف الصراع ذات الطابع الفردي( ).
ويتمثل مشهد الصراع الأول في مواجهة الثور لأهوال ليلة يشتد فيها المطر والريح وهي بداية مباينة لما يقدمه مشهد الحمار الذي تمثلت مأساته في نضوب الماء، ولهذا فإن المشهد يتجه إلى صورة ثور، وهو يجاهد ليحتفر لنفسه مبيتاً إلى حقف أرطاة تقيه أهوال العاصفة والمطر، ولكنه ما يكاد يطمئن إلى سكنه حتى يصبّحه الفجر بنذير الموت متمثلاً في أصوات كلاب صيد مقبلة، وعندئذ يفزع إلى قوائمه يستمد منها العزم على الهرب، ولكن الكلاب تتكاثر عليه، وتنهش لحمه، فيضطر إلى أن يكرّ عليها مستخدماً قرنيه في معركة فرضها قدره عليه، وهيّأ له فيها وسائل النصر، فيصرع هذا ويجرح ذاك، وتراجع الكلاب السليمة أنفسها ، وترى أن اليأس أولى بها، وترجع إلى مولاها دون غنيمة. أما الثور فانه يوليّ هارباً نحو المجهول، مخلفاً وراءه عموداً من النقع.
   والشاعر الجاهلي عامة، خلال ذلك كلّه يطرح صورة الصراع الإنساني المتميز بالدور الفردي، ويأبى الاّ أن يكون ثوره منتصراً -وقد يكون الهالك في شعر الهذليين -ليكون في هذا الانتصار انتصارٌ لفردية الشاعر على أعدائه بمنأى عن القبيلة، مخفّفاً بهذا من قيود الالتزام القبلي.
   وقد ينفتح الشاعر في لوحة الرّحلة  على تشبيه استطرادي( )، فيشبه ناقته بظليم، ينقف الحنظل والخطبان في مرعى ناءٍ خصيب، وفجأة يتذكر بيضه بعد أن هيّجه يوم ملبّد بالغيوم، فيسرع بالعودة إلى بيته، ويتزيد في سرعته ليدرك أدحيّه قبل أن يُفسد المطر والبرد بيضه. وينجح في الوصول إلى بيته قبل أن يتم اختفاء قرص الشمس في غروبها وراء الأفق، ثم يطوف بالبيت مرتين يتفرس في الأرض المحيطة به، ليرى هل بها أثر لدخيل اقتحم بيته في غيابه. فإذا ما اطمأن إلى أن لا خطر يختبئ له في بيته دخله مشتاقاً متلهفاً وتهالك على بيضاته المركومة، وآوى إليه أفراخه الصغار الضعاف، وأخذ يناجي زوجته السعيدة بعودته، وتناجيه في انفعال شديد.
   تلك هي حدود أطر لوحة الرحلة التقليدية، وهي حدود ظلت تتيح للشاعر فرص انتقاء تستمد اتجاهها من طبيعة تركيبه النفسي وقدرته الفنية، ومدى عمق وجوه الصراع الفردي والاجتماعي الذي يخوضه ،على أن طبيعة المناخ الموضوعي للتجربة الآتية التي يتجه الشاعر إلى معالجة آثارها في لوحة الغرض قد تتحكم في الانتقاء وفي تناول التفاصيل، حتى أن النهاية التقليدية المرسومة لنجاة الحيوان من قبضة الصياد تتخذ اتجاهاً نقيضاً في قصيدة الرثاء التي ينتهي المشهد فيها بسقوط الحيوان تمهيداً لمعالجة مشكلة الموت، التي تمثّل نهاية الصراع الإنساني( ).
   ويشير الاستقراء إلى أن النموذج الفنّي لم يخضع لالتزام مطلق بتقاليد لوحة الرحلة التي حددنا أبعادها التراثية الكاملة، فقد رأينا أن ثمة نماذج يتخلى أصحابها فيها عن لوحة الرحلة كلّها، ويكتفون بلوحات الافتتاح على الغرض بشكل مباشر يوحي بظرف قول لا يُعنى معه الشاعر بتشخيص صور الصراع الإنساني بدافع من عوامل نفسية أو فنية تتعلق بحالة الشاعر، أو الغرض الرئيس. فضلاً عن احتمال ضياع بعض اللوحات.
لوحة الغرض:
   يبدو أن طبيعة النظام الجاهلي الذي تحكّم في إذابة الشخصية الفردية في كيان القبيلة الاجتماعي أدى إلى أن تصبح التجربة القبلية مدار أغراض الشعر وفنونه بوجه عام، ومن هنا صحّ أن يقال: إن الشعر كان سجل الحياة الاجتماعية وتأريخها الإنساني، على أن ذلك كلّه لا ينبغي أن يؤدي إلى الأخذ بالنصوص الشعرية على أنها مسلّمات تاريخية خالصة، ذلك أن مهمة الشاعر تظل مختلفة عن مهمة المؤرخ من حيث الأساس( ).
   ونحن لا ننكر أنّ ثمة قوانين ومعايير اجتماعية ظلت تتحكم في حياة المجتمع الجاهلي، وتحدد تقاليده ومثله العليا، وان الشعر ظل مقيداً بتلك القوانين والمعايير، في شتى وجوه القول، ولكننا نزعم أن الشاعر رغم قيوده الاجتماعية الصارمة ظل يمثل طموح العبقرية إلى التغيير من خلال الموازنة الواعية بين صدى الواقع المفروض وبين الصورة المثلى لآفاق المستقبل الذي يحدده التأمل والاستشراف الذاتي.
   من هذا المنطلق ينبغي أن نمضي في دراستنا لأغراض القصيدة الجاهلية التي ظلّت مسخرة للتعبير عن آثار هذه التجارب المقيدة بطبيعة الالتزام القبلي، والمهيأة لقبول صور استشراف الشاعر الذاتي من جهة أخرى. على أن ذلك كله ينبغي الاّ يقودنا إلى الغضّ من قيمة التجارب الفردية التي ظلت تجد طريقها إلى عدد لا يستهان به من النماذج الجاهلية الموروثة( ).
   لقد تحددت أغراض القصيدة الجاهلية منذ بداية العصر. واستقرت على نمط ظل يتحكم في النماذج الفنية، فكان المديح والرّثاء والهجاء والفخر والتهديد وما إلى ذلك من أغراض، ميادين تعبير عن آثار هذه الحياة القاسية المضطربة بمثلها العليا، وقوانينها الاجتماعية الصارمة من جهة وعن طبيعة حياة الشاعر ونمط تجاربه الاجتماعية والذاتية من جهة أخرى.
لقد تحكم العرف في طبيعة معالجة كل غرض من أغراض النموذج الجاهلي، وفي توجيه تفاصيله أحياناً، فكانت قصيدة المديح ميدان التعبير عن الإعجاب الاجتماعي بصور الفضائل التي تبهر النفس، وتدفعها إلى تخليد المآثر المقيدة بالمثل العليا القائمة على تقديس سمات القوّة والكرم والشجاعة، وحفظ العهد، وحماية الجار، ورعاية الضعيف.... ومن هنا تشابهت مجاري نماذج المديح.
   ويبدو أن الدافع القبلي ظلّ مداراً أصيلاً لنماذج المديح خلال العصر كلّه. على أن بروز المنفعة الذاتية في بعض النماذج ينبغي ألاّ يغرينا بتفسير جديد.
   أما قصيدة الرثاء الجاهلية فقد ظلت موزعة بين اتجاهين يبدو أحدهماً امتداداً لقصيدة المديح. وأما الآخر فقد تمثل في ضرب من النواح( ). على أن الاتجاهين قد يمتزجان في النموذج الواحد، لا سيما إذا ربطت الشاعر بالمرثي صلة اجتماعية قريبة( ).
أما النماذج التي رثى الشعراء بها أنفسهم فقد بدت في أكثر الأحيان موزعة بين اتجاه النواح وبين مجرى الفروسية القائم على إبراز المزايا الذاتية( ).
   أما نموذج الهجاء فقد أشار إلى عمق استخدام الصورة الهجائية في الأمور القبلية والاجتماعية، حتى بدا أن بواعثها لا تختلف كثيراً عن بواعث قصيدة المديح من حيث الأساس، وأن ناقضتها في اتجاهها إلى تجريد الخصم من الحد الأدنى للمثل العليا والقيم الاجتماعية والإنسانية.
   وقد يشير استقراء الدواوين الجاهلية إلى أن الاختصار والتخلي عن التمهيد الفني هو الطابع الغالب على قصائد الهجاء( )، وتلك ظاهرة ينبغي أن نتلمس بواعثها في طبيعة الدوافع النفسية التي تتمثل عادة في فورة غضب سريعة الانقضاء لا تستدعي تأملاً ذاتياً الاّ في حالات نادرة، قد تبدو واضحة في بعض النقائض التي تبادلها بعض الشعراء في مرحلة متأخرة من العصر الجاهلي( ).
   وينطلق       نموذج الفخر من القيم والمعايير التي تنطلق منها نماذج المديح عادة، الاّ أن الاتجاه الفني في نموذج الفخر يبقى متميزاً بإخضاع تفاصيله لاستشراف المثُل العليا في ذات الشاعر الفردية أو القبلية .
الجوّ النّفسيّ في القصيدة الجاهلية
   يحس بنا أَنْ نحدّد بُداءة المعنى المقصودَ بـ "وَحْدة القصيدة"، لأن هذا المصطلحَ ليس موضع اتفاق عند الباحثين، لذا جاءت أحكامهم على وحدة القصيدة الجاهلية متباينة( )، لأنهم يخلطون بين مصطلحات مختلفة، مما دفع محمداً النويهي إلى القول :" إِنّ الكثيرين لا يفهمون المقصود، فيظنُون أنّ مدلولها-وحدة القصيدة- هو اقتصار القصيدة على تجربة واحدة، أو عاطفة واحدة، ولكن الوحدة المطلوبة لا تحجز الشاعر عن تعدّد التّجارب والعواطف في قصيدته، إنّما يشترط أن تكون جميعها متجانسة المغزى هادفة بتعدّدها إلى استجلاء وحدة في الوجود، أو في موقف النفس البشرية منه( ).
   فمعنى وَحدة القصيدة "أن يكون بين موضوعاتها انسجام في العاطفة المسيطرة ..... والشاعر يحقّق هذه الوحدة في بنائه لقصيدته بأن يرتب موضوعاته ترتيباً يقوم على النموّ المطّرد، بحيث ينشأ أحدهما عن سابقه نشوءاً عضوياً مقنعاً، ويقود إلى لاحقه بنفس الطريقة، وبحيث تتكامل أجزاء القصيدة في توضيح عاطفتها المسيطرة، واتجاهها المركزي، حتى إذا قرأنا القصيدة ازددنا بالتدرج دخولاً في عاطفتها، وبصراً باتجاهها"( ).
   وقد لحظ هذا الرّبط، أيضاً، د. طه حسين،  في أثناء حديثه عن معلقة لبيد، وقال:" إِنّها بناء متقن مُحكَم، لا تستطيع أنْ تقدّم فيه وتؤخر، أو تضع بيتاً مكان بيت دون أن تفسد القصيدة ، وتشوّه جمالها، ودون أن تفسد البناءَ كلّه وتنقضه نقضاً( )".
   فوحدة القصيدة تتحقّق من خلال الجو النفسيّ العام( )، الذي يشدّ أجزاء القصيدة بعضها ببعض، وأنّ هذه الوَحدةَ "لا تتُبيّنُ بالقراءة المتعجلة والنظرة الخاطفة، فهي ظاهرة خفيّة يحتاج إدراكهُا واستيعابُها وشرحُها وتفسيرُها إلى دراسة متأنية للقصائد، ومعرفةٍ كافية بالأحوال المؤثرة فيها، والأهداف المتوخاة منها( )".
   وقد أحسّ طه حسين هذه الوحدة في القصيدة الطويلة، وقال( ): إنّها وحدة متقنة متمّة إتماماً لا شكّ فيه ولا غبار عليه. وقال: إن أجزاء القصيدة جاءت ملتئمة الأجزاء، قد نُسقّت أحسنَ تنسيق وأجمله وأشدّه ملاءمة للموسيقى، وعزا الخلل والتفكك والانقطاعَ في بعض القصائد إلى قصور ذاكرة الرّواة.
   وقد أحسّ بهذا الرابط، أيضاً، المستشرق جوستاف جرينباوم، فقال( ):" إن هناك نوعاً من رابطة نفسيةٍ بين القفز الاستطرادي من موضوع إلى موضوع بين هذه الانتقالات العاجلة من حالٍ إلى حال، ومن انتباه إلى آخر".
   والشاعر عند نظمه لقصيدة ما تراوده فكرتها الأساسية التي عاشت في مخيلته، وهو يعاني التجربة التي صدر عنها، فيتفاعل معها، ويهتز لها، ويتفتّق لسانه بها، فيرتلها لحناً شعرياً خالداً، متألقاً بالخيال( )، ليثير في المتلقّي ما ثار في نفسه ساعة نظمها. وقد يفتتح القصيدة بلوحة الطلل، أو الغزل، أو الشيب، ثم ينفتح على لوحة الرحلة، ومنها ينفتح على لوحة الغرض.
   والقصيدة الجاهلية بلوحاتها المختلفة- التي تحدثنا عنها- أشبه ما تكون بالعقد الذي يتألف من مجموعة من الجواهر الثمينة ذات الألوان المختلفة، التي ينتظمها خيط واحد، تُسلكُ فيه، وهذا الخيط الذي تُسلك فيه أجزاء القصيدة الجاهلية هو الخيط العاطفي الذي يشدّ تلك الأجزاء بعضها ببعض.
   وتبدو الوَحدةُ النفسيّةُ واضحةً جليّةً في كثير من القصائد الجاهلية، وسنقف عند بعضها:

داليّة الأسود بن يعفرَ النهشليّ :
   نام الخليُّ وما أحسُّ رقادي         والهمُّ محتضر لديّ وسادي
عدّها ابن سلاّم من روائع الشعر، ولو كان الأسود شفعها بمثلها لقدّمه ابن سلام على مرتبته( ).وبلغت هذه القصيدة من الأهميّة أن هارون الرشيد قد أمر بعشرة آلاف درهم لمن ينشد هذه القصيدة( )، ورفض القاضي سوّار شهادة رجل دارميّ- من قوم الشاعر-لأنه لم يكن يحفظ هذه القصيدة( ).
   افتتح الأسودُ قصيدته بذكر الهموم المؤرقة، بعد أن أدركته الشيخوخة، فغدا فريسةً للأرق والسّهاد، فنام كلّ خليّ من الهمّ، أمّا هو فلم يذق للنوم طعماً، بسبب همومه وأحزانه، التي كان يئنّ من كثرتها ، وأدّت إلى انهياره النفسي، وتمزّقه الوجداني، بعدما ابتلي بالعمى، ولم يعد قادراً على التنقل بين الأماكن التي كان له فيها جولات وصولات، إِذ كان فارس تميم في حروبها، فقال( ):
نام  الخليّ وما أُحسُّ  رُقـادي       والهـمّ محتضـرٌ لــديّ وســادي
منْ  غير ما سقم ولكن  شّفني        هـمٌّ أراه  قـد أصــاب  فــؤادي
ومن الحوادث لا أبا لكِ أَنّـني        ضُربتْ  علـيّ  الأرضُ  بالأســدادِ
لا أهتدي فيها لموضع  تلعـةٍ         بين  العــراق  وبين أرض مُــرادِ
   وفي ذِروة التأزّم النّفسي    والمعاناة، انتقل إلى الحديث عن حتمية الموت، فبدا مؤمناً بأنّ الموت نهاية حتمية للإنسان، وانّ الناس صائرون إليه، غنيُّهم وفقيرُهم، عزيزُهم وذليلُهم، قويُّهم وضعيفُهم، فليس الغنيُّ قادراً على الإفلات منه بماله، ولا القوي قادراً على الهرب منه:
ولقدْ علمتُ سوى الذي  نبّأتِني        أنّ السبيـلَ سبيـلُ ذي الأعوادِ
إنّ المنيّةَ والحتوفَ كـلاهمـا        يـوفي المخارمَ يرقبان سـوادي
لن يرضيا منّي وفاء رهينــةٍ       من  دون  نفسي  طارفي وتلادي
   وأنت ترى أن هذه الفكرةَ قد تولّدتْ عن سابقتها تولّداً طبيعيّاً، وبدتْ في الموضع الذي يجب أن تكون فيه، وأضافت إلى هذا العمل الفني شيئاً جديداً.
   ولكي يخفّف الأسود من وقع المأساة على نفسه، نراه يتعزّى بالأمم السّابقة، ويعظ غيره بمن سبقه من الملوك العظام، الذين شهد التاريخ صولاتهم وجولاتهم، فاتعظ بآل محرّق (المناذرة) وبأياد الذين كانوا نموذجاً للعزّ والثراء، والجاه والجود، وبآل غَرْف الذين كانوا رمزاً للقوّة، فما أغنتْ هؤلاءِ قوّتُهم، ولا أغنى أولئك جاههم، وصاروا جميعاً إلى بلى ونفاد :
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق       أهلِ الخورنقِ والسّدير وبارق   أرضا تخيرها لدار أبيهم        جرت الرّياح على مكان ديارهم ولقد غَنُوا فيها بأنعم عيشةٍ      نزلوا بأنقرة يسيلُ عليهمُ        أين الذين بنْوا فطالَ بناؤهم     فإذا النعيمُ وكلُّ ما يُلهى به      في آلِ غَرْف لو بغيْتِ ليَ الأُسى ما بعد زيدٍ في فتاة فُرّقوا        فتخيّروا الأرضَ  الفضاءَ لعزّهم             تركوا منـازلَهـم وبعـد إيـادِ  والقصير ذي الشّرفاتِ من سندادِ  كعبُ بنُ مامة وابن أُمّ دُؤادِ      فكأنّما كانوا على ميعادِ           في ظلّ مُلْك ثابت الأوتادِ        ماءُ الفراتِ يجيء من أطوادِ     وتمتّعوا بالأهل والأولادِ          يوماً يصير إلى بلى ونفادِ        لوجدتِ فيهم أسوة العُدّادِ         قتلاً وَنَفْياً بعد حسْن تآدي         ويزيـدُ رافدهـم علـى الرفّـادِ
        
        
        
        
        
        
        
        
        
        
   فالعاطفة الحزينة ما زالت مسيطرة على الشاعر، بَيْد أننا سنلحظ ظهور عواطفَ جديدةٍ، في القصيدة، متفرعة عن العاطفة المركزية، التي كانت قوة دافعة للشاعر لنظم القصيدة.
   وفي غمرة التردّي باليأس، لا بدّ للشّاعر من الارتداد إلى الماضي، والحديث عن تجاربه في الحياة، شأنه شأن أي إنسان يصبح ضعيفاً بعد قوة، وذليلاً بعد عزّ، وفقيراً بعد غنى. فيعود إلى الذاكرة، فتعيد إليه شريط الماضي مصوِّراً، فيصف مجالس الخمر التي كان يغشاها، ويركّز عدسته الفنيّة على ما كان يدور في تلك المجالس، حتى يشعر القارئ وكأن الشاعر يصف مجلساً يحضره للتوّ، ولم يرفع ريشته عن تلك اللوحة حتى نقلها بأدقّ التفاصيل، فإذا نحن أمام فتيات نواعم جميلات، يفتنّ الأفئدة، ويسبين القلوب، يطفْنَ على الندامى بالشراب، يتلألأن كأنّهن البدور والدُّمى، إشراقاً وقواماً، ينطقْن حديثهنّ تهامساً، فبلغن ما أردْنَ دونما تعب ولا مشقّة، فيشرب الندامى الخمر من أيديهن وأفواههن، فيسكرون، وينتشون  بخمر الأقداح، وحديث الأفواه:
إمّا   َتريْني  قد بليـتُ  وغاضنـي  ما نيل من بَصري ومن أجلادي
وعصيْتُ أصحابَ الصّبابةِ والصّبا    وأطعتُ  عاذلتي  ولان  قيـادي
فلقد  أروح  على  التّجار  مُرَجّلاً     مَذِلاً  بمالـي   ليّنـا  أجيـادي
ولقد   لهوتُ  وللشـباب  لـذاذةٌ     بسُلافةٍ  مُزجتْ  بماء  غـوادي
من خمر ذي نَطَفٍ أغنَّ منطّـق             وافى  بها  لدراهـمِ   الأسجـادِ
يسعى  بها  ذو تومتيـن مشمّـرٌ     قَنـأت أناملُـهُ مـن الفِرْصـادِ
والبيضُ  تمشي كالبدور وكالدّمى      ونواعـمٌ  يمشيـن  بالأرفــادِ
والبيضُ  يَرمينَ  القلوب  كأنّهـا     أدحيُّ  بين  صَريمةٍ  وجَمــادِ
ينطقنْ  معروفاً  وهنّ  نواعــم     بيضُ  الوُجوهِ  رقيقةُ   الأكبـادِ
ينطقن  مخفوضَ  الحديثِ تهامساً     فبلغنَ  ما  حاولْنَ  غير تنـادي
   ويزهو الشاعر بماضيه، ليتعوّض به عن حاضره، فتسيطر عليه من جديد عاطفة الاعجاب بالذّات، وهي امتداد لعاطفته السابقة، وقد أبرز الشاعر هذه العاطفة من خلال حديثه عن شجاعته وقوة بأسه، وعزته وصلابته، وحديثه عن مرعاه وفرسه، فتراه يتّجه إلى مرعى خصيب مؤنق، يتناذره الآخرون، وينأون عنه، خوفا من أن يصيبهم فيه أذى، أما الشاعر فيقصده للاصطياد آمناً مطمئناً....  ويتنقل بفرس قويّ سريع العَدو، قادر على طلب الوحوش، لا يستطيع أشدّها عدواً أن يفلت منه، لقدرته على الإحاطة بها، فكأنّه قيدٌ لها، فجعل عزّة فرسه من عزّته، وقوّته من قوّته. ويتحدث عن ناقة تجسر على السّير، موثّقة الخَلق، لا تلقح، تشبه العير في صلابتها:
ولقد غــدوت لعــازبٍ   مُتَـنـاذَرٍ            أحـوى  المذانبِ  مُؤْنقِ  الرُوّادِ
جــــــادت سواريه  وآزر نبـتُه            نُفَأٌ مـــنَ  الصّفراء والزُبـّادِ
بالــجوّ فالأمراتِ حــَوْلَ مُغامــرٍ            فبضارحِ فـقميصــة الطُـرّادِ
بمٌشــَمّرِ عتدٍِ  جــَهيزٍ  شَــــدُّهُ            قَيْــدِ  الأوابد  والرّهـانِ جَوادِ
يشوي  لنا  الوَحَـدَ  المـدِلّ بحضـره             بشَرَيجِ  بَينَ  الشـدّ والايــرادِ
ولَقــــدْ تلوْتُ  الظّاعنين  بجسـَرَةٍ             أُجُــدٍ مَهاجرةِ السّقابِ  جَمـادِ
عيرانةٍ ســـدّ الرّبيع  خصاصهــا             ما يستبينُ   بهـا مقيـل  قـرادِ
المرثاة الغزليّة لدريد بن الصمّة :
   تعدّ مرثاة دريد الغزلية من عيون الشّعر العربي، نظمها في رثاء أخيه عبد الله الذي قتل في يوم اللّوى مع فرسانٍ آخرين .
   وافتتح دريد قصيدته بمقدمة في الغزل، تحدّث فيها عن زوجه، أُم معبد، التي كانت كثيرة اللوم له لحزنه الشديد على أخيه عبد الله. وأشار دريد قي قصيدةٍ أٌخرى( )، إلى أنها سبّت أخاه، وصغّرت شأنه فطلّقها. وقد أشار إلى مفارقته لها في مطلع القصيدة، فقال ( ):
أرثّ جديد الحبل  من  أمّ معبـد         بعاقبـة وأخلفـتْ كـلّ موعــدِ
وبانتْ ولم أُحمدْ  اليـك  جوارها        ولـم تـرجُ فينا ردّة اليوم أوغـدِ
من الخفرات لا  سقوطا  خمارُها        إذا برزت ولا خـروجَ  الـمقيّـدِ
وكـلَّ تبـاريح  الـمحبّ  لقيتُهُ         سوى أنني  لم ألْقَ حتفي بمرصـدِ
إلى أنْ يقول :
أعاذلَ مهلا بعض لومكِ واقصدي        وإنْ كان علمُ الغيب  عندكِ  فارشدي
أعاذلتي كل امرئ وابـنُ   أمِّـهِ        متاعٌ كزاد الـراكـب   المتــزوّدِ
أعاذلَ إنّ الرزء في مثـلِ خالـد        ولا رزءَ فيمـا أهلـكَ المرءُ عن يدِ



بنية القصيدة العربية الجاهلية
بناء القصيدة الجاهلية - فكر وثقافة
أثر الثقافة في بناء القصيدة الجاهلية
البناء الفني للقصيدة الجاهلية
البناء الفني للقصيدة العربية
بناء القصيدة العربية يوسف بكار
بنية القصيدة الجاهلية
بنية القصيدة العربية عند زهير بن ابي سلمى
بنية القصيدة الجاهلية من خلال معلقة عنترة بن شداد
بنية القصيدة الجاهلية ريتا عوض
نظام القصيده الجاهليه
خصائص القصيدة الجاهلية


Previous Post Next Post